من دم الشهادة إلى وعي القيادة..

الشيخ نعيم قاسم ومسار المقاومة.. بين الثبات والتحوّل

خاص الوفاق: يرسم الشيخ نعيم قاسم في خطابه ملامح المرحلة المقبلة لحزب الله كمرحلة توازن بين الثبات والتجديد

 

د.أكرم شمص

 

في الذكرى السنوية الأولى لتولّي الشيخ نعيم قاسم منصب الأمين العام لحزب الله، قدّمت مقابلته مع «المنار» خارطة طريقٍ واضحةً للمرحلة المقبلة تقوم على ثلاثة أبعاد متداخلة: معالجة الملفات الداخلية والحفاظ على تماسك الدولة والمجتمع، وإدارة الجغرافيا الحدودية واستمرارية قدرة الردع، وإعادة ضبط العلاقة الإقليمية والدولية في ضوء المكتسبات والتوازنات. جاء الخطاب مزيجًا من رسائل طمأنة للجماهير، تحذيرٍ للعدو، ودعوةٍ للمؤسسات الوطنية لتحمّل مسؤولياتها، مما وضع احزب الله في موقعٍ متوازنٍ بين استمرارية المقاومة ومسؤولية الدولة.

 

المحور الأوّل: المقاومة والسلاح والجاهزية

 

يُقدّم الشيخ نعيم قاسم في خطابه معادلة دقيقة تقوم على الردع الواعي لا الاندفاع الحربي؛ فـ«احتمال الحرب موجود لكنه غير مؤكد»، ما يعني أن قرار المواجهة ليس بيد المقاومة بل مرهون بحسابات العدو، فيما تبقى الجهوزية قائمة لحماية الأرض والناس. فالسلاح عنده ليس أداة هجوم بل رمزٌ للحقّ في الدفاع، وآلية ردع تُبقي الخصم في حالة حذر دائم، مع تأكيد أن تجربة «أولي البأس» رسّخت قاعدة فائض القوة التي تمنع العدو من تحقيق أي مكسب استراتيجي. غير أن الخطاب يتجاوز الطابع العسكري ليُعيد تعريف المقاومة كـ حالة وجودية وأخلاقية؛ فـ«نحن لا نتعب» ليست شعارًا تعبويًا بل تعبير عن يقينٍ إيماني يرى في الصمود استمرارًا للكرامة وفي السلاح التزامًا بحماية الحياة لا تهديدها. وهكذا يُحوِّل الشيخ قاسم الجهوزية العسكرية إلى قيمة روحية وأخلاقية تؤكّد أن أمن الوطن لا يُقاس بعدد الصواريخ بل بعمق الإيمان الذي يحرسها.

 

المحور الثاني: القيادة الجماعية بين وصية الشهيد الأسمى واستمرار النهج مع الشيخ نعيم قاسم

 

يكرّس الشيخ نعيم قاسم في مقابلته مبدأ القيادة الجماعية التي أرساها الشهيد الأسمى السيد حسن نصر الله، مؤكداً أن القيادة في حزب الله ليست سلطة فردية بل أمانة شوروية تُدار بعقل الجماعة وإرادتها الإيمانية. فالقائد ليس من ينفرد بالقرار، بل من يجسّد وعي الجماعة وروحها الجامعة، ويتعامل مع موقعه كتكلّفٍ بالمسؤولية لا امتيازاً بالسلطة. بهذا الفهم، تستمر مدرسة الشهيد الأسمى عبر الشيخ نعيم قاسم الذي يُقدّم نموذج القائد الشريك لا الآمر، والخادم للميدان لا المتقدّم عليه، ليؤكد أن الشرعية تُستمدّ من المشاركة في صنع القرار وخدمة الناس وحماية الوطن. وعلى هذا الأساس، يثبّت العلاقة التكاملية بين الجيش والشعب والمقاومة كركيزة للسيادة الوطنية، حيث تكون المقاومة مكمّلة لدور الجيش لا بديلة عنه، والدولة شريكاً لا خصماً. وبدعوته إلى تنسيق مؤسساتي واستراتيجية دفاعية وطنية، يوازن الشيخ قاسم بين عقيدة المقاومة وشرعية الدولة، في رؤيةٍ تجعل من التكامل لا التنافس طريقاً لبناء أمنٍ وطنيٍّ راسخٍ يجمع بين الإيمان والسيادة.

 

المحور الثالث: السلاح والإعمار.. بين قداسة الدفاع وقداسة البناء

 

في خطاب الشيخ نعيم قاسم، يتوحّد معنى السلاح ومعنى الإعمار تحت مظلة واحدة هي قداسة الوجود الإنساني المقاوم. فالسلاح في رؤيته ليس أداة قتل، بل رمزٌ للحقّ في وجه الباطل، وصلاةٌ تُؤدّى بلغة النار حين يعجز المنطق عن حماية العدالة. وهو استمرار للعقيدة التي حملها الشهيد الأسمى السيد حسن نصر الله، حيث يصبح الدفاع عن الوطن فعلاً من أفعال التوحيد، لا ممارسة عنفٍ عابر. وفي المقابل، يرى قاسم أنّ إعادة الإعمار ليست مشروعاً عمرانياً فحسب، بل ترجمة للإيمان بعد الصمود؛ فكل حجر يُعاد بناؤه هو شاهد على أن المقاومة لا تهدم لتنتصر، بل تبني لتخلّد النصر. لذا، يجعل من الدولة شريكاً أولاً في هذا التكليف الوطني، داعياً إياها لتحمّل مسؤولياتها الأخلاقية والاقتصادية، فيما تبقى المقاومة الضامن الروحي لاستمرار الإرادة. وهكذا يلتقي السلاح والإعمار في رؤية واحدة: حماية الحياة وصون الكرامة، بالقوة حيناً وبالعمل حيناً آخر.

