في خضم التوترات التجارية المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين، لم تعد أدوات الصراع مقتصرة على الرسوم الجمركية أو البيانات الاقتصادية. بل تحولت سلع مثل فول الصويا والمعادن النادرة إلى أسلحة تفاوضية، تُستخدم بذكاء في رسم ملامح جديدة للعلاقات الدولية. الصين، التي لطالما وُصفت بأنها الطرف الأضعف في الحرب التجارية، قررت أن تُعيد تعريف قواعد اللعبة، مستخدمةً نقاط قوة غير تقليدية، مراهنة على مرونتها الاستراتيجية في مواجهة الهيمنة الأميركية.
الحصار الناعم يضرب قلب أمريكا
في قلب ولايات الغرب الأوسط الأميركي، ينتظر المزارعون كل عام موجة الطلبات الصينية التي تُنعش خزائنهم وتُبقي مصانعهم تعمل. الصين، التي تستورد أكثر من نصف فول الصويا العالمي، كانت حتى وقت قريب تعتمد على الولايات المتحدة كمصدر رئيسي، ليس فقط بسبب جودة المحصول، بل أيضاً بسبب شبكة التوريد المستقرة التي تربط بين المزارع الأميركية والموانئ الصينية. لكن في سبتمبر/ أيلول 2025، انقلب المشهد رأساً على عقب. الصين، في خطوة مفاجئة ومدروسة، قررت أن توقف تماماً وارداتها من فول الصويا الأميركي، لتصل إلى «الصفر»، في توقيتٍ لا يمكن وصفه إلا بالقاتل اقتصادياً.
شبكة توريد جديدة خارج الهيمنة الأميركية
القرار لم يكن وليد اللحظة، بل جاء بعد سلسلة من التوترات التجارية التي بدأت منذ سنوات، وتفاقمت مع تصعيد ترامب لسياسة الرسوم الجمركية، وتهديداته المتكررة بفرض قيود على صادرات الصين، بما في ذلك زيت الطهو والمعادن النادرة. بكين، التي لطالما اتُهمت بأنها الطرف الأضعف في هذه المواجهة، قررت أن تُعيد تعريف موقعها، ليس عبر الرد، بل من خلال المبادرة.
لكن كيف وصلت الصين إلى هذه المرحلة؟ وكيف استطاعت أن تُعيد تشكيل شبكة توريداتها الزراعية بهذه السرعة؟ الإجابة تكمن في استراتيجية طويلة الأمد، بدأت منذ سنوات، حين أدركت بكين أن الاعتماد على مصدر واحد، خصوصاً إذا كان خصماً سياسياً، يُعد مخاطرة لا تُغتفر. بدأت الصين بتوسيع علاقاتها التجارية مع دول أميركا الجنوبية، وعلى رأسها البرازيل، التي تُعد اليوم المصدر الأكبر لفول الصويا إلى الصين.
البرازيل لم تكن وحدها في هذا المشهد. الأرجنتين، الأوروغواي، وحتى روسيا، دخلت على الخط كموردين جدد، ما منح الصين مرونة غير مسبوقة في إدارة الأزمة. هذا التنويع لم يكن مجرد رد فعل، بل جزء من رؤية استراتيجية تهدف إلى تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة، وتعزيز الأمن الغذائي الصيني عبر علاقات تجارية متعددة الأطراف. وفي الوقت الذي كان فيه المزارعون الأميركيون يُطالبون إدارة ترامب بإعادة الصين إلى طاولة الشراء، كانت بكين تُعزز علاقاتها مع شركاء جدد، وتُعيد رسم خارطة التجارة الزراعية العالمية.
المواجهة لم تتوقف عند حدود المواد الخام
لم تكتفِ الصين باستخدام فول الصويا كسلاح تفاوضي في صراعها التجاري مع الولايات المتحدة، بل وسّعت نطاق الضغط ليشمل المعادن النادرة، وهي مكونات حيوية في الصناعات الدفاعية الأميركية. بإعلانها فرض قيود صارمة على تصدير هذه المعادن للاستخدامات العسكرية، وجّهت بكين رسالة واضحة بأنها قادرة على تعطيل سلاسل التوريد التي تعتمد عليها واشنطن في إنتاج الطائرات الحربية والصواريخ والرادارات.
