معركة جديدة لكيان الاحتلال

 الخوارزميات.. أداة صهيونية لتطويع الرأي العام الأميركي

 مشروع «استير» ليس مجرد حملة دعائية، بل مؤشر على مرحلة جديدة من الصراع، تُستخدم فيها التكنولوجيا لتطويع الإدراك، وتُطرح فيها أسئلة أخلاقية حول حيادية الذكاء الاصطناعي

منذ تأسيسه عام 1948، سعى كيان العدو الصهيوني إلى بناء تحالف استراتيجي وثقافي مع الولايات المتحدة، تجاوز الأبعاد السياسية ليشمل التأثير على الرأي العام الأميركي. في العقود الأولى، كان التأييد الأميركي شبه مطلق، مدفوعًا بعوامل دينية وثقافية، لكن هذا التأييد بدأ يتصدع مع ظهور الإعلام المصوّر الذي كشف فظائع مثل مجازر صبرا وشاتيلا، ما أحدث شرخًا في صورته لدى قطاعات من الأميركيين، خاصة المثقفين والناشطين.

 

في التسعينيات، ومع تصاعد الانتفاضة الفلسطينية، لجأ كيان الاحتلال إلى أدوات دعائية أكثر تنظيمًا، مستخدما شركات علاقات عامة ومراكز أبحاث أميركية لترويج روايته. ومع دخول الإنترنت، بدأت مرحلة جديدة من التأثير الرقمي، إذ أنشأ العدو منصات إلكترونية تُهاجم الروايات الفلسطينية وتُعيد إنتاج صورته كدولة ديمقراطية متقدمة.

 

لكن التحول الأعمق جاء بعد 2008، مع صعود وسائل التواصل الاجتماعي، وظهور جيل «زد» الأميركي، الذي أظهر وعيًا حقوقيًا متقدمًا، وبدأ يُشكك في الرواية الصهيونية، خاصةً مع انتشار فيديوهات توثق الانتهاكات في غزة والضفة. هذا الجيل، الذي يُعبّر عن مواقفه بحرية عبر تويتر وتيك توك، بات يشكل تحديًا حقيقيًا لكيان العدو، الذي وجد نفسه أمام جمهور لا يُقنعه الخطاب التقليدي.

 

في هذا السياق، أدرك العدو أن أدواته القديمة لم تعد فعالة، وأنه بحاجة إلى استراتيجية جديدة تُخاطب هذا الجيل بلغته، وتُستخدم فيها أدوات أكثر تطورًا، مثل الذكاء الاصطناعي والمؤثرين الرقميين. وهكذا وُلد مشروع «استير»، كأداة دعائية متقدمة تهدف إلى إعادة تشكيل الوعي الأميركي، واستعادة التأييد الشعبي المتآكل.

 

مشروع «استير»؛ منظومة دعائية رقمية

 

في مواجهة التراجع الشعبي الأميركي تجاه كيان العدو الصهيوني، أطلق الأخير مشروع «استير» كحملة دعائية رقمية متطورة تهدف إلى إعادة تشكيل الوعي الأميركي، خاصةً لدى الجيل «زد». المشروع يُدار من قبل شركة «بريدجز بارتنرز»، ويُقدّم نفسه كجهد ثقافي، لكنه في جوهره يُوظف أدوات تأثير إعلامية ونفسية دقيقة.

 

بميزانية تصل إلى 900 ألف دولار، يُنفذ المشروع على مراحل تبدأ بتوظيف مؤثرين أميركيين لنشر محتوى شهري مكثف يُروّج للرواية الصهيونية بأسلوب عاطفي وثقافي. المرحلة التالية تشمل توسيع الإنتاج، التعاون مع وكالات تسويق، وتكثيف الحملات الإعلانية لخلق زخم رقمي واسع يُعيد تشكيل التصورات العامة ويُضعف الروايات المناهضة للاحتلال.

 

ما يُميز «استير» عن الحملات السابقة هو امتداده إلى بنية المعلومات نفسها، إذ لا يقتصر على مخاطبة الجمهور، بل يسعى للتأثير على المنصات التي تُشكّل وعيه، مثل محركات البحث ونماذج الذكاء الاصطناعي. هذا التحول يُظهر مدى تطور أدوات التأثير الصهيوني، ويُجسد انتقالًا من الدعاية التقليدية إلى هندسة الإدراك الرقمي.

