في الثالث عشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2025، وُقّع اتفاق وقف إطلاق النار بين كيان الاحتلال الصهيوني وحركة حماس في شرم الشيخ، بعد عدوان صهيوني دموي استمر عامين، خلّف آلاف الشهداء والجرحى من المدنيين الفلسطينيين، ودمارًا واسعًا في قطاع غزة. وبينما سارع كثيرون إلى وصف الاتفاق بأنه بداية لمرحلة جديدة، خرجت جنوب أفريقيا بموقف أخلاقي وقانوني حاسم، رافضة تحويل هذا الاتفاق إلى غطاء لنسيان الجرائم، ومؤكدة أن العدالة لا تُعلّق باتفاقات سياسية، ولا تُلغى بتسويات مؤقتة.
بريتوريا، التي رفعت دعوى رسمية ضد كيان العدو أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية، شددت على أن وقف إطلاق النار لا يُسقط المسؤولية الجنائية، وأن الجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني يجب أن تُحاسب، مهما تغيّرت الظروف السياسية. هذا الموقف، الذي جاء في لحظة فارقة، أعاد تسليط الضوء على الدور الأفريقي في الدفاع عن القضايا العادلة، وعلى قدرة القارة على صياغة مواقف مستقلة، تُوازن بين المبادئ والمصالح، وتُعيد الاعتبار لفلسطين كقضية إنسانية وسياسية لا تُختزل في اتفاقات مؤقتة.
جنوب أفريقيا.. من التضامن الأخلاقي إلى المساءلة القانونية
منذ بداية الحرب على غزة، تبنّت جنوب أفريقيا موقفًا حازمًا، اتهمت فيه كيان العدو بارتكاب جرائم إبادة جماعية، وتقدّمت بدعوى رسمية أمام محكمة العدل الدولية في ديسمبر/ كانون الثاني 2023. وعلى الرغم من صدور تدابير مؤقتة من المحكمة تطالب كيان العدو باتخاذ خطوات لحماية المدنيين، فإن العمليات العسكرية استمرت، ما عزّز من موقف بريتوريا وأكسبه دعمًا شعبيًا واسعًا داخل البلاد وخارجها.
بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، أعلنت حكومة جنوب أفريقيا أن التطورات السياسية لن تؤثر على مسار الدعوى، مؤكدة أن الجرائم لا تُمحى بالاتفاقات، ولا تُغسل بالاعتذارات. الرئيس سيريل رامافوسا شدد على أن القضية ستُتابع حتى يرد كيان العدو على المرافعات المقدّمة، بحلول يناير/ كانون الثاني 2026، معتبرًا أن العدالة الحقيقية لا تتحقق إلا بمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات.
هذا الموقف لا يعكس فقط التزامًا قانونيًا، بل يُجسّد رؤية شعبية عميقة، تعبّر عنها حكومة حزب المؤتمر الوطني، الذي يرى في القضية الفلسطينية امتدادًا لتاريخ النضال ضد الفصل العنصري، ويعتبر أن دعم فلسطين ليس خيارًا سياسيًا بل واجب أخلاقي.
حركة عدم الانحياز تعيد التموضع
في موازاة موقف بريتوريا، برزت أوغندا كمحور دبلوماسي جديد، حين استضافت اجتماع وزراء خارجية دول «حركة عدم الانحياز»، بحضور مندوب فلسطين الدائم لدى الأمم المتحدة. الرئيس يوري موسيفني، الذي يرأس الحركة حاليًا، أكد التزامها بتحقيق حل عادل وسلمي للقضية الفلسطينية، مشددًا على أن حل الدولتين هو الطريق الشرعي الوحيد لإنهاء الصراع.
هذا التصريح، الذي جاء في لحظة انتقالية، أعاد الاعتبار لمواقف الحركة التاريخية، وفتح الباب أمام إعادة بناء تحالفات دولية داعمة لفلسطين، بعيدًا عن الاستقطاب الغربي. كما أنه أرسل رسالة واضحة بأن أفريقيا، رغم الضغوط، لا تزال تحتفظ بقدرتها على المبادرة، وعلى صياغة مواقف مستقلة في القضايا الدولية الكبرى.
أفريقيا بين المبادئ والمصالح
في ظل هذا المشهد المتشابك، تواجه الدول الأفريقية معضلة حقيقية: كيف توازن بين دعم القضية الفلسطينية، وبين السعي للحصول على مكاسب اقتصادية واستراتيجية من واشنطن؟ هذا السؤال لا يُطرح فقط في دوائر الحكم، بل يتردد في أوساط المجتمع المدني، والأكاديميين، والنشطاء، الذين يرون أن المواقف المبدئية لا يجب أن تُضحّى بها مقابل وعود غير مضمونة.
جنوب أفريقيا، التي اختارت المسار القانوني، تُقدّم نموذجًا في التمسك بالمبادئ، رغم الضغوط الداخلية والخارجية. فحزب المؤتمر الوطني يواجه انتقادات من شريكه في الحكم، التحالف الديمقراطي، ومن مجموعات ضغط تطالب بتبني مقاربة أكثر تحيّزًا لكيان العدو. كما أن الضغوط الأميركية والأوروبية لا تتوقف، وتُمارس عبر القنوات الدبلوماسية والاقتصادية، لدفع بريتوريا نحو التراجع.
ومع ذلك، فإن موقف بريتوريا يظل ثابتًا، ويُعبّر عن إرادة شعبية لا تزال ترى في فلسطين قضية عادلة، وفي كيان العدو دولة مارقة يجب محاسبتها. هذا الموقف، الذي يتجاوز الحسابات السياسية، يُعيد تعريف دور أفريقيا في النظام الدولي، ويمنحها صوتًا أخلاقيًا في عالم يزداد انقسامًا.
الإعلام والمجتمع المدني.. كسر الرواية الرسمية
من اللافت أن المواقف الأفريقية لا تُصاغ فقط في القصور الرئاسية، بل تتبلور في الجامعات، والمراكز البحثية، ووسائل الإعلام، التي بدأت تُعيد النظر في الرواية الصهيونية الرسمية. في غانا، التي تُعد من أقرب الدول الأفريقية إلى كيان العدو، واجهت سفارة الكيان رفضًا شعبيًا خلال فعالية سينمائية نظّمتها لعرض خمسة أفلام “إسرائيلية”، ما اضطرها إلى تقليص الحضور وإلغاء بعض العروض.
هذا الحدث، الذي لم يُسلّط عليه الضوء إعلاميًا، يُظهر أن الرأي العام الأفريقي بدأ يتحرّك، وأن الصورة التي يحاول كيان العدو ترميمها تواجه مقاومة حقيقية. كما أن شبكات التضامن مع فلسطين، التي تنشط في جنوب أفريقيا ونيجيريا والسنغال، تُعيد بناء سردية بديلة، تُركّز على حقوق الإنسان، وتُفكك الخطاب الأمني الذي تستخدمه إسرائيل لتبرير جرائمها.
أمريكا والكيان الصهيوني يعيدان تموضعهما
في المقابل، مثّل توقيع الهدنة فرصة استراتيجية للولايات المتحدة وكيان العدو لإعادة تموضعهما في أفريقيا. انفراد دونالد ترامب بإخراج الاتفاق، والدعم الدولي الذي حظيت به خطته، رفع سقف التوقعات لدى عدد من الدول الأفريقية، التي رأت في هذه اللحظة فرصة للتفاوض مع واشنطن حول ملفات اقتصادية معلّقة، مثل الرسوم الجمركية، وتمديد العمل بقانون الفرصة والنمو الأفريقي (AGOA)
هذا التوجّه لم يكن جديدًا، لكنه اكتسب زخمًا بعد الهدنة، خصوصًا مع تصاعد التعاون العسكري بين كيان العدو ودول أفريقية. تقارير دولية، أبرزها تقرير PRISM، أشارت إلى أن الولايات المتحدة تلعب دورًا محوريًا في فتح الأسواق الأفريقية أمام شركات السلاح الصهيونية، وتستخدم الحرب في غزة كمجال لاختبار الأسلحة قبل تصديرها، ما يربط الأنشطة العسكرية الأميركية في أفريقيا مباشرة بالإبادة في غزة، ويثير مخاوف من تحوّل القارة إلى ساحة تجريبية لتقنيات القمع.