 

المحور الرابع: الداخل السياسي وتوازن العلاقات.. تهدئة في الخطاب وثبات في الموقف

 

اعتمد الشيخ نعيم قاسم في مقاربته للشأن الداخلي خطاب التهدئة والتوازن، مؤكدًا رغبة الحزب في التعاون مع رئيس الحكومة نواف سلام وتجنّب الخلافات العلنية حفاظًا على الاستقرار السياسي، ومكرّسًا في الوقت نفسه العلاقة المتينة مع الرئيس نبيه برّي بوصفها نموذجًا للتنسيق الوطني في إدارة مرحلة ما بعد الحرب. وشدّد على ضرورة إجراء الانتخابات في موعدها التزامًا بالقانون النافذ، داعيًا الدولة إلى تحمّل مسؤولياتها في إطلاق ورشة الإعمار وتفعيل مواردها لمنع استغلال ملف النازحين لضرب الحاضنة الشعبية للمقاومة. كما جدّد التأكيد على أنّ الناس هم قلب المشروع المقاوم ومحور صموده، مستشهدًا باستمرار التعبئة والحضور الشعبي بعد استشهاد الشهيد الاسمى السيد نصر الله. وعلى المستوى القانوني، فرّق بين اتفاق وقف الأعمال العدائية لعام 2024 والقرار 1701، ليكرّس أنّ قرار السلاح وسيادة الأرض شأن لبناني خالص، وليؤكد أنّ خيار الردع القائم هو ثمرة وعيٍ سياسيٍّ يحمي الاستقرار ولا يناقضه.

 

المحور الخامس: الانفتاح الإنساني واستمرارية القيادة.. من روح الشهادة إلى وعي البناء

 

يُقدّم الشيخ نعيم قاسم في خطابه رؤيةً تتجاوز الجغرافيا السياسية إلى البعد الإنساني للمقاومة، حيث يمدّ اليد نحو الآخر – كما في دعوته إلى فتح صفحة جديدة مع السعودية – من موقع القوة الأخلاقية لا من موقع التنازل. فالمقاومة في نظره ليست نفيًا للآخر بل دعوةٌ لإصلاحه بالقدوة، امتدادًا لنهج الشهيد الأسمى السيد حسن نصر الله الذي جعل من الرحمة وجهًا من وجوه القوة. وفي عمق الخطاب، تتجلّى مكانة الناس بوصفهم قلب المشروع وروحه؛ فهم ليسوا جمهورًا داعمًا، بل جوهر الوجود المقاوم ومستودع النور الذي يُستمدّ منه القرار والشرعية. ومع انتقال القيادة إلى زمنٍ جديد بعد رحيل الشهيد الاسمى السيد نصر الله، يرسّخ قاسم مفهوم “الوراثة الروحية” حيث تستمر المسيرة بالمنهج لا بالوجوه، وبالثبات لا بالشخصنة. أما العلاقة مع إيران، فتوضع في إطار الإسناد لا الوصاية، لتأكيد استقلالية القرار الوطني. وهكذا يرسم الشيخ نعيم قاسم ملامح مرحلة الوعي والبناء بعد الشهادة، حيث تُدار المقاومة بعقل الجماعة، وتُمارس الرحمة بوصفها أعلى مراتب القوة، ويُصان النصر بالوفاء لجوهر الرسالة لا لرمزها وحده.

 

الخاتمة: رؤى مستقبلية وتحديات المرحلة المقبلة

 

يرسم الشيخ نعيم قاسم في خطابه ملامح المرحلة المقبلة لحزب الله كمرحلة توازن بين الثبات والتجديد، حيث تبقى المقاومة ركيزة الدفاع الوطني دون أن تنفصل عن مؤسسات الدولة، في معادلة “دولة + مقاومة” تحفظ الهوية وتمنع التصادم. ويؤكد أن السلاح دفاعٌ مشروعٌ لا غايةً بذاته، وأن الدولة تتحمّل مسؤولية الإعمار وإدارة الاقتصاد، فيما تظل المقاومة حاضرة كضمانةٍ أخلاقية إذا تعثّرت المؤسسات. داخليًا، ويدرك حزب الله أن شرعيته تُبنى على تحويل الصمود إلى عدالةٍ اجتماعية وبناءٍ وطني، فيما يُوازن الخطاب بين الردع والحكمة، وبين القوة والإصلاح، ليقدّم نموذج المقاومة كقوةٍ عقلانيةٍ تُدير النصر بقدر ما تصنعه. وهكذا يُغلق قاسم عامه الأول على قيادةٍ تنضج النهج ولا تغيّره، استمرارٍ واعٍ لمدرسة الشهيد الأسمى السيد حسن نصر الله، حيث تتطوّر المقاومة من لغة المواجهة إلى منطق الإدارة الراشدة، ومن فعلٍ عسكري إلى مشروعٍ وطنيٍّ أخلاقيٍّ يصون الدم ويبني الحياة، لتصبح القيادة ضمير الدولة لا نقيضها، والنصر الحقيقي في تحويل الإيمان إلى نظامٍ يحفظ الوطن والإنسان معًا.

 

ا

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص