طبول الحرب تُقرع في أمريكا اللاتينية

كولومبيا تتحدّى العقوبات.. وفنزويلا تُعبّئ الجيش: هل اقتربت المواجهة؟

من بين جميع العوامل التي تحرك السياسة الخارجية الأميركية تجاه أمريكا الجنوبية، يبقى النفط في صدارة الاهتمامات، خصوصاً في عهد ترامب، الذي يرى في السيطرة على مصادر الطاقة أولوية لا تقبل التفاوض

منذ عقيدة مونرو عام 1823، التي نصّت على اعتبار أمريكا اللاتينية منطقة نفوذ حصري للولايات المتحدة، لم تتوقف واشنطن عن التدخل في شؤون دول الجنوب، سواء عبر الانقلابات العسكرية، أو العقوبات الاقتصادية، أو التدخلات الاستخباراتية، أو حتى الغزوات المباشرة. هذا التاريخ الطويل من الهيمنة لم يكن مجرد إرث استعماري، بل تحوّل إلى استراتيجية دائمة في السياسة الخارجية الأميركية، تهدف إلى ضمان السيطرة على الموارد، وتوجيه السياسات، ومنع نشوء نماذج سياسية واقتصادية مستقلة.

 

وفي السنوات الأخيرة، تصاعدت حدة هذا التسلط، خصوصاً تجاه فنزويلا وكولومبيا، في ظل تحولات سياسية داخلية في البلدين، وصعود حكومات يسارية تسعى إلى فك الارتباط مع الهيمنة الأميركية. ومع وصول دونالد ترامب إلى الحكم، اتخذت هذه السياسات طابعاً أكثر عدوانية، تجلّى في العقوبات، والتهديدات العسكرية، والتجسس، والدعم العلني للمعارضة، وصولاً إلى تصريحات مباشرة عن «عمل قريب على الأرض».

 

 حين يتحول الكشف إلى جريمة

 

في تطور خطير، اتهم الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو الإدارة الأميركية بالسعي إلى «تجريمه سياسياً»، بعد إدراج إسمه في قائمة العقوبات التابعة لوزارة الخزانة الأميركية. بيترو، الذي يُعد أول رئيس يساري في تاريخ كولومبيا الحديث، صرّح بأن السبب الحقيقي وراء العقوبات هو كشفه تمويل وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) لبرنامج التجسس الإسرائيلي «بيغاسوس»، الذي استُخدم لاختراق هواتف معارضين وصحفيين ونشطاء في أمريكا اللاتينية.

 

هذا الاتهام ليس مجرد تصريح عابر، بل يعكس عمق الأزمة بين إدارة ترامب وحكومات يسارية في أمريكا الجنوبية تسعى إلى فضح التدخلات الأميركية. فبرنامج «بيغاسوس»، الذي أثار جدلاً عالمياً بسبب استخدامه في انتهاك الخصوصية، يتحول هنا إلى أداة سياسية تُستخدم ضد من يكشف أسراره، كما حدث مع بيترو، الذي أكد أنه لا يملك دولاراً واحداً في الولايات المتحدة، ولا حساباً يمكن تجميده.

 

كما أكد الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو أن أحد أسباب التصعيد الأميركي ضده هو موقف بلاده الرافض لحرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، وإدانتها العلنية لها في المحافل الدولية. واعتبر أن إدارة ترامب تتصرف بعنجهية، وأن الرد عليها يجب أن يكون بالمقاومة الشعبية والدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية.

 

من الحليف الى الخصم

 

لطالما كانت كولومبيا الحليف الأقرب لواشنطن في أمريكا الجنوبية، خصوصاً في ملف «الحرب على المخدرات»، حيث تلقت دعماً عسكرياً واستخباراتياً واسعاً لعقود. لكن انتخاب بيترو عام 2022 شكّل نقطة تحوّل في هذه العلاقة. فالرئيس الجديد تبنّى خطاباً مناهضاً للنيوليبرالية، ودعا إلى إصلاحات اجتماعية واقتصادية جذرية، وفتح قنوات تواصل مع فنزويلا، العدو اللدود لواشنطن في المنطقة.