 

الذكاء الاصطناعي؛ سلاح دعائي جديد

 

تحوّل الذكاء الاصطناعي من مجرد تقنية إلى أداة دعائية استراتيجية تُستخدم في تشكيل الرأي العام، وهو ما أدركه كيان العدو الصهيوني مبكرًا في سياق مشروع «استير». عبر عقد بقيمة 6 ملايين دولار مع شركة «كلوك تاور»، يسعى كيان الاحتلال للتأثير على نماذج الذكاء الاصطناعي مثل «شات جي بي تي»، وذلك عبر إنتاج محتوى مُصمم خصيصًا لإعادة برمجة استجابات هذه النماذج حول القضايا المتعلقة بكيان العدو وفلسطين.

 

الاستراتيجية لا تقتصر على النماذج، بل تمتد إلى محركات البحث، إذ تُستخدم أدوات مثل «MarketBrew AI» لتوجيه نتائج البحث نحو المحتوى المؤيد لكيان العدو، مما يُضعف من وصول الروايات البديلة. كما تُنشئ الشركة مواقع إلكترونية تُغذي الذكاء الاصطناعي بمحتوى منحاز، يُعيد تشكيل فهمه للقضايا السياسية.

 

الخطورة تكمن في أن هذا التأثير يتم بشكل غير مرئي، إذ لا يُدرك المستخدم أن وعيه يُعاد تشكيله عبر خوارزميات موجهة. في هذا السياق، يُعد مشروع «استير» نموذجًا متقدمًا لاستخدام الذكاء الاصطناعي كسلاح دعائي، يُعيد تعريف الحرب الإعلامية في العصر الرقمي.

 

أداة لإعادة تشكيل الإدراك الأميركي

 

يشكّل المحتوى الدعائي جوهر مشروع «استير»، إذ يُستخدم كوسيلة مباشرة لإعادة تشكيل إدراك الجمهور الأميركي تجاه كيان العدو والصراع الفلسطيني. يُنتج هذا المحتوى وفق معايير نفسية وثقافية دقيقة، تُراعي طبيعة الجيل «زد»، وتُغلف الرسائل السياسية بطابع إنساني وثقافي يُثير التعاطف غير المباشر.

 

في المرحلة الأولى، يُكلف المؤثرون بنشر محتوى متنوع لا يُظهر السياسة بشكلٍ مباشر، بل يُبرز كيان العدو كدولة مبتكرة ومسالمة. كما تُمارس الحملة «هجومًا وقائيًا» عبر منشورات تُشكك في الروايات الفلسطينية وتُضعف مصداقيتها، خاصةً في مواجهة الحملات الطلابية والمحتوى التوثيقي المنتشر.

 

تُستخدم أيضًا «القصص المصغّرة» لتقديم روايات شخصية تُعزز التعاطف، ويُربط كيان العدو بالقيم الأميركية مثل الحرية والديمقراطية، في مقابل تصوير الفلسطينيين كتهديد لهذه القيم. لكن رغم هذا التنوع، يواجه المحتوى تحديات كبيرة أمام الروايات المضادة التي تُوثق الانتهاكات بشكلٍ مباشر، وتنتشر عبر منصات غير خاضعة للرقابة، مما يُضعف من قدرة الحملة على السيطرة على السردية العامة. وهكذا يُعد مشروع «استير» محاولة متقدمة لإعادة تشكيل الإدراك، لكنه يواجه مقاومة قوية من روايات أكثر واقعية، وأكثر قدرة على إثارة التعاطف الشعبي.

 

ردود الفعل الأميركية؛ رفض شعبي وتواطؤ سياسي

 

كشف مشروع «استير» عن انقسام واضح في المجتمع الأميركي بين جمهور واعٍ يُقاوم التلاعب الرقمي ونخب سياسية تُراهن على استمرار التحالف التقليدي مع كيان العدو الصهيوني. على المستوى الشعبي، جاءت ردود الفعل غاضبة، خاصةً من الطلاب والنشطاء الذين اعتبروا المشروع محاولة لتزييف الوعي وتطويع المنصات الرقمية. انتشرت حملات مضادة على منصات مثل تويتر وتيك توك، تُندد بالمؤثرين المشاركين وتُطالب بالشفافية.

