لطالما شكّلت السياسات الاقتصادية لدونالد ترامب محور جدل واسع في الأوساط السياسية والاقتصادية، نظراً لما حملته من تحولات جذرية في بنية النموذج الاقتصادي الأميركي، وتحديات مباشرة للنظام العالمي القائم على العولمة والتجارة الحرة. وقد جرى اختزال سياساته، خصوصاً الاقتصادية منها، في توصيفات سطحية مثل «الجنون» أو«الشعبوية»، دون الغوص في البنية العميقة التي تحكم هذه التوجهات. غير أن قراءة متأنية في هذه السياسات تكشف عن مشروع متكامل يسعى إلى إعادة تشكيل النموذج الاقتصادي الأميركي، وتثبيت الهيمنة العالمية للدولار، عبر أدوات غير تقليدية، تتراوح بين الحمائية التجارية والضغط السياسي والاقتصادي على الدول الأخرى.
إعادة تعريف النموذج الاقتصادي الأميركي
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، اعتمدت الولايات المتحدة نموذجاً اقتصادياً قائماً على العجز التجاري المموّل بالدولار، حيث تستورد السلع وتصدّر العملة. هذا النموذج، وإن بدا ناجحاً لعقود، بات في نظر ترامب ومحيطه محفوفاً بالمخاطر، خصوصاً مع بروز قوى اقتصادية بديلة مثل الصين، وتزايد الدعوات العالمية إلى فك الارتباط بالدولار كعملة احتياطية. من هنا، جاءت سياسات ترامب المالية كنوع من «الانقلاب» على هذا النموذج، عبر فرض تعرفات جمركية، وإعادة التفاوض على الاتفاقات التجارية، ومحاولة استعادة الصناعات إلى الداخل الأميركي.
الهيمنة بالدولار.. سلاح ذو حدين
الدولار الأميركي لم يكن مجرد عملة، بل أداة هيمنة سياسية واقتصادية. استخدمته واشنطن لفرض العقوبات، والتحكم في حركة التجارة العالمية، وفرض شروطها على الدول الأخرى. لكن هذا السلاح بدأ يفقد بريقه، مع تزايد الحديث عن بدائل نقدية، وتنامي انعدام الثقة في السياسات الأميركية. ترامب، الذي يدرك هشاشة هذا الوضع، حاول عبر سياساته أن يعيد ضبط التوازن، عبر تقليص الاعتماد على الخارج، وتعزيز الإنتاج المحلي، حتى لو كان ذلك على حساب المبادئ الليبرالية التي قامت عليها العولمة.
الاقتصاد الانتخابي؛ استرضاء القاعدة البيضاء
لا يمكن فصل السياسات الاقتصادية لترامب عن حساباته الانتخابية. فترامب يدرك أن قاعدته الأساسية تتكوّن من البيض ذوي الدخل المتوسط والمنخفض، الذين تضرروا من العولمة وتراجع القطاعين الصناعي والزراعي. من هنا، جاءت سياساته لتخاطب هذه الفئة، عبر وعود بإعادة المصانع، وخلق فرص العمل، ومحاربة الهجرة التي يُنظر إليها كتهديد مباشر لمصالحهم الاقتصادية والثقافية. لكن هذه السياسات، وإن بدت منطقية على الورق، اصطدمت بواقع اقتصادي أكثر تعقيداً.
العصا الغليظة بدل القوة الناعمة
في سابقة نادرة، تخلّى ترامب عن إرث «القوة الناعمة» الأميركية، ولجأ إلى ما يمكن تسميته بـ«القوة الخشنة» في العلاقات الاقتصادية. فرض تعرفات جمركية على الحلفاء والخصوم على حدٍ سواء، وهدّد بسحب الاستثمارات، وابتزّ الدول لإعادة الصناعات إلى الداخل الأميركي. هذه السياسات، وإن حققت بعض المكاسب الآنية، إلا أنها خلقت توترات دولية، وأثارت ردود فعل انتقامية، خصوصاً من الصين، التي ردّت بتعرفات مضادة، ما أضعف الأثر الإيجابي للإجراءات الأميركية.
فجوة بين الخطاب والواقع
رغم الخطاب المتفائل الذي رافق هذه السياسات، إلا أن الواقع الاقتصادي الأميركي بدأ يُظهر علامات التراجع. معدلات التوظيف وصلت إلى أدنى مستوياتها منذ الأزمة المالية في 2009، والتضخم عاد للارتفاع، فيما بقيت الأجور راكدة. الأهم من ذلك، أن القيود المفروضة على الهجرة بدأت تؤتي نتائج عكسية، مع تقلص القوى العاملة، وازدياد النقص في قطاعات حيوية مثل الزراعة والرعاية الصحية. المفارقة أن الولايات المتحدة، التي تسعى لطرد المهاجرين، باتت بحاجة ماسة إليهم للحفاظ على استقرارها الاقتصادي.
حرب تجارية بنتائج ملتبسة
الحرب التجارية التي أطلقها ترامب ضد الصين عام 2018 كانت أحد أبرز معالم سياساته الاقتصادية. ورغم أن بعض الدراسات أشارت إلى أنها ساهمت في خلق أعمال جديدة داخل الولايات المتحدة، إلا أن الصورة الكاملة تبدو أكثر تعقيداً. فالتعرفات الانتقامية التي فرضتها الصين أضعفت المكاسب الأميركية، وأثّرت سلباً على قطاعات مثل الزراعة والصناعة. كما أن الشركات الأميركية، بدلاً من الاستفادة من الحماية الجمركية، اضطرت إلى تحمّل التكاليف المرتفعة، ما قلّص من هوامش أرباحها، وأثّر على قدرتها التنافسية.
الاقتصاد التقليدي في مواجهة الاقتصاد الرقمي
في خضم هذه التحولات، برزت مفارقة لافتة، بينما كانت قطاعات مثل وول ستريت والتكنولوجيا تحقق أرباحاً قياسية، كان الاقتصاد التقليدي يتراجع تحت وطأة السياسات الحمائية. هذا التباين خلق فجوة جديدة داخل الاقتصاد الأميركي، بين من يستفيد من الثورة الرقمية، ومن يعاني من تراجع الصناعات التقليدية. وهو ما يطرح تساؤلات حول مدى قدرة سياسات ترامب على تحقيق العدالة الاقتصادية، أو حتى الحفاظ على التوازن بين القطاعات المختلفة.
الهجرة.. معضلة لا يمكن تجاهلها
من أبرز التحديات التي واجهت سياسات ترامب الاقتصادية كانت مسألة الهجرة. فبينما سعى إلى تقليص أعداد المهاجرين، بحجة حماية فرص العمل للأميركيين، أظهرت الدراسات أن هذا التوجه قد يؤدي إلى تقليص القوى العاملة بملايين الأشخاص في العقد المقبل. هذا النقص في العمالة يهدد قطاعات حيوية، مثل الزراعة والصحة، ويضعف القدرة الإنتاجية للبلاد. بل إن بعض المناطق، مثل وادي كوتشيلا في كاليفورنيا، شهدت اضطرابات اجتماعية واقتصادية بسبب مداهمات الهجرة، ما يعكس التناقض بين الأهداف السياسية والاحتياجات الاقتصادية الفعلية.
التكنولوجيا والرقائق.. معارك جديدة
لم تقتصر سياسات ترامب على التجارة التقليدية، بل امتدت إلى معارك التكنولوجيا والرقائق الإلكترونية، إذ فرض قيوداً صارمة على الشركات الصينية، ومنعها من الوصول إلى تقنيات أميركية متقدمة. هذه السياسات، التي تندرج ضمن استراتيجية «الفصل التكنولوجي»، تهدف إلى منع الصين من اللحاق بالولايات المتحدة في مجالات الذكاء الاصطناعي والحوسبة المتقدمة، لكنها في المقابل أثارت مخاوف من تفكك سلاسل التوريد العالمية، وارتفاع تكاليف الإنتاج، وتباطؤ الابتكار.
الرسوم الجمركية تنعكس على المستهلك الأميركي
رغم أن الرسوم الجمركية كانت تهدف إلى تقليص العجز التجاري ودعم الصناعات المحلية، إلا أنها تسببت في ارتفاع معدلات التضخم وزيادة تكاليف الاستيراد، ما انعكس مباشرة على المستهلك الأميركي. تقرير صادر عن «مورغان ستانلي» أشار إلى أن التعريفات الجمركية، رغم مساهمتها في خلق بعض الوظائف، أدّت إلى تآكل هوامش الربح لدى الشركات، وقلّصت القدرة الشرائية للمواطنين، خصوصاً في الطبقة الوسطى.
الاقتصاد الأميركي بين الانكماش والابتكار
في ظل هذه السياسات، يواجه الاقتصاد الأميركي مفارقة لافتة: من جهة، هناك تراجع في القطاعات التقليدية مثل التصنيع والزراعة، ومن جهة أخرى، هناك نمو متسارع في قطاعات التكنولوجيا والمال. هذا التباين يخلق فجوة اجتماعية واقتصادية، ويطرح تحديات على صعيد توزيع الثروة، واستقرار الطبقة الوسطى، ومستقبل النمو الاقتصادي.
مشروع غير متكامل في مواجهة الواقع
في المحصلة، لا يمكن اختزال سياسات دونالد ترامب الاقتصادية في توصيفات سطحية. فهي تعبّر عن محاولة جادة لإعادة تعريف موقع الولايات المتحدة في النظام الاقتصادي العالمي، وتثبيت هيمنتها بوسائل جديدة. غير أن هذه السياسات، التي اتسمت بالاندفاع والقطيعة مع التقاليد، اصطدمت بواقع اقتصادي معولم، لا يمكن تغييره بقرارات أحادية. وبينما حققت بعض النجاحات المحدودة، إلا أن آثارها السلبية بدأت تتراكم، ما يطرح تساؤلات جدية حول جدواها على المدى الطويل.
في ضوء هذه التحولات، يطرح العديد من الخبراء سؤالاً جوهرياً: هل تمثّل سياسات ترامب بداية نهاية العولمة الأميركية؟ وهل يمكن للولايات المتحدة أن تستمر في قيادة النظام العالمي، في ظل تراجع الثقة، وتنامي النزعات الحمائية، وتعدد مراكز القوة الاقتصادية؟ الإجابة ليست سهلة، لكنها تشير إلى أن العالم يشهد تحوّلاً بنيوياً، قد يعيد رسم خارطة الاقتصاد العالمي لعقودٍ قادمة.