د. أكرم شمص
في زمنٍ تتكاثر فيه الروايات عن الانكسار، وتتناسل فيه التوقّعات عن تعب البيئة وتراجع حضور المقاومة، خرج لبنان من صمته ليقدّم للعالم مشهدًا بحجم التاريخ والإيمان معًا.
من الجنوب المقاوم إلى البقاع الهادر، ومن الضاحية إلى الشمال، تدفّقت الوفودُ الكشفيّة حاملةً رايات الإمام المهدي(عج) إلى جانب العلم اللبناني، في لوحةٍ وطنيةٍ أعادت رسم صورة المجتمع الذي أراد البعض طمسه أو إضعافه.
لم يكن الاستعراض مجرّد حدثٍ تربويٍّ أو عرضٍ تنظيميّ، بل رسالة سياسية – روحية مركّبة تقول بوضوح: هذه بيئةٌ مازالت حيّة، وهذه أجيالٌ لم تنسَ مَن ربّاها على الصبر والانتصار.
إنّه التجمُّع الكشفي الأكبر في تاريخ لبنان وربما في تاريخ الحركة الكشفية عالميًّا، حيث احتشد 74,475 كشفيًّا وكشفيّة من جمعية كشّافة الإمام المهدي(عج) في المدينة الرياضية في بيروت تحت شعار «أجيال السيّد»، في عرضٍ مهيبٍ اختلط فيه النظام بالرمز، والطفولة بالرسالة، والإيمان بالفعل السياسيّ الميدانيّ. غير أنّ ما كان يُرى فوق الأرض لم يكن سوى المظهر الخارجيّ لقصةٍ أعمق من مجرّد عرضٍ كشفيٍّ منظم.
إنّها قصةُ بيئةٍ تربّت على الانتظار الفاعل، ومجتمعٍ يصرّ على أنّ الإيمان ليس طقسًا بل سلوكًا، وأنّ المقاومة ليست بندقية فقط، بل منظومة وعيٍ متكاملةٍ تزرع في كل بيتٍ قناعةً بأن النصر لا يُمنح، بل يُصنع.
المبايعة للشيخ نعيم قاسم: استمرارية القيادة ووحدة المسار
في خضمّ الحشود المهيبة التي ملأت المدينة الرياضية، برزت اللحظة المفصلية في المبايعة العلنية للأمين العام لحزب الله سماحة الشيخ نعيم قاسم، والتي لم تكن مجرّد إجراءٍ رمزيٍّ أو مشهدٍ بروتوكوليّ، بل تجديدًا عميقًا للولاء وتجسيدًا عمليًا لاستمرارية القيادة ووحدة المسار بعد رحيل الشهيد الأسمى السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه).
كانت البيعة رسالةً واضحةً بأنّ الراية لم تسقط، بل انتقلت بأمانةٍ إلى يدٍ لا تقلّ ثباتًا أو صلابة، وأنّ الخطّ الذي رُسِم بالدم سيُستكمل بالوعي والإرادة.
خاطب الشيخ قاسم الكشفيين بصفاء الأب وعمق المربي، مؤكدًا أن كشافة الإمام المهدي(عج) «هي الكشافة التي تعمل لتربية الأجيال من أجل الوصول إلى الأسمى، وهي نورُ هدايةِ الشباب إلى النموذج التربوي الأسمى… أنتم المستقبل المشرق، أنتم أجيالُ السيّد».
ثمّ مضى مبيّنًا أن المقاومة ليست خيارًا عسكريًا فحسب، بل مشروعًا تربويًا وثقافيًا وأخلاقيًا وسياسيًا، وأنها تبدأ من جهاد النفس قبل مواجهة العدوّ، لأنها “قوةُ إيمانٍ وإرادةٍ وموقفٍ وصمودٍ وعزٍّ واستقلال.”
وفي وصيّةٍ أبويةٍ نابضة بالعاطفة والقداسة، دعاهم إلى «الإيمان الخالص لله، وبرّ الوالدين، والتحصيل الديني والعلمي، وأن يكونوا من جند الإمام المهدي(عج) »، قبل أن يختم بالقول: «لي الفخر أن أكون بينكم، أحبّكم، وأتمنى أن نكون معًا بانتظار الإمام المهدي (عج) ».
لقد كانت تلك اللحظة نقطة التقاءٍ بين الأجيال الثلاثة للمقاومة: جيل المؤسسين، وجيل القادة، وجيل الأبناء، إذ أعادت صياغة المعنى الأعمق للولاء، ولاءٌ يتجاوز الأشخاص إلى الفكرة، ويتخطّى المرحلة إلى الرسالة، ويؤكد أنّ خطّ السيّد باقٍ حيٌّ في الأجيال التي تربّت على نوره وهَدْيه.
الجرحى في الصفوف الأولى.. والرسالة التي لا تُكسر
بين الأعلام والصفوف المنتظمة، برز الجرحى الكشفيون، ولا سيّما جرحى «البيجر»، الذين اختاروا أن يكونوا في مقدّمة الاستعراض لا في مقاعد المتفرجين، ليقولوا للعالم إنّ الجراح في ثقافتهم ليست عجزًا بل شرف، وإنّ الألم يمكن أن يتحوّل إلى طاقة نورٍ تسقي الأجيال. كانت وجوههم المضيئة تختصر الرواية كلّها: جيلٌ قاتل، وجيلٌ جُرح، وجيلٌ يتعلّم أنّ الكرامة تُصنع بالثمن لا بالخطاب. هذا المشهد جسّد المعنى الأوسع الذي عبّر عنه سماحة الشيخ نعيم قاسم حين قال: «أنتم على خيار المقاومة، ونحن نقصد المقاومة الأشمل والأوسع، فهي خيارٌ تربويٌّ ثقافيٌّ أخلاقيٌّ سياسيٌّ».. فالمقاومة هنا لا تختزل في مواجهة العدو بالسلاح، بل في بناء الإنسان المقاوم في فكره وسلوكه وانتمائه؛ ولهذا تبدو كشّافة الإمام المهدي(عج) أبعد من كونها جمعية كشفية تقليدية، إنها مشروع مجتمعٍ مقاومٍ بكل معنى الكلمة، يصوغ الوعي منذ الطفولة ليصنع جيلًا لا يعرف الاستسلام ولا الهزيمة. هذه الرؤية التي رسّخها حزب الله منذ عقود تتجدّد اليوم بقوّةٍ مضاعفة بعد محاولاتٍ متكرّرةٍ لفصل المقاومة عن بيئتها وتشويه صورة انخراط الشباب فيها، فجاء الردّ من الميدان نفسه: عشرات الآلاف من الفتيان والفتيات المنضبطين الذين يمثّلون وجه المقاومة التي تصلّي وتتعلم وتزرع وتحمي في آنٍ واحد.
المشهد في عيون العدوّ والدلالات السياسية والاجتماعية
لم يكن التجمّع الكشفيّ المهيب حدثًا عابرًا في لبنان، بل مشهدًا مدوّيًا حمل أصداءه إلى الداخل والخارج معًا. فقد أكّد الحدثُ تعافي المقاومة بعد عامين من الحرب والاستهدافات والاغتيالات والحملات الإعلامية، وأثبت أنّها مازالت قادرةً على استنهاض جمهورها وتنظيم عشرات الآلاف من الفتية والشباب في لوحةٍ من الانضباط والإيمان والولاء. وكان تعبيرًا صادقًا عن الثقة المتبادلة بين القيادة والبيئة الشعبية، إذ انخرط الأهالي بأنفسهم في إرسال أبنائهم والمشاركة في التنظيم، ما دلّ على أنّ الرابط بين الحزب وبيئته لم يُكسر، بل ازداد متانةً وعمقًا.
كذلك شكّل المشهد رسالةً إلى العدوّ بأنّ الجيل الجديد لم يُربَّ على الخوف، بل على الثبات والإيمان بالوعد الإلهي؛ بل إنّ هؤلاء الكشفيين باتوا -بقول الشهيد الأسْمَى- هم الذين يُرعبون العدوّ بوعيهم وإيمانهم قبل سلاحهم. وعليه ركّزت وسائل إعلام صهيونية إلى وصف هذا التجمع بـ«عرضٍ للقوّة في قلب لبنان يؤكّد أن حزب الله لم ولن يُسلّم سلاحه»، واعتبرت كشافة الإمام المهدي(عج) «أخطر الأذرع التربوية التي تخرّج المقاتلين الذين يهدّدون وجود الكيان».
ولعلّ هذا الوصف -رغم عدائيته- يُشكّل اعترافًا ضمنيًّا بخطورة الجيل التربويّ الجديد، لا لكونه يحمل السلاح فقط، بل لأنّه يحمل العقيدة والفكر والإيمان بالنصر. فـالخطر الحقيقي بالنسبة للعدوّ ليس في الصواريخ وحدها، بل في المدرسة التي تصنع الرجال الذين يطلقونها، وفي الأجيال التي تُربَّى على الثبات والكرامة واليقين.
الخاتمة: لبنان يُعيد تعريف ذاته
ما جرى في المدينة الرياضية لم يكن احتفالًا عابرًا أو نشاطًا داخليًا لجمعيةٍ أو حزب، بل حدثًا وطنيًّا جامعًا أعاد إلى لبنان صورته الحقيقية التي حاول كثيرون تشويهها. ففي زمن الانهيار المالي والسياسي والاجتماعي، خرج من بين الركام لبنان آخر: لبنان التنظيم والإيمان والولاء والانضباط، لبنان الذي يعرف كيف يصنع الفرح من قلب الألم، ويحوّل الخطر إلى مناسبةٍ للنهضة والتجدد. لقد أراد البعض أن يكتب نهاية الحكاية، فإذا بالجيل الجديد يكتب فصلاً جديدًا منها، جيلٌ يهتف بثقةٍ ووعي: «حن أجيالُ السيّد، وأبناءُ الأمين القاسم، على العهد باقون».
هؤلاء هم الجيل الذي وعد السيّد بأنه سيحمل الراية حتى ظهور الإمام المنتظر(عج)، الجيل الذي يُعيد للبنان وجهه المقاوم والإنساني في آنٍ واحد، ويؤكد أن هذا الوطن لا يُختزل بالأزمات، بل يُقاس بقدرته على النهوض من تحتها.
ولعلّ الرسالة الأبلغ التي حملها هذا اليوم التاريخي هي أنّ الأمم التي تُربّي أبناءها على الإيمان والانضباط لا تُهزم، وأنّ البيئة التي راهنوا على إنهاكها مازالت -كما وصفها السيّد يومًا- «أشرف الناس، وأطهر الناس، وأكرم الناس».