النجاح والامداد الغيبي

شجع الاسلام على العمل والانتاج والبناء والإثراء من خلال التوكل على الله –تعالى- ونبذ التواكل والكسل والاعتماد الكلّي على يد الغيب، وفي روايات النبي الأكرم(ص)، والأئمة المعصومين تأكيدات وافرة على الأخذ بالاسباب الظاهرية في الحياة، مع الاخذ بنظر الاعتبار الاسباب الغيبية، والتوفيق الإلهي...

النجاح حاجة فطرية ومطلب انساني يدل على قوة الشخصية، وعلى و توفر القدرات والكفاءات، مما يجعل الجميع يبحث في كل الاتجاهات عن سبل النجاح المتعددة في مختلف جوانب الحياة؛ الاجتماعية، منها، والمهنية، والعلمية، وحتى ما يتعلق بإدارة الدولة والحكم.

 

ومن أجل سرعة الوصول، اعتقد البعض أن الوسيلة المعنوية اكثر جدوائية وسلامة من الوسيلة المادية بقصد الابتعاد عن شبهات الفساد والانحراف، وأن لا يكون هذا النجاح على حساب حقوق الآخرين، فكان اللجوء على كنف الغيب، والاعتماد على “الامداد الغيبي” من السماء لانجاز أعمال على الأرض، وذلك من خلال الدعاء والابتهال الى الله –تعالى- وطلب العون المباشر في جميع الاعمال.

 

في الثقافة الدينية ثمة دعوة الى توثيق العلاقة بالسماء من خلال سلسلة من الاعمال العبادية، مثل الصلاة والصيام، والأذكار المروية عن المعصومين الأربعة عشر، الهدف منها تعميق الإيمان في النفوس والتذكّر الدائم بحالة العبودية والحاجة المستمرة الى مصدر القوة اللامتناهية، والحذر من مغبة الانزلاق في متاهات الذات والكِبر والغرور، فهي بحد ذاتها تمثل مدرسة للتهذيب أكثر مما هي وسيلة أو لنقل “واسطة” لتمشية هذا العمل او ذاك، لأن الاسلام الذي دعانا الى الدعاء تقرباً الى الله –تعالى- وحتى لقضاء الحوائج في عالم الغيب، دعا في الوقت نفسه الى السعي والعمل في “عالم الشهود” وفق الاصطلاح الدارج في الأدبيات الدينية.

 

واذا قرأنا القرآن الكريم لا نجد آية تتحدث عن النجاح بهذه المفردة، وإنما استعاضها بمفردة أعمّ وأجمل في دلالاتها وهي: “الفلاح”، التي عرّفها علماء اللغة بأنها “النجاة والفوز بالنعيم والخير”، وهو المعنى الذي نجده في هذه المفردة خلال مخاطبة القرآن الكريم لـ “الذين آمنوا” حصراً بأن أعمالهم المرتبطة بالقوانين والسنن الإلهية تنتهي الى أن يكونوا من “المُفلحين”، وهي نتيجة أعلى وأشمل من النجاح الذي قد يتحول الى فشل في لحظة معينة لاسباب وظروف خارجة عن إرادة صاحبها، بينما الفلاح هو النجاح المضمون في ديمومته، بينما نلاحظ أن مفردات مثل: “العمل”، و”التنافس”، و”السرعة” مذكورة في ألفاظ متعددة في غير سورة بالقرآن الكريم في إشارة واضحة الى أن حركة الانسان المادية على الأرض هي التي تحقق له الخير والسعادة، فالفلاح والنجاح يمثل نتيجة –في معظم الاحيان- لما يبذله الانسان من سعي وعمل في حياته.

 

الدعوة الحضارية للنمو والتقدم

شجع الاسلام على العمل والانتاج والبناء والإثراء من خلال التوكل على الله –تعالى- ونبذ التواكل والكسل والاعتماد الكلّي على يد الغيب، وفي روايات النبي الأكرم، والأئمة المعصومين تأكيدات وافرة على الأخذ بالاسباب الظاهرية في الحياة، مع الاخذ بنظر الاعتبار الاسباب الغيبية، والتوفيق الإلهي، فالفرص متاحة للقيام بأعمال مختلفة أبرزها التجارة وكسب المال، وهو ما دعا اليه رسول الله في حديثه: “تسع أعشار الرزق في التجارة”، وهو نفسه، صلى الله عليه وآله، شجع أحد المسلمين على التجارة للتغلّب على حالة الفقر بعد أن شكاه اليه، وأعطاه درهماً واحداً ثم تحول هذا الدرهم الى عشرات الدنانير عندما تحول الى تاجر للاغنام ومشتقات الالبان، بعد ان اشترى وباع بشكل مستمر ومتصاعد، بيد أن هذا المسلم غير الراضي بما قسم الله له، خسر إيمانه وديمومة صلاته خلف النبي جماعة في القصة المعروفة، والشاهد في القصة أن ثراء الرجل جاء بفضل عمله ونشاطه التجاري، ثم جاء الامداد الغيبي متمثلاً ببركة الدرهم من يد رسول الله، صلى الله عليه وآله.

