أزمة اقتصادية أم بداية مواجهة استراتيجية؟

المعادن النادرة.. سلاح الصين الجديد في وجه أوروبا

 ما تقوم به الصين اليوم لا يقتصر على الدفاع عن مصالحها التجارية، بل هو محاولة لإعادة تعريف قواعد اللعبة الاقتصادية العالمية

في عالم تتشابك فيه المصالح الاقتصادية مع التوازنات الجيوسياسية، لم تعد الموارد الطبيعية مجرد عناصر خام تُستخدم في الصناعة، بل تحولت إلى أدوات ضغط واستراتيجيات نفوذ. هذا ما كشفته الأزمة الأخيرة بين الصين والاتحاد الأوروبي، بعد أن أعلنت بكين فرض قيود جديدة على صادرات تكنولوجيا المعادن النادرة، ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى البحث عن «رد منسق» مع مجموعة السبع. هذه الخطوة الصينية لم تكن مجرد إجراء تنظيمي، بل إعلان صريح بأن بكين مستعدة لاستخدام مواردها الاستراتيجية في معركة النفوذ العالمي، وهو ما يضع أوروبا أمام تحدٍ غير مسبوق.

 

المعادن النادرة.. سلاح استراتيجي

 

 

لطالما كانت الصين المنتج الأول عالمياً للمعادن النادرة، وهي مجموعة من العناصر الكيميائية تُستخدم في صناعة الهواتف الذكية، السيارات الكهربائية، توربينات الرياح، وحتى أنظمة التوجيه في الأسلحة. هذا الاحتكار منح بكين نفوذاً هائلاً، خصوصاً في ظل اعتماد الغرب المتزايد على هذه المواد. منذ أبريل/ نيسان 2025، بدأت الصين تطبيق نظام ترخيص صارم لصادرات هذه المعادن، يتطلب من الشركات الأجنبية تقديم تفاصيل دقيقة عن عملياتها الإنتاجية. وفي أكتوبر/ تشرين الأول، وسّعت بكين هذه القيود لتشمل تقنيات التكرير والاستخدامات المتعلقة بأشباه الموصلات، ما اعتبره الاتحاد الأوروبي استهدافاً مباشراً للصناعات المدنية.

 

الاتحاد الأوروبي في موقف دفاعي

 

رد فعل الاتحاد الأوروبي جاء سريعاً، لكنه حمل في طياته الكثير من الحذر. مفوض التجارة الأوروبي ماروس سيفكوفيتش أعلن يوم الثلاثاء للصحافيين بعد اجتماع وزاري في الدنمارك أن القيود الصينية «أجبرت عدداً من الشركات الأوروبية على تعليق الإنتاج»، مؤكداً أن الاتحاد «لا يمكنه التسامح مع هذه الإجراءات». لكنه في الوقت نفسه شدد على ضرورة التنسيق مع مجموعة السبع، وعلى التواصل مع السلطات الصينية «لإيجاد حلول». هذا التوازن بين التصعيد والدبلوماسية يعكس إدراك أوروبا لحجم التحدي، ولتعقيدات العلاقة مع الصين، التي تُعد شريكاً اقتصادياً أساسياً، لكنها أيضاً منافس استراتيجي.

 

الصناعات الأوروبية في مرمى الأزمة

 

القيود الصينية جاءت في وقت حساس بالنسبة لأوروبا، إذ تشهد القارة تحولات كبيرة في قطاع السيارات نحو الكهرباء، وتوسعاً في الصناعات الرقمية. المعادن النادرة تُستخدم في البطاريات، المحركات، والرقائق الإلكترونية، ما يجعل أي اضطراب في توفرها تهديداً مباشراً لهذه القطاعات. شركات أوروبية في ألمانيا وفرنسا أعلنت بالفعل تعليق بعض خطوط الإنتاج، في انتظار وضوح الصورة. هذا التوقف لا يعني فقط خسائر مالية، بل أيضاً تراجعاً في القدرة التنافسية أمام شركات آسيوية وأميركية قد تكون أقل تأثراً بالقيود.

 

مجموعة السبع.. تنسيق أم تحالف؟

 

الاتحاد الأوروبي يعوّل على التنسيق مع مجموعة السبع، التي تضم الولايات المتحدة، اليابان، وكندا، وغيرها من القوى الاقتصادية. هذا التنسيق قد يشمل الضغط الدبلوماسي على الصين لتخفيف القيود، إنشاء مخزون استراتيجي من المعادن النادرة، أو دعم مشاريع استخراج وتكرير خارج الصين. لكن فعالية هذا التنسيق تعتمد على وحدة الموقف بين الدول الأعضاء، وهو أمر ليس مضموناً دائماً، خصوصاً في ظل اختلاف المصالح التجارية والسياسية. فبينما ترى الولايات المتحدة في الصين خصماً استراتيجياً، تميل بعض الدول الأوروبية إلى الحفاظ على علاقات متوازنة مع بكين.