لكن المواجهة لم تتوقف عند حدود المواد الخام، بل امتدت إلى ساحة أكثر تعقيداً: التكنولوجيا والذكاء الصناعي. الولايات المتحدة، التي تُهيمن على شركات التكنولوجيا الكبرى، بدأت بفرض قيود على وصول الصين إلى التقنيات المتقدمة، خصوصاً في مجالات الرقائق الإلكترونية والحوسبة الكمية. الصين، من جهتها، لم تكتفِ بالرد، بل سارعت إلى تسريع برامجها الوطنية، والاستثمار في شركاتها المحلية، وبناء منظومة تكنولوجية مستقلة تُقلّص اعتمادها على الغرب.
واشنطن بين ضغط الداخل وارتباك الخارج
الخبيرة غراسلين باسكاران وصفت هذه الخطوة بأنها «تكتيك تفاوضي قوي للغاية»، لأنه يقوّض الأمن القومي الأميركي في وقت يتصاعد فيه التوتر العالمي. أمّا ترامب، فقد رد بتهديدات بفرض رسوم جمركية بنسبة 100% على البضائع الصينية، في محاولة لردع بكين عن مواصلة هذا النهج. لكن الرد الأميركي بدا، في كثير من الأحيان، أقرب إلى رد فعل غاضب منه إلى استراتيجية مدروسة. الصين، من جهتها، لم تتراجع، بل عززت موقفها بإعلان رسمي أنها لن تمنح تراخيص تصدير للجهات الأجنبية التي تستخدم المعادن النادرة في الصناعات العسكرية.هذا الإعلان لم يكن مجرد إجراء تقني، بل رسالة سياسية واضحة بأن الصين مستعدة لاستخدام أدواتها الاقتصادية في مواجهة الهيمنة الأميركية.
ماليزيا مفاوضات على خط الانهيار
في ظل تصاعد التوتر التجاري بين واشنطن وبكين، تحولت الجولة المقبلة من المحادثات في ماليزيا إلى محطة حاسمة، خاصةً مع اقتراب انتهاء الاتفاقية المؤقتة التي حالت دون اندلاع حرب تجارية شاملة. اللقاء بين وزير الخزانة الأميركي ونائب رئيس مجلس الدولة الصيني لا يُعد مجرد اجتماع تقني، بل سباق مع الزمن لتفادي التصعيد.
ورغم العودة إلى طاولة التفاوض، فإن الطرفين لا يتحدثان اللغة نفسها. ترامب يراهن على الضغط المباشر عبر التهديد برسوم جمركية مرتفعة، بينما الصين تعتمد على استراتيجية أكثر تعقيدًا، تراهن فيها على هشاشة السوق الأميركية، وتحديدًا على تأثير أي انهيار في البورصات على القرار السياسي الأميركي. وفقًا لتقارير صحفية، يرى الرئيس شي جين بينغ أن التركيز الأميركي على سوق الأوراق المالية يُعد نقطة ضعف يمكن استغلالها لدفع واشنطن نحو التراجع.
الصين لا تُراهن فقط على الأرقام، بل على الذاكرة القريبة لانهيار الأسواق في أبريل/ نيسان الماضي، حين أجبرت تعرفات ترامب الجمركية بكين على الرد، ما أدى إلى اضطراب مالي واسع. إعادة إنتاج هذا السيناريو، من وجهة نظر بكين، قد يكون مفتاحًا لإجبار واشنطن على التراجع عن سياساتها العدائية، والقبول بشروط أكثر توازنًا في المفاوضات.
المزارعون في مواجهة البيت الأبيض
في الولايات المتحدة، لم يكن تأثير القرار الصيني محصوراً في أروقة البنتاغون أو مكاتب وول ستريت، بل امتد إلى الحقول والمزارع، حيث يعيش آلاف الأميركيين على زراعة فول الصويا. هؤلاء، الذين اعتادوا على الطلب الصيني كمصدر دخل ثابت، وجدوا أنفسهم فجأة في مواجهة واقع جديد: لا مشترٍ، لا تعويض، ولا خطة بديلة.
الضغط الذي مارسه المزارعون على إدارة ترامب لم يكن بسيطاً. فهؤلاء يُشكلون قاعدة انتخابية مهمة، خصوصاً في الولايات المتأرجحة، ما يجعل تجاهلهم مخاطرة سياسية. لكن المشكلة لم تكن فقط في الخسائر المالية، بل في الشعور بأن الحكومة الأميركية لم تُقدّر حجم الاعتماد على السوق الصينية، ولم تُخطط لسيناريو الانسحاب المفاجئ.
حتى لو تم التوصل إلى اتفاق قريب، فإن موسم الحصاد قد فات، والخسائر باتت واقعة. هذا الواقع دفع بعض المزارعين إلى التفكير في تقليص الإنتاج، أو التحول إلى محاصيل أخرى، ما يُهدد بتغيير جذري في البنية الزراعية للولايات المتحدة. وفي الوقت الذي كانت فيه الصين تُعيد تشكيل شبكة توريداتها، كانت واشنطن تُحاول احتواء الغضب الداخلي، دون أن تمتلك أدوات فعالة للرد.
العالم يراقب ويُعيد التموضع
الاتحاد الأوروبي، الذي طالما سعى إلى الحفاظ على توازن دقيق في علاقاته مع واشنطن وبكين، يجد نفسه اليوم أمام معضلة استراتيجية: كيف يوازن بين مصالحه الاقتصادية المتنامية مع الصين، وبين التزامه التاريخي بالحليف الأميركي؟ التحولات الأخيرة في موقف إدارة ترامب، لا سيما ما يتعلق بالتخلي التدريجي عن دعم كييف، زادت من ارتياب الأوروبيين، وأعادت إلى الواجهة تساؤلات قديمة حول مدى موثوقية واشنطن كشريك استراتيجي. وفي ظل هذا التوتر، تبدو أوروبا عاجزة عن لعب دور الوسيط، أو حتى عن حماية مصالحها التجارية، خاصةً أن صناعاتها تعتمد بشكلٍ كبير على المعادن النادرة الصينية واستقرار الأسواق الأميركية.
على النقيض من ذلك، تتحرك روسيا بهدوء ولكن بثقة، مستفيدة من الفراغ الذي تتركه الولايات المتحدة في علاقاتها مع الصين. موسكو، التي تعاني من عزلة غربية متزايدة، ترى في بكين شريكاً استراتيجياً لا غنى عنه، وفي تراجع النفوذ الأميركي فرصةً نادرة لإعادة التموضع على الساحة الدولية. دخول روسيا على خط توريد فول الصويا إلى الصين، وإن كان رمزياً، يعكس رغبتها في تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع العملاق الآسيوي. لكن الأهم من ذلك هو التقارب السياسي والاقتصادي المتسارع بين البلدين، والذي بات يُترجم في مشاريع مشتركة، واتفاقيات تجارية، وتنسيق دبلوماسي متزايد. هذا التحالف لا يُهدد فقط الهيمنة الأميركية، بل يُعيد تشكيل ملامح النظام الدولي، ويفتح الباب أمام عالم متعدد الأقطاب، تتقاسم فيه الصين وروسيا زمام المبادرة.
العالم يتغير والصين تُعيد رسم الخرائط
في خضم هذا الصراع المعقد، يتضح أن الصين لم تعد الطرف الذي يُستهدف فقط، بل الطرف الذي يُبادر، ويُفاوض، ويُعيد تشكيل قواعد اللعبة. من الحقول الزراعية إلى مصانع الأسلحة، ومن الموانئ إلى طاولات التفاوض، باتت بكين تُحاصر واشنطن، لا بالدبابات، بل بالبذور والمعادن، وفي معركة قد تُعيد تعريف مفهوم القوة في القرن الحادي والعشرين.