في عالم تتغير فيه الذرائع السياسية كما تتبدل الفصول، تعود الولايات المتحدة إلى أميركا اللاتينية، لكن هذه المرة تحت شعار جديد: «الحرب على المخدرات». بعد أن استنفدت «الحرب على الإرهاب» أغراضها في الشرق الأوسط وآسيا، وبعد أن تآكلت شرعيتها بفعل الكوارث التي خلفتها في البلدان التي اعتدت عليها، تبحث واشنطن عن غطاء جديد لتدخلاتها الخارجية. وهكذا، یُستحضر عنوان أخر كعدو مرن، قابل للتشكيل وفق الحاجة، لتبرير التصعيد العسكري والسياسي في منطقة لطالما اعتُبرت الحديقة الخلفية للنفوذ الأميركي.
في قلب هذا التصعيد، تبرز فنزويلا وكولومبيا كجبهتين متقابلتين في صراع مزدوج، تتداخل فيه المصالح الاقتصادية، والرهانات الجيوسياسية، والذرائع الأمنية، لتُشكل مشهداً إقليمياً بالغ التعقيد والخطورة. فبينما تتعرض فنزويلا لحصار عسكري واستخباري غير مسبوق، تجد كولومبيا نفسها فجأة في مرمى النيران، رغم كونها الحليف التقليدي لواشنطن. هذا التحول الدراماتيكي يكشف عن عقيدة أميركية جديدة، أكثر عدوانية، وأقل مواربة، تهدف إلى إعادة رسم الخارطة السياسية لأميركا الجنوبية، عبر أدوات الهيمنة المقنّعة.
تبدّل الذرائع وثبات الأهداف
منذ أحداث 11 سبتمبر/ أيلول، اعتمدت الولايات المتحدة استراتيجية «الحرب على الإرهاب» كغطاء لتدخلاتها العسكرية والسياسية في مناطق متعددة من العالم. لكن مع مرور الوقت، تراجعت فعالية هذا الخطاب، خاصةً بعد أن تكشفت الحقائق حول دوافع الغزو الأميركي لتلك البلدان، وتورط واشنطن في تفكيك دول ذات سيادة تحت شعارات زائفة. ومع تآكل الثقة الدولية في هذا الخطاب، بات من الضروري البحث عن ذريعة جديدة تبرر استمرار التدخلات الخارجية.
في هذا السياق، أعيد تدوير خطاب «الحرب على المخدرات»، الذي لطالما استخدم في أميركا اللاتينية منذ ثمانينيات القرن الماضي، ليصبح أداة مرنة لتبرير العقوبات، والضغوط، وربما الغزو. فالمخدرات، كالإرهاب، عدو غير محدد، يمكن نسبه إلى أي جهة، ويمكن استخدامه لتبرير أي إجراء، من العقوبات الاقتصادية إلى التدخل العسكري. وهكذا، تحول إلى شماعة جديدة، تُعلّق عليها واشنطن أهدافها الجيوسياسية، دون الحاجة إلى إثباتات أو شرعية دولية.
فنزويلا.. الهدف القديم المتجدد
منذ وصول الرئيس نيكولاس مادورو إلى السلطة، لم تهدأ محاولات واشنطن لإسقاط النظام البوليفاري. العقوبات الاقتصادية، والدعم العلني للمعارضة، ومحاولات الانقلاب، كلها كانت أدوات استخدمتها الإدارات الأميركية المتعاقبة. لكن إدارة ترامب، في نسختها الجديدة، قررت الانتقال من الضغط السياسي إلى التهديد العسكري المباشر.
الحشد البحري الأميركي قبالة السواحل الفنزويلية، والذي يضم مدمرات وغواصات وطائرات مقاتلة، ليس مجرد استعراض للقوة. إنه إعلان صريح بأن واشنطن لم تعد تكتفي بالعقوبات، بل باتت مستعدة لاستخدام القوة لتغيير النظام. هذا الحشد، الذي ترافق مع تحليق قاذفات «B-52» الاستراتيجية، وانتشار صور لسفن «شبح» وتدريبات على طائرات «بلاك هوك»، يعكس رغبة في ترهيب القيادة الفنزويلية، ودفعها إلى الاستسلام أو الرحيل.
