في أكتوبر/تشرين الأول 2025، أعلنت روسيا عن نجاح تجربة نهائية لصاروخ «بوريفيستنيك» النووي المجنح، وهو سلاح يوصف بأنه «فريد من نوعه» ويمتلك مدى غير محدود. هذا الإعلان لم يكن مجرد خبر تقني، بل جاء في لحظة جيوسياسية مشحونة، وسط استمرار الحرب في أوكرانيا، وتصاعد التوترات بين موسكو والغرب، وتنامي سباق التسلح النووي.
ردود الفعل الدولية لم تتأخر، إذ وصف دونالد ترامب التجربة بأنها «غير مناسبة»، داعيًا نظيره الروسي فلاديمير بوتين إلى التركيز على إنهاء الحرب بدلًا من اختبار الصواريخ. وبينما يرى البعض في «بوريفيستنيك» إنجازًا تقنيًا غير مسبوق، يعتبره آخرون تهديدًا للاستقرار العالمي، وعودة إلى منطق الردع النووي الذي ساد في الحرب الباردة.
تعريف تقني وسياق تاريخي
بوريفيستنيك (9M730)، المعروف لدى حلف الناتو باسم SSC-X-9 Skyfall، هو صاروخ كروز يُطلق من الأرض ويعمل بالدفع النووي. على عكس الصواريخ التقليدية التي تستخدم الوقود الكيميائي، يحتوي بوريفيستنيك على مفاعل نووي صغير يولّد حرارة لدفع الهواء وإنتاج الدفع، ما يمنحه قدرة على التحليق لمسافات طويلة جدًا وعلى ارتفاعات منخفضة.
وهو يتميّز بمجموعة من الخصائص التقنية التي تجعله فريدًا في عالم التسليح الاستراتيجي. فهو يتمتع بمدى غير محدود نظريًا، إذ يستطيع التحليق لساعات طويلة أو حتى أيام، بفضل نظام الدفع النووي الذي يزوّده بطاقة مستمرة. كما يحلق على ارتفاع منخفض يتراوح بين 50 و100 متر، ما يصعّب على الرادارات التقليدية رصده أو تتبعه. ورغم أن سرعته دون سرعة الصوت، وهو ما يثير جدلًا حول قابليته للاعتراض، إلا أن مساره غير المتوقع يمنحه قدرة على تجاوز أنظمة الدفاع الصاروخي الحديثة. إلى جانب ذلك، يتمتع الصاروخ بقدرة على حمل رؤوس نووية، ما يجعله سلاحًا فعالًا في منظومة الردع النووي، وقادرًا على ضرب أهداف استراتيجية في عمق أراضي الخصوم دون إنذار مسبق.
وقد بدأ تطوير «بوريفيستنيك» بعد انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الحد من أنظمة الدفاع الصاروخي عام 2001، وهو ما اعتبرته موسكو تهديدًا مباشرًا لتوازن الردع العالمي. منذ ذلك الحين، كثّفت روسيا جهودها لتطوير أسلحة قادرة على تجاوز المنظومات الدفاعية الأميركية، من ضمنها الصواريخ فرط الصوتية «أفانغارد»، «كينغال»، و«تسيركون»، إلى جانب بوريفيستنيك الذي يُعد تتويجًا لهذه الاستراتيجية.
استعراض القوة الروسية
في 21 أكتوبر/ تشرين الأول 2025، أجرت روسيا تجربة نهائية لصاروخ «بوريفيستنيك»، حيث قطع مسافة 14 ألف كيلومتر خلال 15 ساعة من التحليق، وفقًا لرئيس هيئة الأركان العامة الروسية فاليري غيراسيموف. وأكد أن هذه المسافة ليست الحد الأقصى لقدراته، مشيرًا إلى أن الصاروخ أثبت قدرته على تجاوز أنظمة الدفاع الصاروخي.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وصف السلاح بأنه «ابتكار فريد لا أحد غيرنا يمتلكه في العالم»، مشددًا على أن الأهداف الرئيسية للاختبار قد تحققت، وأن العمل جارٍ لإدخاله الخدمة القتالية.