 

هذا التحول لم يرق للإدارة الأميركية، التي رأت في بيترو تهديداً لمصالحها الاستراتيجية، خصوصاً في ظل تقاربه مع قوى يسارية أخرى في المنطقة، مثل الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا، والرئيس المكسيكي أندريس مانويل لوبيز أوبرادور.

 

الهدف الدائم في مرمى واشنطن

 

أما فنزويلا، فهي تُمثل حالة أكثر تعقيداً. فمنذ وصول هوغو تشافيز إلى الحكم عام 1999، دخلت البلاد في مواجهة مفتوحة مع الولايات المتحدة، التي لم تتوقف عن دعم المعارضة، وفرض العقوبات، ومحاولة إسقاط النظام بوسائل متعددة. ومع استمرار الرئيس نيكولاس مادورو في الحكم، وتحديه للضغوط الأميركية، تصاعدت حدة التوتر، خصوصاً بعد اتهامات واشنطن لفنزويلا بأنها مركز لتهريب المخدرات، وتلميحات ترامب الأخيرة عن «عمل قريب على الأرض».

 

 الكاريبي على حافة الانفجار

 

في الأسابيع الأخيرة، شهدت منطقة الكاريبي تصعيداً عسكرياً غير مسبوق، مع نشر الولايات المتحدة حاملة الطائرات «جيرالد فورد»، وسفن حربية، وطائرات استطلاع، قرب السواحل الفنزويلية. وفي المقابل، أعلن مادورو تعبئة 25 ألف جندي على الحدود البحرية والبرية، تحسباً لأي عدوان محتمل.

 

هذا التصعيد لا يمكن فصله عن السياق السياسي الأوسع، حيث تسعى واشنطن إلى فرض إرادتها على حكومات أمريكا الجنوبية، عبر استعراض القوة، وفرض العقوبات، ودعم المعارضة. لكن هذه السياسات قد تؤدي إلى نتائج عكسية، إذ تدفع الدول المستهدفة إلى تعزيز تحالفاتها مع قوى دولية أخرى، مثل روسيا والصين، ما يهدد بتدويل الصراع وتحويله إلى مواجهة إقليمية أو حتى عالمية.

 

صوت العقل في زمن التصعيد

 

في خضم هذا التوتر، برز صوت الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا، الذي دعا إلى احترام سيادة دول أمريكا اللاتينية، ورفض التدخلات العسكرية، واقترح نهجاً بديلاً يقوم على التعاون الإقليمي في مكافحة المخدرات. لولا، الذي يتمتع بثقل سياسي واقتصادي كبير، حذّر من أن «أمريكا اللاتينية لم تعد بحاجة إلى المزيد من الغزوات»، في إشارة واضحة إلى السياسات الأميركية العدوانية.

 

تصريحات لولا تعكس تحوّلاً في المزاج السياسي الإقليمي، إذ تسعى دول الجنوب إلى بناء نموذج مستقل، بعيداً عن الهيمنة الأميركية، يقوم على العدالة الاجتماعية، والتكامل الاقتصادي، والتعاون الأمني، بدلاً من التبعية والتدخلات.

 

النفط.. هاجس ترامب

 

من بين جميع العوامل التي تحرك السياسة الخارجية الأميركية تجاه أمريكا الجنوبية، يبقى النفط في صدارة الاهتمامات، خصوصاً في عهد ترامب، الذي يرى في السيطرة على مصادر الطاقة أولوية استراتيجية لا تقبل التفاوض. فنزويلا، التي تمتلك أكبر احتياطي نفطي مؤكد في العالم، كانت دائماً هدفاً مغرياً للولايات المتحدة، لكن هذا الطمع بلغ ذروته في السنوات الأخيرة، مع تصاعد الأزمة الاقتصادية والسياسية في البلاد، وتراجع إنتاج النفط بسبب العقوبات والحصار.

 

ترامب، الذي لا يخفي عداءه للنظام الفنزويلي، صرّح مراراً بأن «النفط الفنزويلي يجب أن يكون في أيدٍ أفضل»، في إشارة إلى رغبة واشنطن في إعادة هيكلة القطاع النفطي الفنزويلي بما يخدم مصالح الشركات الأميركية. وقد تجلّى هذا الهوس بالنفط في دعم إدارة ترامب لمحاولات المعارضة الفنزويلية السيطرة على شركة النفط الوطنية، وتجميد أصولها في الخارج، وتحويل عائداتها إلى كيانات موالية لواشنطن.

 

لكن الأمر لا يقتصر على فنزويلا. فكولومبيا أيضاً تُعد منتجاً نفطياً مهماً، وتملك احتياطيات كبيرة من الغاز الطبيعي، وتُعتبر بوابة استراتيجية لتصدير الطاقة من أمريكا الجنوبية إلى الأسواق العالمية. ومع وصول بيترو إلى الحكم، وتعهده بإعادة النظر في عقود الطاقة، وتعزيز الرقابة على الشركات الأجنبية، بدأت واشنطن تشعر بالقلق من فقدان نفوذها في هذا القطاع الحيوي.

 

العقوبات.. أداة سياسية بامتياز

 

العقوبات الأميركية، التي طالت الرئيس بيترو، ليست مجرد إجراء قانوني، بل هي أداة سياسية تُستخدم لمعاقبة الحكومات التي تخرج عن الطاعة. فالعقوبات لا تُفرض بناءً على أدلة قانونية، بل على مواقف سياسية، كما أشار بيترو نفسه، حين قال: «أُدرج اسمي في قائمة العقوبات لأنني قلت الحقيقة».

 

هذا الاستخدام السياسي للعقوبات يثير قلقاً واسعاً في أمريكا اللاتينية، إذ تخشى العديد من الحكومات أن تتحول إلى أهداف مستقبلية، إذا ما تجرأت على انتقاد السياسات الأميركية، أو تبنّت سياسات مستقلة. كما أن العقوبات تؤثر بشكل مباشر على الشعوب عبر تقييد الوصول إلى الغذاء والدواء والخدمات الأساسية، ما يجعلها أداة غير أخلاقية، تُستخدم لتحقيق أهداف جيوسياسية على حساب حقوق الإنسان.

 

تشكيل محور إقليمي مضاد للهيمنة الأميركية

 

رغم التباين الأيديولوجي بين حكومتي كولومبيا وفنزويلا، إلا أن التهديد الأميركي المشترك دفعهما إلى تقارب غير مسبوق. فكِلا البلدين يواجهان الآن ضغوطاً اقتصادية، وعقوبات، وتهديدات عسكرية، وتدخلاً في شؤونهما الداخلية. هذا الواقع الجديد قد يدفعهما إلى تعزيز التعاون الأمني والاقتصادي، وربما تشكيل محور إقليمي مضاد للهيمنة الأميركية.

 

وفي مواجهة هذا التسلط، بدأت دول أمريكا الجنوبية في البحث عن نموذج جديد يقوم على السيادة، والتكامل الإقليمي، والتعاون جنوب-جنوب. فمبادرات مثل «ألبا»، و«سيلك»، و«ميركوسور»، تسعى إلى بناء منظومة اقتصادية وسياسية مستقلة، تُقلل من الاعتماد على الولايات المتحدة، وتعزز التعاون بين دول الجنوب.

 

هذا النموذج لا يزال في بداياته، ويواجه تحديات كبيرة، من الانقسامات الداخلية، إلى الضغوط الخارجية، إلى ضعف البنية التحتية. لكن الإرادة السياسية، كما تجلّت في مواقف بيترو ولولا ومادورو، تُشير إلى إمكانية بناء مستقبل مختلف، يقوم على العدالة، والاحترام المتبادل، والتنمية المستقلة.

 

أمريكا الجنوبية في مفترق طرق

 

في ضوء هذه التطورات، تبدو أمريكا الجنوبية أمام مفترق طرق تاريخي. فإما أن تستسلم للهيمنة الأميركية، وتقبل بسياسات العقوبات والتدخلات، أو أن تسلك طريقاً جديداً يقوم على السيادة، والتكامل الإقليمي، والتعاون مع قوى دولية متعددة.

 

المصدر: الوفاق/ خاص