كولومبيا.. الحليف الذي أصبح خصماً
لطالما كانت كولومبيا الحليف الأوثق لواشنطن في أميركا اللاتينية. فمنذ بداية القرن، تلقت أكثر من 14 مليار دولار من المساعدات العسكرية الأميركية، تحت شعار مكافحة المخدرات. لكن انتخاب غوستافو بيترو، أول رئيس يساري في تاريخ البلاد، قلب المعادلة. فبيترو، الذي تبنى خطاباً نقدياً تجاه السياسات الأميركية، لم يتردد في وصف الضربات البحرية الأميركية بأنها «جريمة قتل»، بعد مقتل صياد كولومبي في غارة استهدفت قارباً تابعاً لمنظمة «جيش التحرير الوطني».
رد ترامب كان عنيفاً، إذ وصف بيترو بأنه «زعيم المخدرات غير الشرعي»، وأعلن وقف جميع المساعدات والإعانات الأميركية عن بوغوتا. هذا التصعيد، الذي أطاح عقوداً من التحالف الاستراتيجي، يكشف أن واشنطن لم تعد تقبل بأي انحراف عن خطها السياسي، حتى من حلفائها التقليديين.
الحقبة الترامبية.. نزعة شعبوية
لفهم دوافع إدارة ترامب في فتح جبهة مزدوجة ضد فنزويلا وكولومبيا، لا بد من العودة إلى طبيعة الحقبة الترامبية نفسها، التي تميزت بنزعة شعبوية قومية، وعداء واضح للمؤسسات الدولية، وتفضيل الحلول العسكرية على الدبلوماسية. فترامب، الذي بنى خطابه السياسي على فكرة «أميركا أولاً»، لم يكن يرى في التحالفات التقليدية سوى عبء يجب التخلص منه، ما لم تخدم مصالح واشنطن المباشرة. وهذا ما يفسر الانقلاب المفاجئ على كولومبيا، رغم كونها حليفًا تاريخيًا، بمجرد أن خرج رئيسها الجديد عن الخط الأميركي المرسوم.
في هذا السياق، تُستخدم هذه الحرب كأداة مزدوجة، فهي من جهة تبرر التدخل العسكري في فنزويلا، الدولة التي طالما اعتبرها ترامب خصمًا أيديولوجيًا بسبب نظامها الاشتراكي، ومن جهةٍ أخرى تُستخدم لمعاقبة كولومبيا على انحرافها السياسي، عبر وصم رئيسها بهذه الصفة. هذا الخطاب، الذي يخلط بين الأمن والسياسة، يعكس منطقًا ترامبيًا صرفًا، يقوم على تبسيط القضايا المعقدة، وتحويلها إلى معارك أخلاقية بين «الخير والشر»، حيث تحتكر واشنطن تعريف الخير، وتُسقط الشر على من يعارضها.
الأسباب؛ الهيمنة، الطاقة، والموقع الجيوسياسي
بعيدًا عن الخطاب الرسمي، تكمن الأسباب الحقيقية لهذه الحرب في اعتبارات بنيوية تتعلق بالهيمنة الجيوسياسية، والسيطرة على الموارد، وإعادة رسم التحالفات في القارة. ففنزويلا، التي تمتلك أكبر احتياطي نفطي في العالم، تُعد هدفًا استراتيجيًا لأي قوة تسعى إلى تأمين مصادر الطاقة، خاصةً في ظل التوترات المتصاعدة في العالم. أما كولومبيا، فهي ليست فقط بوابة جغرافية مهمة، بل أيضًا مركزًا استخباريًا وعسكريًا لطالما استخدمته واشنطن في عملياتها السرية في أميركا الجنوبية.
