لـ "طراد حمادة"

“الأسفار والتحوُّلات”.. ما أروع عالمٍ يجتمع فيه العشاق!

الوفاق: يتألَّف الديوان من ثلاث مجموعات شعرية هي: الأسفار، التحوُّلات، وتلويحات، إضافة إلى نصٍّ عنوانه "شذرات".

عبد المجيد زراقط

 

كتاب “الأسفار والتحوُّلات” ديوان شعرٍ للشاعر والروائي والأكاديمي ، والوزير السابق، أ. د. طراد حمادة، صدر، مؤخَّراً عن “منشورات شاعر الكورة الخضراء، عبد الله شحادة، الثقافي”، في بيروت.

يتألَّف الديوان من ثلاث مجموعات شعرية هي: الأسفار، التحوُّلات، وتلويحات، إضافة إلى نصٍّ عنوانه “شذرات”.

 

شعر عرفاني صوفي.. رموز موظَّفة

تفيد هذه العناوين/ المصطلحات أنَّ هذا الديوان ينتمي إلى الشعر العرفاني/ الصوفي، وهذا ما تؤكِّده قراءة نصوصه جميعها: موضوعاتٍ ولغة وإحالات دينية وتاريخية وأدبية وفنية…، ما يعني أن الشاعر عرفانيٌّ/ صوفيّ، معرفته شاملة وواسعة،  ويستقي رموزه من هذه المعرفة، ويوظِّفها في بيان رؤيته، التي ينبغي تبيُّنها من “باطن الكلام” لا من ظاهره، “ماكان الباطن مثل الظاهر”، (ص. ٢٣)، كما يقول، ما يقتضي أن يكون قارئه ممتلكاً لهذه المعرفة، وإلَّا لن يستطيع تجاوز الدلالة المباشرة إلى تبيُّن المعنى الخفيِّ، ولَتوقَّف محتاراً إزاء أسماء لا يعرفها، ولا يعرف دلالاتها وما ترمز إليه، ولاضطُرَّ إلى البحث عن معانيها، فيكون شريكاً في إنتاج الدلالة والرؤية .

 

 القراءة ووظيفتها

ولمّا كانت إحدى وظائف القراءة تسهيل فهم النص، سأحاول، في سياق قراءتي هذه، القيام بهذه الوظيفة، في الوقت نفسه الذي أحاول فيه تبين رؤية الشاعر إلى شعره وخصائصه، وإلى عالمه وقضاياه.

 

القصائد وحلم ليلة يوسف

في القصيدة الأولى، من مجموعة الأسفار، وعنوانها: “حلمٌ في ليل يوسف”، نقرأ أنَّ القصائد التي لم يسعف الوقت الشاعر لكتابتها، ستَفرُّ وتُخَطُّ (ولعلها تحطُّ) على دفتره، ويرسلها لها، أي الحبيبة، من نافذة العشق، وتنزل في كتاب ليلها، ” كما دخل الحلم في ليل يوسف”.

يشير هذا الحلم إلى ماجاء،في القراَن الكريم، عن حلم النبي يوسف: “…، إذ قال يوسف لأبيه: ياأبت، إني رأيت أحد عشر كوكباً…”( يوسف/ ٤). فهل يعني هذا أن قصائده هي رؤيا مثل رؤيا يوسف، تدخل من نافذة عشق الله، ومن  “معراج يوسف”، فتكشف حجاباً “لا يكشفه غير العرفاء/ بين الجمال الاَدمي/ وجمال الأنبياء”؟( ص.١٠) .

 

 هبوط الوحي كما يُقذف النور.. مصادر الشعر

ثم نقرأ، من المجموعة نفسها، قصيدة “أسفار- ١ ( ص.٢٤- ٣٦)، “هبط الوحي على صدري/ مثلما يُقذف النور”، مايذكِّر بقول للغزالي هو: الإيمان نور قذفه الله، سبحانه وتعالى، في صدري، ثم يقول:   “ساحرات دلفى / تهدي إليَّ الوحي/ أيها الشعر/ من أيِّ الجرار ملأت كأسي/ ولماذا إخترت لي امرأة من خيال/…/ واخترت لي / الأسفار والأسرار/ والأحوال والأخبار”؟ فمن هن “ساحرات دلفى” اللواتي يهدينه الوحي؟

ساحرات دلفي هنَّ عرافات دلفي، في اليونان القديمة، ما يفيد أن شعره وحي عرافات/ رؤى، وهو الذي اختار له الأسفار والأخبار. والشعر هذا، عندما يتعبه الرسم، ينزاح إلى الرمز، ويكتب لغة الطير. وإن تكن ساحرات دلفى من الغرب: اليونان القديمة، فإن “الأوبنشاد” من الشرق، وهي مجموعة نصوص دينية وفلسفية تعد جزءاً أساسيا من الكتابات المقدسة الهندوسية، هو الجزء الأخير من أجزاء الفيدا الأربعة.