أفريقيا تفرض إيقاعها الخاص
ما يُميز الموقف الجنوب أفريقي ليس فقط جرأته القانونية، بل توقيته السياسي. ففي لحظة بدا فيها أن العالم يتجه نحو طيّ صفحة الحرب في غزة، اختارت بريتوريا أن تفتح ملفًا ثقيلًا أمام محكمة العدل الدولية، متحديةً بذلك منطق التسويات السريعة، ومؤكدة أن العدالة لا تُقاس بزمن المعارك، بل بمدى مساءلة الجناة. هذا الإصرار على الاستمرار في الدعوى، يُعيد تعريف العلاقة بين السياسة والقانون، ويمنح أفريقيا موقعًا غير تقليدي في هندسة العدالة الدولية.
فجنوب أفريقيا، التي خاضت تجربة مريرة مع الفصل العنصري، تدرك أن المصالحة لا تُبنى على النسيان، وأن الاعتراف بالجرم هو الخطوة الأولى نحو التصحيح. ومن هنا، فإن موقفها من القضية الفلسطينية لا ينبع من تضامن عابر، بل من فهم عميق لمعنى العدالة، ولضرورة أن تكون المحاكم الدولية فضاءً للمحاسبة، لا مجرد أدوات لتجميل الواقع. وإذا نجحت بريتوريا في دفع المحكمة إلى إصدار حكم نهائي، فإن ذلك سيشكل سابقة قانونية تُعيد رسم حدود الإفلات من العقاب، وتمنح الدول النامية أداة جديدة في مواجهة الانتهاكات.
من الهامش إلى التأثير
في العقود الماضية، اعتُبرت أفريقيا هامشًا في السياسة الدولية، تُستدعى فقط في سياقات المساعدات أو النزاعات. لكنّ المواقف الأخيرة من القضية الفلسطينية تُظهر أن القارة بدأت تفرض إيقاعها الخاص، وتُعيد تعريف دورها، ليس فقط كمجموعة دول متضامنة، بل كقوة معيارية تمتلك رؤية أخلاقية وسياسية للعالم. هذا التحول لا يأتي من فراغ، بل من تراكم تجارب التحرر، ومن وعي متزايد بأن العدالة لا تُمنح، بل تُنتزع.
جنوب أفريقيا، في هذا السياق، لا تمثل فقط دولة ذات موقف، بل تُجسّد حالة تتشكل من جديد، وتعيد تعريف موقع أفريقيا في العالم. وإذا استمرت هذه الدينامية، فإن القارة قد تتحول إلى مركز ثقل جديد في قضايا حقوق الإنسان، وتُعيد التوازن إلى نظام دولي بات يميل إلى تبرير القوة على حساب القانون.
وهكذا في زمن تتسارع فيه التسويات وتُختزل فيه القضايا الكبرى إلى صفقات سياسية، اختارت أفريقيا أن تسلك طريقًا مختلفًا. جنوب أفريقيا، ومعها دول مثل أوغندا وغانا والسنغال، تُعيد بناء سردية العدالة من منظور قاري، لا يخضع للإملاءات، ولا يتنازل عن المبادئ. القضية الفلسطينية، التي لطالما كانت مرآة للضمير العالمي، تجد اليوم في أفريقيا صوتًا صادقًا، لا يساوم على الحقيقة، ولا يهادن في وجه الانتهاكات.