 

في المقابل، التزمت معظم النخب السياسية، خصوصًا من الحزب الجمهوري، الصمت أو التبرير، معتبرة المشروع جزءًا من «التعاون الثقافي». لكن أصواتًا تقدمية مثل «رشيدة طليب» و«إلهان عمر» عبّرت عن قلقها من استخدام الذكاء الاصطناعي في التلاعب بالرأي العام، واعتبرت المشروع تهديدًا للديمقراطية الأميركية.

 

كما أصدرت مؤسسات حقوقية وتقنية تقارير تُحذر من خطورة استخدام الذكاء الاصطناعي في الحملات الدعائية، وطالبت بضوابط قانونية تُنظم هذا النوع من التأثير. هذه الردود تُظهر أن المشروع لم يمر مرور الكرام، بل أثار نقاشًا واسعًا حول مستقبل الإعلام الرقمي وحدود التأثير السياسي في العصر الرقمي.

 

التحديات المستقبلية واحتمالات النجاح أو الفشل

 

رغم ضخامة تمويل مشروع «استير» وتطوره التكنولوجي، إلا أن نجاحه يواجه تحديات جوهرية. أبرزها وعي الجيل «زد»، الذي يُظهر حساسية عالية تجاه القضايا الحقوقية، ويُفضّل المحتوى التوثيقي على الدعاية المموّلة. هذا الجيل لا يكتفي بالمحتوى الرسمي، بل يبحث عن مصادر بديلة ويُعبّر عن مواقفه بحرية عبر المنصات الرقمية.

 

البيئة الرقمية نفسها تُصعّب مهمة السيطرة على السردية، في ظل انتشار المحتوى البديل والمنصات المستقلة. كما أن كشف تفاصيل العقود والتمويل يُضعف مصداقية الحملة، ويُثير تساؤلات أخلاقية حول استخدام الذكاء الاصطناعي في التلاعب بالرأي العام.

 

من جهةٍ أخرى، قد يواجه المشروع تحديات قانونية، خاصةً إذا اعتُبر تدخلًا أجنبيًا في تشكيل الرأي العام الأميركي. ورغم هذه العقبات، يراهن كيان العدو على التأثير التراكمي للمحتوى الممنهج، وعلى قدرته على إعادة تشكيل التصورات بمرور الوقت.

 

في المحصلة، يُجسد مشروع «استير» صراعًا بين أدوات التأثير التكنولوجي ووعي شعبي متزايد، ويُظهر أن المعركة على الإدراك لم تُحسم بعد، بل تتطور في بيئة إعلامية متغيرة ومعقدة.

 

الحملات الرقمية بين إعادة تشكيل الصراع وتحديات الوعي العالمي

 

في عصر الإعلام الرقمي، لم يعد الصراع الفلسطيني الصهيوني محصورًا في الجغرافيا أو السياسة، بل امتد إلى الفضاء المعلوماتي، حيث تُخاض معارك الرواية والتأثير عبر المحتوى والخوارزميات. مشروع «استير» يُجسد هذا التحول، بوصفه محاولة متقدمة للكيان لإعادة تشكيل الوعي الأميركي باستخدام أدوات مثل الذكاء الاصطناعي والمؤثرين الرقميين.

 

لكن هذه المحاولة تواجه واقعًا أكثر تعقيدًا، يتمثل في وعي شعبي متزايد، خاصةً بين الشباب الأميركي، الذي يُظهر استعدادًا لمساءلة الروايات الرسمية، ويبحث عن مصادر بديلة أكثر صدقًا وشفافية. كما أن المنصات الرقمية، رغم محاولات التوجيه، لا تزال تحتفظ بقدر من الحرية يُتيح للروايات الفلسطينية أن تُعبّر عن نفسها وتُثير التعاطف العالمي.

 

يُعتبر مشروع «استير» ليس مجرد حملة دعائية، بل مؤشر على مرحلة جديدة من الصراع، تُستخدم فيها التكنولوجيا لتطويع الإدراك، وتُطرح فيها أسئلة أخلاقية حول حيادية الذكاء الاصطناعي، وحرية التعبير، ومستقبل الديمقراطية الرقمية. نجاح المشروع أو فشله لا يتوقف فقط على أدواته، بل على قدرة الجمهور العالمي على التمييز والمقاومة، وعلى قدرة الرواية الفلسطينية على الاستمرار في فضح الحقيقة، رغم كل محاولات التعتيم.

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص

الاخبار ذات الصلة