الأهمية الاستراتيجية للصاروخ
«بوريفيستنيك» يُعد جزءًا من منظومة الردع النووي الروسية، ويهدف إلى تعزيز قدرة موسكو على الرد في حال تعرضها لهجوم نووي. بفضل مداه غير المحدود ومساره غير المتوقع، يمكنه تجاوز أنظمة الدفاع الصاروخي الأميركية مثل «ثاد»، ما يجعله سلاحًا مثاليًا للرد الثاني في سيناريوهات الحرب النووية.
القدرة على التحليق لساعات أو أيام تمنح الصاروخ ميزة «التربص»، أي البقاء في الجو بانتظار الأمر بالهجوم، مما يخلق حالة من الضغط النفسي والعسكري على الخصوم، ويصعّب اتخاذ قرارات هجومية ضد روسيا. بفضل ارتفاعه المنخفض ومساره غير المنتظم، يصعب على الرادارات التقليدية رصده، ما يجعله قادرًا على اختراق الدفاعات الجوية حتى في أكثر المناطق تحصينًا.
ردود الفعل الدولية – بين القلق والتحذير
دونالد ترامب وصف التجربة بأنها «غير مناسبة»، مشيرًا إلى أن بوتين «ينبغي أن يضع حدًا للحرب في أوكرانيا بدلًا من اختبار الصواريخ». كما أشار إلى أن الولايات المتحدة تمتلك غواصات نووية قبالة السواحل الروسية، في تلميح إلى التوازن النووي القائم.
رغم عدم صدور بيان رسمي، فإن حلف الناتو ينظر إلى «بوريفيستنيك» كتهديد مباشر لقدراته الدفاعية، خاصةً أن الصاروخ مصمم لتجاوز أنظمة الاعتراض الغربية، ما يضع الحلف أمام تحديات جديدة في مجال الدفاع الصاروخي.
الخبير العسكري الصيني سونغ تشونغ بينغ اعتبر أن بوريفيستنيك «يستطيع تغيير موازين القوى النووية الاستراتيجية في العالم»، مشيرًا إلى أن روسيا أصبحت أول دولة تطور صواريخ تعمل بالطاقة النووية، وليس فقط رؤوس نووية على صواريخ تقليدية.
الأبعاد السياسية والعسكرية
إعلان روسيا عن نجاح التجربة يأتي في وقت حساس، حيث تتصاعد الضغوط الغربية على موسكو بسبب الحرب في أوكرانيا، والعقوبات الاقتصادية، والدعم العسكري لكييف. «بوريفيستنيك» يُعد رسالة واضحة بأن روسيا لا تزال تمتلك أوراقًا استراتيجية قوية.
الصاروخ يعزز موقع روسيا كقوة عظمى في مجال الأسلحة النووية، ويمنحها قدرة تفاوضية أكبر في المحافل الدولية، خاصةً في ظل تعثر محادثات الحد من التسلح النووي.
في المقابل، قد يؤدي هذا التطور إلى تصعيد سباق التسلح النووي، حيث تسعى الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى تطوير أنظمة دفاعية جديدة، وربما أسلحة مماثلة، ما يعيد العالم إلى أجواء الحرب الباردة.
مستقبل بوريفيستنيك
بوتين أكد أن العمل جارٍ لإدخاله إلى الخدمة القتالية، ما يعني أنه سيكون جزءًا من الترسانة النووية الروسية، إلى جانب صواريخ «سارمات» الباليستية العابرة للقارات، والغواصات النووية.
وجود صاروخ بمدى غير محدود ومسار غير متوقع قد يغير قواعد الاشتباك النووي، ويجبر الخصوم على إعادة النظر في استراتيجياتهم الدفاعية والهجومية.
إذا تم إدماجه فعليًا في العقيدة العسكرية الروسية، فقد يؤدي ذلك إلى تغيير في موازين القوى النووية، ويزيد من تعقيد جهود الحد من انتشار الأسلحة النووية.
بوريفيستنيك في سياق الحرب في أوكرانيا
لا يمكن فصل تجربة «بوريفيستنيك» عن الحرب المستمرة في أوكرانيا، والتي دخلت عامها الرابع رغم التوقعات الروسية بأنها ستُحسم خلال أسبوع. في ظل تعثر المفاوضات، وتزايد الدعم الغربي لكييف، تسعى موسكو إلى فرض معادلة ردع جديدة، تُظهر فيها قدرتها على التصعيد النووي إذا ما اقتضت الضرورة.
كما أن تصريحات ترامب حول ضرورة إنهاء الحرب تعكس إدراكًا أميركيًا بأن استمرار النزاع يفتح الباب أمام تصعيدات غير محسوبة، خاصةً إذا ما اقترنت بتجارب أسلحة استراتيجية مثل «بوريفيستنيك».
الصاروخ.. نقلة نوعية أم مخاطرة؟
هذه التقنية تفتح الباب أمام سباق جديد لتطوير صواريخ مماثلة، ما يهدد بتوسيع دائرة الانتشار النووي، ليس فقط على مستوى الرؤوس، بل على مستوى أنظمة الدفع نفسها. وهذا يُعد خرقًا غير مباشر للمعاهدات الدولية التي تسعى للحد من استخدام الطاقة النووية في التطبيقات العسكرية غير التقليدية.
كما أن تطوير صاروخ بوريفيستنيك يطرح تساؤلات جدية حول مستقبل معاهدات الحد من التسلح النووي، مثل معاهدة «ستارت الجديدة» ومعاهدة «عدم الانتشار النووي». فالصاروخ لا يندرج ضمن التصنيفات التقليدية للأسلحة النووية، إذ لا يعتمد فقط على الرأس النووي، بل على الدفع النووي ذاته، ما يجعله خارج نطاق الرقابة الحالية.
بوريفيستنيك كأداة دبلوماسية
رغم طبيعته العسكرية، فإن بوريفيستنيك يُستخدم أيضًا كأداة دبلوماسية. فإعلان نجاح تجربته جاء قبل أيام من جولة آسيوية لترامب، تشمل لقاءات مع قادة اليابان، كوريا الجنوبية، والصين. هذا التوقيت لم يكن صدفة، بل رسالة واضحة بأن روسيا لا تزال لاعبًا أساسيًا في المعادلة الدولية.
كما أن بوتين، خلال زيارته لمركز قيادة القوات المشتركة، شدد على أن «لا نظير لهذا الصاروخ في العالم»، في محاولة لتأكيد تفوق روسيا العسكري، وتعزيز موقعها التفاوضي في أي محادثات مستقبلية حول الأمن الإقليمي أو العالمي.
في المقابل، فإن الولايات المتحدة وحلف الناتو قد يستخدمان هذا التطور لتبرير زيادة الإنفاق العسكري، وتوسيع نطاق الدفاعات الصاروخية، ما يعيد العالم إلى منطق التوازن عبر القوة، بدلًا من الحوار والدبلوماسية.
الإعلام والرأي العام؛ بين الإعجاب والقلق
الرأي العام العالمي منقسم بين من يرى في بوريفيستنيك ابتكارًا تقنيًا مثيرًا للإعجاب، ومن يعتبره خطوة نحو سباق تسلح نووي جديد، قد يؤدي إلى كوارث غير مسبوقة.
ختاماً هل سيكون «بوريفيستنيك» بداية لعصر جديد من الردع النووي الذكي؟ أم أنه مجرد استعراض قوة في زمن الأزمات؟ الإجابة ستتضح في السنوات القادمة، لكن المؤكد أن العالم بات أكثر تعقيدًا، وأكثر حاجة إلى الحكمة والتعاون.