فنّ النور والقداسة ينعكس على الروح

الزخرفة بالمرايا.. جوهرة العمارة الإيرانية الإسلامية

الوفاق: الزخرفة بالمرايا ليست مجرد زخرفة معمارية، بل هي فنّ الضوء الذي ينسج من الزجاج والإنعكاس عالماً من القداسة والجمال.

في قلب العمارة الإيرانية، ينبض فنٌ فريد يجمع بين الحرفة والدلالة الروحية، هو فن «آينه كاري» أي «الزخرفة بالمرايا». هذا الفن العريق، الذي نشأ وتطوّر عبر قرون من الإبداع، لا يقتصر على الزينة البصرية فحسب، بل يحمل رمزية عميقة ترتبط بالنقاء، الصفاء، وانعكاس الباطن. وقد بلغ ذروته في الأماكن المقدسة، حيث تحوّلت المرايا إلى وسيلة لتجسيد النور الإلهي في فضاء معماري محسوس، يدهش الزوّار من المسلمين وغير المسلمين على حدّ سواء.

 

 فن الزخرفة بالمرايا وتجلياته البصرية

 

فن الزخرفة بالمرايا، هو أحد الفنون التقليدية في العمارة الإيرانية، ويُستخدم لتزيين الأسطح الداخلية للمباني باستخدام قطع صغيرة وكبيرة من المرايا. يُعد هذا الفن أحد أرقى أشكال الزخرفة في التصميم الداخلي للعمارة الإيرانية، وقد أبدعه الحرفيون الإيرانيون عبر قرون من الإبداع، ويُعتبر بلا شك من أدقّ وأجمل الزخارف في العمارة الإسلامية.

 

يقوم هذا الفن أساساً على تشكيل تصاميم هندسية منتظمة ومتناظرة باستخدام قطع المرايا، تُقص وتُرتب لتُشكّل أنماطاً هندسية، أو خطوطاً خطية، أو زخارف نباتية مستوحاة من الأزهار والنباتات. والنتيجة سطح متلألئ يعكس الضوء في هيئة أنماط تجريدية أو انعكاسات براقة. إلى جانب وظيفته الجمالية، يُستخدم هذا الفن أيضاً كغطاء متين ودائم للأسطح الداخلية.

 

 

 إستخداماته في العمارة الإيرانية

 

في عصري زند والقاجار، انتشر استخدام الزخرفة بالمرايا في إطارات النوافذ، الجدران، الأسقف، والأعمدة داخل الأكواخ، المنازل الخاصة، المقاهي، وكذلك في القصور الملكية والمزارات الدينية.

 

أول ظهور لهذا الفن في العمارة الإيرانية التقليدية كان في تزيين إيوان بيت شاه طهماسب الصفوي في قزوين. ومن بين أشهر القصور المزينة بالمرايا كان «بيت المرايا» في أصفهان، حيث استُخدمت كميات هائلة من المرايا لتزيين الأسقف، الأعمدة، والجدران الداخلية.

 

في الأسطح المزخرفة بالمرايا، لا يظهر الشكل أو الملمس بوضوح، بل يُستبدل بتفاعل الضوء. فسطح المرايا المصقول يعكس أشعة الضوء ليُنتج مزيجاً من الألوان المتفاوتة، وكأن قطع الضوء قد قُطعت وصُقلت ثم جُمعت. هذا التأثير الرقيق يجعل حتى الزخارف التقليدية مثل القاشاني واللوحات تبدو باهتة أمامه.

 

وعلى الرغم من أن تركيب المرايا يتم وفق أنماط هندسية، إلا أن العين لا تُميّز بين النقوش، بل تذوب التفاصيل في وحدة ضوئية واحدة، حيث تتحول الكثرة إلى وحدة، ويغمر الضوء كل شيء.

 

 الزخرفة بالمرايا في العتبة الرضوية المقدسة

 

تُعد مدينة مشهد المقدسة، بفضل وجود مرقد الإمام الرضا(ع)، من أبرز مراكز نمو وازدهار هذا الفن في إيران. حيث يقول الباحث في مركز مكتبة ومتحف ووثائق العتبة الرضوية المقدسة، حشمت كفيلي: إن فنّ الزخرفة بالمرايا يحتل اليوم مكانة بارزة في الزخارف المعمارية للمرقد المطهر، ويثير دهشة الزوار من المسلمين وغير المسلمين على حد سواء.

 

سواء كنت زائراً يبحث عن العزلة الروحية أو تدخل الحرم بفرح، فإن انعكاسات الضوء من المرايا تلفت إنتباهك إلى تناغم القطع الزجاجية الدقيقة، التي تعكس نور القبة إلى قلوب الزائرين. وتشير الوثائق إلى أن أولى استخدامات الزخرفة بالمرايا في الحرم تعود إلى أواخر العصر الصفوي، وتحديداً إلى عامي 1117–1118 هـ.ق، حيث ذُكر رواق دارالسيادة كموقع لهذه الزخرفة.

 

في العتبة الرضوية المقدسة، هناك العديد من الأماكن المزينة بالمرايا، ومن أبرزها رواق دارالسيادة، الذي يتميز بزخارف غاية في الجمال والتنوع. وقد زُيّن هذا الرواق باستخدام أنماط فنية مثل «طرح كِره» أي «العقدة الهندسية» الذي يُستخدم في الفنون الزخرفية، ويُترجم إلى العربية بـ «تصميم العقدة» أو «النمط الشبكي الهندسي»، ويشير إلى نمط زخرفي هندسي معقّد يتكون من خطوط متداخلة ومتكررة تُشكّل أشكالاً مثل النجوم، المضلعات، أو الشبكات المتشابكة.

 

يُستخدم بكثرة في العمارة الإسلامية والفارسية، خاصة في فنون مثل الزخرفة بالمرايا، الجص، الخشب، والسيراميك، هو من أكثر التصاميم شيوعاً في فن الزخرفة بالمرايا، حيث أصبح هذا الفن متداخلاً مع فنون الشبك الهندسي في معظم المساحات المزخرفة بالمرايا.

 

في أروقة المرقد المطهر، يضفي بريق المرايا على الأجواء الروحانية للحرم جمالاً خاصاً، فتشعر وكأنك مدعو إلى النور والضياء، ونورٌ يشبه نسيم الفجر يدعوك إلى ميعاد العاشقين.

 

 

 إيوان المرايا في مرقد السيدة فاطمة المعصومة(س)

 

يُعد إيوان المرايا من أبرز المعالم الفنية في مرقد السيدة فاطمة المعصومة(س)، وهو من إبداع المعمار الإيراني الشهير الأستاذ «حسن معمار قمي» في العصر القاجاري. يقع هذا الإيوان في صحن الإمام الرضا(ع) داخل المرقد المطهر، وقد اكتسب اسمه بسبب الزخرفة البديعة بالمرايا التي تزينه.

 

تم تنفيذ الزخرفة بالمرايا في هذا الإيوان بالتزامن مع إنتهاء بنائه عام 1303 هـ.ق، ثم أُعيد ترميمها عام 1966، ويُعرف باسم «إيوان المرايا» نظراً لتغطيته الكاملة بالمرايا.

 

 

 فنّ الضوء

 

 

الزخرفة بالمرايا ليست مجرد زخرفة معمارية، بل هي فنّ الضوء الذي ينسج من الزجاج والإنعكاس عالماً من القداسة والجمال. من قبة الإمام الرضا(ع) إلى إيوان السيدة المعصومة(س)، تتجلّى براعة الفنان الإيراني في تحويل المادة إلى معنى، والسطح إلى روح. إنه فنّ لا يُكتفى بتأمله، بل يُعاش بكل الحواس، ويُخلّد في ذاكرة الزائر كوميض من نور لا يُنسى.

 

 

المصدر: الوفاق

الاخبار ذات الصلة