إضافةً إلى ذلك، فإن صعود الحكومات اليسارية في المنطقة، وتراجع النفوذ الأميركي في بعض الدول، يدفع واشنطن إلى إعادة فرض سيطرتها عبر أدوات أكثر صلابة. وهنا تأتي هذه الحرب كذريعة مثالية، لأنها لا تحتاج إلى إثباتات، وتسمح بالتدخل تحت غطاء إنساني وأمني، رغم أن الأهداف الحقيقية تتعلق بإسقاط الأنظمة المستقلة، وإعادة تشكيل الخارطة السياسية بما يخدم مصالح واشنطن الاقتصادية والعسكرية.
فوضى بلا حدود
فتح جبهة مزدوجة ضد فنزويلا وكولومبيا يُعد مقامرة خطيرة قد تؤدي إلى زعزعة استقرار الإقليم بأكمله. فالدولتان تشتركان في حدود يبلغ طولها أكثر من 2200 كيلومتر، وهي من أكثر المناطق اضطراباً في العالم، حيث تنشط جماعات ثورية يسارية، وكارتيلات تهريب، ومليشيات محلية. أي ضربة أميركية داخل فنزويلا قد تثير فوضى تمتد بسهولة إلى الأراضي الكولومبية، والعكس صحيح، خاصةً أن الجماعات المسلحة لا تعترف بالحدود السياسية، وتتحرك وفق منطق الميدان لا منطق الدولة.
ردود الفعل الدولية.. حذر وتنديد
لم تمر التحركات الأميركية في الكاريبي دون ردود فعل دولية، وإن كانت متفاوتة في حدتها. فقد عبّر خبراء أمميون عن قلقهم من أن «العمل السري» الأميركي ضد فنزويلا يُعد انتهاكاً لسيادتها وتهديداً للأمن الإقليمي، مؤكدين أن استخدام الذرائع لا يمنح أي دولة الحق في التدخل العسكري في شؤون دولة أخرى. كما صدرت مواقف متحفظة من بعض دول أميركا الجنوبية، التي رأت في التصعيد الأميركي محاولة لإعادة فرض الهيمنة القديمة على القارة، في وقت تسعى فيه الشعوب إلى بناء نماذج سياسية واقتصادية مستقلة.
أما روسيا والصين، الحليفان التقليديان لفنزويلا، فقد اكتفيا حتى الآن بإدانة التصعيد، دون اتخاذ خطوات عملية لردعه، ربما بسبب انشغالهما بجبهات أخرى أكثر إلحاحاً. ومع ذلك، فإن أي تدخل أميركي واسع النطاق قد يدفعهما إلى إعادة النظر في مواقفهما، خاصةً إذا ما تحولت الأزمة إلى حرب إقليمية تهدد مصالحهما الاستراتيجية في نصف الكرة الغربي.
الاتحاد الأوروبي، من جهته، بدا أكثر حذراً، إذ دعا إلى ضبط النفس والحوار، لكنه لم يوجه انتقادات مباشرة لواشنطن، ما يعكس استمرار التبعية السياسية في ملفات الأمن الدولي. أما الأمم المتحدة، فقد اكتفت بإصدار بيانات عامة تدعو إلى احترام السيادة، دون أن تتخذ إجراءات ملموسة لوقف التصعيد، ما يعكس محدودية دورها في مواجهة القوى الكبرى.
حرب على السيادة
الحرب الأميركية الجديدة ليست سوى إعادة إنتاج لاستراتيجية «الحرب على الإرهاب»، لكن في سياق جغرافي مختلف، وبأهداف اقتصادية وسياسية أكثر وضوحاً. إنها حرب على السيادة، وعلى الأنظمة المستقلة، وعلى الموارد. ما يجري في فنزويلا وكولومبيا اليوم، ليس سوى بداية لتحول استراتيجي قد يعيد تشكيل أميركا اللاتينية لعقود قادمة.