ونقرأ، في قصيدة: “إبقي، أيتها الشمس”(ص. ١١٧): “يهبط الخيال وحيداً/ من قمة الغروب/ إلى دفتر قلبي/ أقرأ ماخطَّه اللوح / من الكلمات/ وأنثرها كما وردت إلي / عن طريق الرموز والإشارات”.

 

تميُّز هذا الشعر

يتميز هذا الشعر/ الرؤيا الموحى بها، والتي يهبطها الخيال في دفتر القلب، والمنثور رموزاً وإشارات،  من شعر جميع الشعراء بأنه يؤتي الجواب، وهذا مايفيده قوله:” دعوت كل الشعراء/ المحتارين الجوالين/…/ ليقولوا فيك / ما يشرح صدري/ لكني ما حصلت جوابي/ إلا في طيِّ كتابي/ وسر خطابي/ فانتبهي”.

 

البلبل والوردة

يذكر، في سفره، “البلبل والوردة”، وهما ثنائي رمزي من أهم الرموز العرفانية، فالبلبل هو السالك، العاشق العرفاني المتيم، الباحث عن الحقيقة الإلهية، وتغريدته هي تسبيحة العاشق الناطقة بشوقه إلى الله ، تعالى، وهو العارف، من طريق مجاهدة النفس، والقلب، حقائق الإيمان، وهذه المعرفة هي العرفان ، والوردة هي المحبوب المطلق، وقد ترمز إلى قلب العاشق، و”العشق للصوت أنفاس معطرة/ عشق ونفس ونطق، أي ثالوث” (ص. ٧٠).

 

أماكن الأسفار.. الفردوس الزائل # النعيم الدائم

أماكن أسفار الشاعر، في الشرق: غوطة الشام، دمشق، مكة، النجف، اليمن، عدن، صنعاء، الصحراء، صور، قرطاجنة، ديار الأندلس، الجليل والخليل، غزة هاشم، سهل أريحا، أسوار عكا، والقدس..، ولكل مكان فضاؤه وحكايته، ونتوقف لدى أركاديا، وهي منطقة جبلية في اليونان القديمة جعلها الشاعر الروماني فرجيل فردوسا أرضيا، مثله الفنان الفرنسي نيكولا بوسان في لوحة عنوانها: “رعاة أركاديا”. هذا الرمز الدال على  الفردوس الأكثر جمالا وبراءة وسعادة دال كذلك على حقيقة هي زوال ذلك كله، وعلى حتمية الموت، مايعني أن ليس من نعيم باق سوى النعيم الإلهي، ولا يرقى إليه سوى العاشق الذي يمر في سفره إليه بمراحل وتحولات.

 

 جبل عامل.. القمر المنتصر

ومن أماكن السفر جبل عامل، يقول الشاعر: “في لبنان/ جبلٌ لعاملة/ كتف الجولان/ أكناف الجليل/ حمل عليه الصابرون من/ الغزاة/ وارتدوا عنه على أعقابهم/ بين جريحٍ وقتيل/ قمرٌ جنوبي/ يخاطب نجمة ساهرة / إنه زمن النصر/ وحرية الشعوب / أيتها المضيئة الساحرة”(ص. ٤٥)، وهذا يعني أنَّ كوكبة “القمر العامليَّ المنتصر” مرحلة/ مقام من مراحل/ مقامات سفر المريد العاشق إلى “الكمال”، وتحوُّلاً من تحوُّلاته، والعشق، المقصود ، هنا، هو العشق الإلهي .

 

قطاع طرق السفر.. سالومي ورأس يوحنا المعمدان

وإن كان الأنبياء يعشقون، و”يشعلون النار في ثلج الشتاء”، كان قاطعو طريق السفر، وترمز إليهم “سالومي”، ينادون سيف سيدهم، فيقطع الرأس، ولو كان “يوحنا المعمدان”. ويوحنا المعمدان هو يحي في المصادر الإسلامية، نبي ٌّفي الإسلام والمسيحية، قال للحاكم هيرودوس لا يحل لك الزواج من هيروديا، زوجة أخيك. رقصت سالومي لهيرودوس، وكان قد أعجب بها، ووعدها أن يعطيها ما تريده، فطلبت رأس يوحنا على طبق، فأعطاها إياه، وكان أبوه ، كما جاء، في الكتاب المقدس، قد ذبح أطفال بيت لحم، في محاولة لقتل الطفل يسوع ظناً منه أنه الملك الذي يهدد عرشه، فهل مايفعله الصهاينة في فلسطين وغزة هو إعادة لما فعله هيرودوس وأبوه؟

 

مسار سفر إلى الكمال

يمكن أن نتبين مسار سفر المريد/ العاشق إلى الكمال من طريق إجراء قراءة في نصٍّ اختاره الشاعر ليكون عتبة للدخول إلى ديوانه، فوضعه على صفحة الغلاف الأخيرة، وهو خطاب إلى السالك/ المريد من شيخه، عنوانُه:” تابع طريقك”.

الملاحظ، في البدء، هيمنة لغة الأمر والنهي على لغة هذا الخطاب، وهذه اللغة تحدِّد معالم طريق الوصول إلى الكشف.

هذا النص مأخوذ من مجموعة” التحوُّلات”، ويقسم إلى قسمين. في القسم الأوَّل، يبدأ المريد ” السفر”، وسفره، كما يقول الشاعر، في مكان اَخر:” له معنى المعارج/ والطريق له سمائي/ والصعب فيه مؤنس”(ص.١٩) . يأمره شيخه بمتابعة ” الطريق” نتوقف، هنا، لنتبين معاني بعض المصطلحات.

السفر جمعه أسفار، ويعني، من منظور عرفاني، الرحلة الروحية التي يقطعها السالك في طريقه إلى فناء صفاته المذمومة، والبقاء بصفات الكمال، والوصول إلى الهدف الأسمى، وهو الإنسان الكامل. وأشهر من استعمل هذا المصطلح صدرالدين الشيرازي( ملا صدرا)، في كتابه:” الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة”.

للسفر هذا لغته الخاصة، وهي لغة “التلويحات”، والتلويحات تعني الإشارات والرموز، أي اللغة الموحية التي تحتاج إلى التأويل، المعتمدة التلويح لا التصريح، والسهروردي ( شيخ الإشراق) هو أحد أبرز من استخدم هذا المصطلح، ومن مؤلفاته كتاب:” التلويحات اللوحية والعرشية”، المتصف  بكثافة الرمز.

فالطريق، هنا، ليست أيَّ طريق نكرة، وإنما هي ” الطريق” المعرفة، أي الطريق الروحية والعملية التي يسلكها المريد للوصول إلى الهدف.

ويكمل الشيخ: ” وإذا عثرت في حجر/ لاتقع/ ولا ترجع/ اقذفه بقدمك”، فالحجر، هنا، هو العقبة التي تعترض المريد في سعيه، وعلى المريد أن يتجاوزها، كما فعل السالكون من قبل، ويقدِّم الشيخ تلويحة تتمثَّل في  صورة حسِّيَّة تؤكِّد مايذهب إليه، وهي صورة تمثل المسار التاريخي للسالكين الذين تجاوزوا العقبات، ومروا بالتحوُّلات، يقول :” ألا ترى إلى هذه التلال/ المنتصبة/ تشكَّلت من تراكم حجارة/ قذفتها أقدام السالكين”.

في القسم الثاني، من هذا النص، يواصل الشيخ خطابه: “لا تنظر إلى الخلف/ سدِّد نظرتك إلى منازل الطريق/ جدران الحجب / كما التلال المنتصبة/ لا تمنع الرؤيا/ لأنَّ الكشف يُسقط الحجاب/ تلو الحجاب”.

يواصل الشاعر تلويحاته، فالطريق تستغرق السالك، فلا ينظر إلى الخلف، ويسدِّد نظره إلى منازل الطريق، أي إلى منازل السفر، ليصل، من طريق الكشف، إلى هدفه. والكشف هو إزالة ما يخفي الحقيقة الإلهية، من طريق الإدراك الروحي. هذه مجاهدة للنفس، تحدث بها التحوُّلات، ويكون للمعنى الثاني للسفر، وهو معنى” سِفر”، أي الكتاب الكبير، ويرمز، هنا، إلى المعرفة التي يحصِّلها المريد  في مسار مقاماته وتحولاته،  فتسفر المعرفة هذه عن الكشف كما يسفر الصبح، ويضيء.

 

 روعة عالم

وأذ يجتمع العشاق، في هذا العالم، ينشد الشاعر: “ما أروع هذا العالم/ إذا ما تجمَّع في خانقاه/ العشاق”(ص. ٥٧) .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المصدر: الوفاق

الاخبار ذات الصلة