 

التكنولوجيا في قلب النزاع

 

القيود الصينية لا تستهدف فقط المواد الخام، بل أيضاً تقنيات التكرير والاستخدامات المرتبطة بأشباه الموصلات. هذا يعني أن الصين لا تكتفي بالتحكم في الموارد، بل تسعى أيضاً للسيطرة على المعرفة التقنية المرتبطة بها. هذا التوجه يثير مخاوف في أوروبا من أن تتحول الصين إلى مركز احتكار تكنولوجي، ما يدفع الاتحاد إلى التفكير في استثمارات ضخمة في البحث والتطوير، وتعزيز التعاون مع دول مثل كوريا الجنوبية وتايوان، التي تملك خبرات متقدمة في هذا المجال.

 

هل من خيارات واقعية أمام أوروبا؟

 

أمام هذا الواقع، يملك الاتحاد الأوروبي عدة خيارات، لكنها جميعاً تحمل تحديات كبيرة. الرد بالمثل عبر فرض قيود على صادرات أوروبية إلى الصين قد يؤدي إلى تصعيد غير مرغوب. التفاوض مع بكين يتطلب تنازلات قد تكون مكلفة سياسياً. أما التكيّف، عبر الاستثمار في بدائل للمعادن النادرة، وتطوير تقنيات تقلل من الاعتماد عليها، فهو خيار طويل الأمد يحتاج إلى إرادة سياسية واستثمارات ضخمة. في كل الأحوال، يبدو أن أوروبا مطالبة اليوم بإعادة التفكير في نموذجها الاقتصادي، الذي لطالما افترض أن التجارة تقود إلى التفاهم، وأن الاعتماد المتبادل يمنع التصعيد.

 

أزمة تكشف الإهمال الاستراتيجي

 

ما تكشفه هذه الأزمة ليس فقط هشاشة سلاسل التوريد الأوروبية، بل أيضاً التبعية العميقة التي ترسخت على مدى عقود في قطاعات حيوية. فالاتحاد الأوروبي، رغم قوته الاقتصادية، لم يستثمر بما يكفي في تطوير مصادره الخاصة من المعادن النادرة أو في تقنيات معالجتها. هذا الإهمال الاستراتيجي جعل القارة عرضة للابتزاز التجاري، وأضعف قدرتها على اتخاذ قرارات مستقلة في لحظات التوتر. اليوم، تجد أوروبا نفسها مضطرة لإعادة النظر في أولوياتها الصناعية، ليس فقط من أجل مواجهة الصين، بل لضمان أمنها الاقتصادي في عالم يتجه نحو التكتلات والانغلاق.

 

المعركة المقبلة لم تُحسم بعد

 

إذا أرادت أوروبا أن تتجاوز هذه الأزمة، فعليها أن تتبنى سياسة صناعية جديدة، تقوم على الاستثمار في الابتكار، تنويع مصادر المواد الأولية، وتعزيز الشراكات مع دول موثوقة. هذه السياسة يجب أن تكون شاملة، لا تقتصر على المعادن النادرة، بل تمتد إلى كل ما يشكل العمود الفقري للتكنولوجيا الحديثة. فالمعركة المقبلة لن تُحسم فقط في غرف التفاوض، بل في المختبرات، المصانع، ومراكز الأبحاث. أوروبا تملك الإمكانات، لكنها بحاجة إلى إرادة سياسية موحدة، ورؤية استراتيجية طويلة الأمد، تضع الاستقلال الصناعي في صلب مشروعها المستقبلي.

 

الصين تعيد تعريف قواعد اللعبة

 

ما تقوم به الصين اليوم لا يقتصر على الدفاع عن مصالحها التجارية، بل هو محاولة لإعادة تعريف قواعد اللعبة الاقتصادية العالمية. من خلال التحكم في الموارد الحيوية وفرض شروط صارمة على استخدامها، ترسل بكين رسالة واضحة مفادها أن زمن الهيمنة الغربية على سلاسل الإنتاج قد انتهى، وأن من يملك المواد الخام والتقنيات الأساسية هو من يحدد الإيقاع. هذا التحول يضع أوروبا أمام خيارين: إما أن تواكب التغيرات وتعيد بناء منظومتها الصناعية، أو أن تظل رهينة لتقلبات القوى الكبرى.

 

معركة حول من يملك مفاتيح المستقبل

 

في نهاية المطاف، الأزمة الحالية قد تكون فرصة للاتحاد الأوروبي لإعادة بناء استراتيجيته الصناعية، وتعزيز استقلاليته في المجالات الحيوية. هذا لا يعني القطيعة مع الصين، بل بناء علاقة أكثر توازنًا، تقوم على الندية وليس التبعية. فالمعادن النادرة، رغم أهميتها، ليست سوى جزء من معركة أكبر حول من يملك مفاتيح المستقبل، ومن يستطيع أن يفرض شروطه في عالم يتغير بسرعة.

 

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص