في خريف سياسي مشتعل من عام 2025، انفجرت الولايات المتحدة الأميركية بموجة احتجاجات غير مسبوقة، اجتاحت أكثر من 2600 موقع في جميع الولايات الخمسين، تحت شعار “لا ملوك”. شارك نحو 7 ملايين أمريكي في أضخم مسيرات مناهضة لرئيس امريكي في السلطة، مسجلين بذلك رقماً قياسياً في تاريخ الاحتجاجات السياسية الأمريكية ليوم واحد. لم تكن هذه التظاهرات مجرد تعبير عن استياء عابر، بل كانت انتفاضة شعبية عارمة ضد ما اعتبره ملايين الأميركيين انحرافاً خطيراً نحو الحكم الفردي المطلق، تقوده إدارة دونالد ترامب. لقد خرجت الجماهير إلى الشوارع لا لتطالب بتعديل سياسة أو إصلاح قانون، بل لتدافع عن جوهر النظام الجمهوري ذاته، في مواجهة ما وصفوه بمحاولة اغتصاب السلطة وتفكيك الديمقراطية من الداخل. كانت لحظة مواجهة بين شعبٍ يؤمن بالدستور، ورئيسٍ يُتهم بتقويضه.
جذور الحراك.. من يونيو إلى أكتوبر
بدأت ملامح هذا الحراك تتشكل في يونيو/حزيران 2025، حين نظّمت حركة «لا ملوك» أولى فعالياتها احتجاجاً على ما وصفته بـ«تجاوزات السلطة» من قبل إدارة ترامب. ومع تصاعد الإجراءات الحكومية التي شملت مداهمات واسعة لسلطات الهجرة، تقليص التمويل للجامعات، وإنزال الحرس الوطني في المدن الكبرى، بدأ الغضب الشعبي يتراكم، ليبلغ ذروته في أكتوبر/ تشرين الأول الجاري.
المنظمون، ومن بينهم تحالف منظمات تقدمية مثل «إنديفيزيبل» و«الاتحاد الأميركي للحريات المدنية»، اعتبروا أن هذه السياسات لا تمثل مجرد انحراف إداري، بل تهديداً مباشراً للديمقراطية الأميركية، التي تقوم على مبدأ فصل السلطات وتوازنها، لا على حكم الفرد المطلق.
شعار «لا ملوك».. دلالة رمزية عميقة
اختيار شعار «لا ملوك» لم يكن اعتباطياً. فهو يستحضر روح الثورة الأميركية التي قامت على رفض الملكية البريطانية، ويعيد التأكيد على أن الولايات المتحدة ليست دولة يحكمها ملك، بل جمهورية ديمقراطية يخضع فيها الجميع للقانون. هذا الشعار تحوّل إلى لافتة جامعة لمختلف أطياف المحتجين، من الليبراليين إلى المحافظين المعتدلين، ومن الطلاب إلى النقابات، ومن المدافعين عن حقوق المهاجرين إلى نشطاء البيئة.
الاحتجاجات تجتاح معظم الولايات الأمريكية
امتدت التظاهرات من العاصمة واشنطن، التي شهدت أكبر التجمعات، إلى مدن مثل نيويورك، سان فرانسيسكو، شيكاغو، أتلانتا، بوسطن، وهيوستن، وحتى إلى بلدات صغيرة مثل بوزمان في مونتانا. في كل مكان، حمل المحتجون لافتات كتب عليها «لا ملك.. لا أحد فوق القانون»، و«ديمقراطية لا دكتاتورية»، و«ترامب ليس فوق الدستور».
اللافت في هذه الاحتجاجات أنها لم تكن محصورة في المدن الكبرى، بل شملت الضواحي والبلدات الريفية، ما يعكس اتساع رقعة المعارضة لسياسات ترامب، حتى في المناطق التي كانت تُعتبر تقليدياً مؤيدة له.
ردود الفعل الرسمية.. بين الإنكار والتصعيد
دونالد ترامب، في مقابلة مع «فوكس بيزنس»، قلّل من شأن الاحتجاجات قائلاً: «يصفونني بالملك، أنا لست ملكاً». لكنه في الوقت نفسه، لم يتراجع عن سياساته، بل واصل الدفع باتجاه عسكرة المشهد السياسي، عبر إرسال قوات الحرس الوطني إلى المدن التي وصفها بأنها “فوضوية وخارجة عن القانون”، رغم اعتراض قادتها المحليين.
هذا التناقض بين الخطاب المهدئ والإجراءات التصعيدية زاد من حدة التوتر، ودفع كثيرين إلى اعتبار أن ترامب يسعى فعلاً إلى ترسيخ حكم فردي، يتجاوز المؤسسات الدستورية.
شرارة الغضب الشعبي
من أبرز الإجراءات التي فجّرت موجة الغضب الشعبي كانت مداهمات سلطات الهجرة التي كثّفتها إدارة ترامب في الأحياء ذات الأغلبية المهاجرة، ما أدى إلى اعتقالات جماعية وفصل عائلات عن بعضها البعض. هذه السياسات لم تقتصر على الجانب الأمني، بل امتدت إلى المجال التعليمي، حيث تم تقليص التمويل المخصص للجامعات التي دعمت احتجاجات مؤيدة لفلسطين أو تبنّت سياسات تنوع وشمول.
هذه الإجراءات، التي وُصفت بأنها «عقابية»، دفعت شرائح واسعة من المجتمع الأكاديمي والحقوقي إلى الانضمام للحراك، معتبرين أن ترامب لا يدير البلاد وفق مبادئ دستورية، بل وفق أجندة أيديولوجية ضيقة تهدف إلى إسكات المعارضة وتكريس الهيمنة.
عسكرة المدن وتجاهل القضاء
في خطوة أثارت جدلاً واسعاً، أمر ترامب بإنزال قوات الحرس الوطني إلى عدد من المدن الكبرى، تحت ذريعة «مكافحة الفوضى»، رغم اعتراض حكّام تلك الولايات وقادتها المحليين. هذا القرار اعتُبر تجاوزاً لصلاحيات السلطة التنفيذية، وتجاهلاً متعمداً للسلطات القضائية التي سبق أن أصدرت أحكاماً تحدّ من تدخل الحكومة الفيدرالية في الشؤون المحلية.
إضافة إلى ذلك، أظهرت تقارير إعلامية أن إدارة ترامب مارست ضغوطاً على بعض القضاة الفيدراليين، وسعت إلى تسييس الجهاز القضائي عبر تعيينات مثيرة للجدل. هذه الممارسات عززت الشعور بأن الديمقراطية الأميركية باتت مهددة من الداخل، وأن التوازن بين السلطات الثلاث يتعرض للتآكل.
الحريات المدنية في مرمى النار
أكدت القيادية في الاتحاد الأميركي للحريات المدنية، ديردري شيفيلينغ، أن «ملايين الأميركيين سيحتجّون سلمياً ليقولوا لإدارة ترامب إنّنا بلد يتساوى فيه الناس، بلد تنطبق فيه القوانين على الجميع، دولة قانون وديمقراطية». هذا التصريح يعكس القلق المتزايد من تآكل الحريات المدنية، خاصةً في ظل ملاحقة المعارضين السياسيين قضائياً، وترهيب المجتمعات المهاجرة، وتقليص الدعم للمؤسسات التعليمية التي تتبنى سياسات التنوع.
أزمة المحافظين الجدد
يرى كثير من المحللين أن هذه الاحتجاجات تمثل رفضاً شعبياً لأجندة المحافظين الجدد، التي اتضحت معالمها في الأشهر العشرة الأولى من ولاية ترامب الثانية. هذه الأجندة، التي تشمل تقليص دور الدولة، تشديد الرقابة الأمنية، وتقييد الحريات الفردية، اصطدمت بجدار من المقاومة الشعبية، عبّرت عنه حركة «لا ملوك» بوضوح.
الهوية الأميركية في مواجهة السلطوية
ليا رينبرغ، المؤسسة الشريكة لحركة «لا ملوك»، قالت إن «أكثر ما يعبّر عن الهوية الأميركية هو قول (ليس لدينا ملوك) وممارسة حقنا في الاحتجاج السلمي». هذا التصريح يلخص جوهر الصراع: هل تبقى أميركا دولة ديمقراطية تقوم على حكم الشعب، أم تنزلق نحو نموذج سلطوي يُدار من قبل فرد واحد؟
من الحشد إلى المقاومة الرقمية
في عصر الرقمنة، لعبت منصات التواصل الاجتماعي دوراً محورياً في تنظيم احتجاجات «لا ملوك». فقد تحولت تويتر، فيسبوك، وإنستغرام إلى ساحات تعبئة جماهيرية، حيث تبادل النشطاء المعلومات حول مواقع التظاهرات، شعاراتها، وأساليب الحماية من القمع الأمني. وبرزت هاشتاغات مثل #NoKings و#ResistTrump كأدوات لتوحيد الخطاب الاحتجاجي، ونشر صور وفيديوهات توثق الحراك لحظة بلحظة.
لكن هذا الدور لم يكن دون تحديات، إذ واجه المحتجون حملات تضليل إعلامي، وحذفاً متعمداً لبعض المنشورات، فضلاً عن محاولات اختراق إلكتروني استهدفت حسابات المنظمين. ومع ذلك، أثبتت هذه المنصات أنها ليست مجرد أدوات ترفيه، بل فضاءات مقاومة رقمية تعزز من قدرة المجتمعات على التعبير والتأثير.
أمريكا.. نحو صراع داخلي مفتوح
أظهرت الاحتجاجات عمق الانقسام السياسي في الولايات المتحدة، إذ عبّر قادة الحزب الديمقراطي عن دعمهم للحراك، مؤكدين أن سياسات ترامب تهدد أسس الديمقراطية الأميركية. في المقابل، دافع العديد من الجمهوريين عن الرئيس، معتبرين أن الإجراءات الأمنية ضرورية لحفظ النظام، وأن الاحتجاجات مدفوعة بأجندات يسارية متطرفة.
هذا الانقسام لم يقتصر على النخب السياسية، بل انعكس في الشارع الأميركي، حيث شهدت بعض المدن مواجهات بين مؤيدين ومعارضين لترامب، ما زاد من تعقيد المشهد وأثار مخاوف من انزلاق البلاد نحو صراع داخلي مفتوح. ويبدو أن الانتخابات المقبلة ستكون اختباراً حاسماً لمدى قدرة النظام السياسي الأميركي على احتواء هذا الانقسام المتفاقم.
صدى الاحتجاجات خارج الحدود
لم تقتصر التظاهرات على الداخل الأميركي، بل شهدت عدة عواصم أوروبية تحركات داعمة، ما يعكس البعد العالمي للأزمة. فسياسات ترامب، خاصة في ملفات الهجرة والتغير المناخي والعلاقات الدولية، أثارت قلقاً واسعاً في الخارج، ودفع نشطاء في لندن، باريس، وبرلين إلى تنظيم وقفات تضامنية مع المحتجين الأميركيين.
إلى أين تتجه أميركا؟
السؤال الذي يطرحه الجميع اليوم هو: هل تمثل احتجاجات «لا ملوك» نقطة تحول في السياسة الأميركية؟ وهل تنجح في كبح جماح النزعة السلطوية؟ أم أنها مجرد موجة عابرة ستخمد تحت وطأة القمع والتجاهل؟
الإجابة تعتمد على عدة عوامل، أبرزها قدرة المنظمات المدنية على الاستمرار في الحشد، مدى تجاوب المؤسسات القضائية والتشريعية، وموقف الإعلام من تغطية الأحداث بموضوعية. كما أن الانتخابات المقبلة ستشكل اختباراً حاسماً لمدى قدرة النظام الديمقراطي الأميركي على الصمود أمام التحديات الداخلية.
أمريكا تخوض اختباراً وجودياً
احتجاجات «لا ملوك» ليست مجرد حدث عابر، بل لحظة مفصلية في تاريخ الولايات المتحدة. إنها تعبير عن أزمة عميقة في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وعن رفض شعبي واسع لتحويل الديمقراطية إلى ديكور شكلي. وفي ظل استمرار الإغلاق الحكومي، وتسريح الموظفين، وتصاعد التوترات الداخلية، تبدو أميركا وكأنها تخوض اختباراً وجودياً: إما أن تنتصر لقيمها التأسيسية والتي تدعيها، أو تنزلق نحو نموذج سلطوي لا يشبهها.