 

وهكذا الحال بالنسبة لطلب العلم والمعرفة، فان الدعوات متواترة ومؤكدة عليها منذ عهد الرسول الأكرم(ص): “اطلبوا العلم ولو بالصين”، و”طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة”، وفي عهد الامام الصادق(ع)، ومن بعده، عليهم السلام، تطورت الدعوة الى ما هو أرقى في الفقاهة والتوسع في فروع العلم والمعرفة، والى جانب هذه الدعوات، نقرأ دعوات الى تدوين العلوم، وكتابة الحديث، والحفظ، وكلها اسباب ظاهرية تتطلب الجهد الذهني والعضلي المرهق بما لا نتصوره في هذا “الزمن الجميل”، ولم نقرأ في رواية أن أحد الأئمة المعصومين ألهم تلامذته العلوم بشكل شفهي او غيبي، بلى؛ ربما يُعطوهم الخطوط العريضة –إن جاز التعبير- يبقى البحث والمدارسة والمذاكرة والمناقشة للتوصل الى حقائق العلم على عاتق التلميذ الطامح الى مراقي العلم والمعرفة.

 

ايجاد المصاديق العملية للدين والأخلاق

إن الالتفات جيداً الى الاسباب الظاهرية المسنودة بالأسباب الغيبية هي التي تعمّق مفاهيم الدين والاخلاق في المجتمع الذي نراه اليوم يشكو الفاصلة غير المريحة بينه وبين هذه المفاهيم ومنها؛ الزواج، فالملاحظ أن الشاب العازم على مغادرة العزوبية وتشكيل الأسرة بالزواج، يدعو المقربين منه بمد يد العون له لانجاح مشروعه العظيم، فيأتيه الجواب من البعض: “إن الله –تعالى- وعدك في القرآن الكريم بأن يُغنيك اذا ما تقدمت لخطبة فتاة وتم العقد ثم الزفاف، فانك لن تحتاج الى شيء مطلقاً”! ومثالٌ آخر شائع جداً يتعلق بمشكلة الفقر في المجتمع، فنقول للفقير: “الله يُعطيك”! إذن؛ ما معنى وجود آيات كريمة في القرآن الكريم، ودعوات حثيثة في روايات المعصومين، عن الإنفاق، والإحسان، والبرّ، والتعاون، والتكافل؟

 

حتى مفهوم التوسّل والشفاعة في ثقافتنا الدينية مرهونة بالعمل الجادّ على ارض الواقع لا على بساط الغيب، مع الالتفات الشديد الى أن قضاء الحوائج عند أضرحة المعصومين والأولياء الصالحين إنما هي من الله –تعالى- حصراً، إنما هم الوسيلة والذريعة اليه –عزّوجل-، لذا الواجب “علينا ان نهيئ الاسباب الظاهرية، وعندما يرى الله –تعالى- صدقنا فإنه يهيئ الاسباب الغيبية في الدنيا قبل الآخرة، واذا اعترضتنا مشاكل في الحياة فهي موجودة للجميع؛ سواءً الفقراء منهم أو الاغنياء، الحكماء او المحكومين”.

 

وهذا ما حدى العلماء والباحثين للتنبيه عليه بأن يكون التعامل مع المفاهيم الدينية والاخلاقية بطريقة واقعية ملموسة، وأي نوع من التعامل المشوب بالغموض بعناوين مثل: “الايمان في القلب”، وعناوين باطنية وغيبية فان النتيجة لن تكون سوى ابتعاد الدين ورسالة الإسلام الحضارية عن واقع الناس والحياة، وتكون أشبه بطقوس الديانات الاخرى الداعية الى الحبّ دون النظر الى الغاية من هذا الحب، والوسيلة التي يعبر بها عن حبّه للغير.

يقول الامام الصادق(ع): “إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلقاً”، والأخلاق هي مصداق الممارسة العملية للسلوك الحسن بين الناس

المصدر: وكالات

الاخبار ذات الصلة