العضو الدائم في أكاديمية الفنون الإيرانية للوفاق:

الأستاذ فرشجيان فنّان عالمي بلغة الروح.. لا الجغرافيا

خاص الوفاق: رجبي: الفن الحقيقي، كما يرى، ينبع من التفاعل العميق مع قضايا الإنسان والمصير الإنساني، كما يفعل الفنانون الكبار مثل الأستاذ فرشجيان.

موناسادات خواسته

 

افتُتح مؤخراً معرض خاص لتصاميم الأستاذ محمود فرشجيان، الفنان الإيراني الراحل، بحضور نخبة من الأساتذة والفنانين ومحبي الفن الإيراني. ضم المعرض مجموعة من التصاميم النادرة التي تعود إلى المراحل الأولى من عملية خلق أعماله الكبرى، والتي تكشف كيف كانت الرؤية الروحية والبصيرة الفنية تتشكل في ذهن الأستاذ فرشجيان قبل أن تمسّها الألوان والريشة. هذا الحدث الثقافي أتاح فرصة للتأمل في العمق الفكري والجمالي الذي ميّز أعماله، ويأتي كمناسبة مثالية لفتح حوار حول أثره الفني، وهو ما نتناوله في هذا الحوار مع الأستاذ «محمد علي رجبي دواني»، العضو الدائم في أكاديمية الفنون. في هذا الحوار، يكشف الأستاذ رجبي عن رؤيته الفلسفية والجمالية للفن الديني، ويستعرض خصائص أعمال فرشجيان التي جعلتها تتجاوز الحدود الجغرافية وتلامس وجدان الإنسان في كل مكان، كما يروي لنا مواقف مؤثرة من حياة الفنان، ويؤكد على مسؤولية الفنانين في مواجهة الظلم، لا سيما ما يحدث اليوم في غزة، من خلال الفن الصادق والملتزم. وفيما يلي نص الحوار:

 

 

 

 فن المنمنمات الإسلامية

بداية سألنا الأستاذ محمدعلي رجبي دواني عن رأيه في الفن الطقسي والإسلامي، وخاصة فن المنمنمات الإسلامية، فقال: كما ذكرتم، فإن الفن الطقسي والإسلامي، الذي يُعد وجهاً من أوجه الفن، هو فن قائم على فكر ديني، وتستمد أسسه من الطقوس والمراسم والشعائر الدينية. لدينا عبر تاريخ البشرية أكبر عدد من الأعمال الفنية التي لا يمكن مقارنتها بأي شكل فني آخر، وهي الفنون الطقسية.

وبالنظر إلى اختلاف الطقوس، فإن لها أشكالاً متعددة ومختلفة. حتى في العصر الحديث، لا تزال الفنون الطقسية هي الأكثر إنتاجاً، لأن الفن دائماً يبحث عن حقيقة الأشياء والأمور. وهذه الحقيقة ليست ما يظهر على السطح، بل تكمن في باطن هذا الظاهر. لذلك، كان الفنانون يسعون للانتقال من ظاهر الأمور إلى باطنها لرؤية الحقيقة. وبقدر ما كانوا قادرين على السير في هذا الطريق، كانت الأديان مرشداً جيداً لهم، وكانت الشعائر الموضوعة أمامهم وسيلة فعالة لتمكينهم من السير والتأمل في تلك العوامل الباطنية.

وكما أن العالم الخارجي، أو كما يسميه أهل العرفان «عالم الشهادة»، له قواعده الخاصة، فإننا نستمد قواعد الجماليات من هذا العالم الطبيعي. كذلك الحال في العالم الباطني، له قواعده الخاصة التي لم يتم تحديدها أو تدوينها من قبل الفنانين، ولا يمكن ذلك، لكنها تُدرك وتظهر لاحقاً في أعمالهم الفنية.

ولهذا، إذا أردنا التعرف على تلك العوالم، ننظر إلى مجموعة الأعمال الطقسية لنرى ما هي الخصائص المشتركة بينها، فذلك الاشتراك يدل على القوانين الخفية لعالم المعنى. وعندما ننظر، نرى أولاً أن في هذه الفنون حالة من الروحانية، دون أن يحاول الفنان أن يكون واعظاً أخلاقياً أو ينصح الناس مباشرة، بل يخلق في عمله فضاءً يخرجنا من هذا العالم ومن العلاقات القائمة فيه، والتي غالباً ما تكون قائمة على مسائل أخلاقية غير صحيحة، ويضعنا في عالم كله سلام ومحبة وصداقة، وله محور واحد، وهو الحقيقة نفسها، أي الله سبحانه وتعالى، ونحن ندرك ذلك بكل وجودنا. ومن كل هذا نتعلم أنه إذا سرنا في الحياة على محور واحد، يمكننا أن نعيش في عالم جميل ومليء باللطف، مع احتفاظ كل منا بشخصيته الخاصة.

 

 قضايا الإنسان المعاصر

بعد ذلك طلبنا من أستاذ الفن الإيراني أن يتحدث لنا عن ميزات أعمال الأستاذ فرشجيان، فأجاب: الأستاذ فرشجيان فنان مبتكر أبدع داخل تقاليد فن الرسم الإيراني، وهذا عمل مهم وثقيل. الفن الغربي الحديث يقول لنا إن الجميع أحرار تماماً، يمكنهم الذهاب في أي اتجاه والتعبير عن أي شيء يريدونه، ومن الطبيعي أن يفعل الفنان ما يشاء. لكن أن نكون داخل مجال خاص من الفن يسمى «فن المنمنمات الإسلامية الإيرانية»، وهو نوع اسلامي خاص من الرسم، يعتمد على قواعد الثقافة الإسلامية، وإيراني يعتمد على الثقافة والتقاليد والعادات وحتى الطبيعة الإيرانية، فكل هذه الأمور من المفترض أن تكون عائقاً وتحد من الإبداع.

لكن الأستاذ فرشجيان أبدع داخل كل هذه الخصائص، وأراد أن يبيّن لنا أن هذه اللغة الفنية البليغة لدرجة أنها تستطيع أن تشمل كل قضايا الإنسان المعاصر وتتناول مواضيع متنوعة: اجتماعية، أخلاقية، عرفانية، ملحمية، وكل شيء، ليُظهر أنه إذا وصلنا إلى مبادئ الفن الديني والإسلامي، يمكننا أن نكون أبناء زماننا ونتحدث بلغة عصرنا، ولكن بجمال ولطف يرضي الله، والله راضٍ عنه.

 

 

الأستاذ فرشجيان فعل ذلك في كل المجالات، وحتى قبل أيام قليلة، عندما افتُتح معرض تصاميمه لضريح الأئمة(ع)، كانت لوحاته التجريدية التي تمثل نقوش الضريح تحمل ابتكارات ورسائل متعددة، عبّر عنها من خلال الزهور والعناصر نفسها، لكن كل من ينظر إليها يدرك أنها تحمل معرفة جديدة، وتعرّفنا على عصرنا، وتقترب منا، وتتحدث بلغتنا، وتربطنا بتاريخنا المجيد، وتترك شيئاً آخر أيضاً، درساً للأجيال القادمة، وهذه نقطة مهمة جداً، أي أن أعمال الأستاذ فرشجيان دائماً يمكن أن تكون دليلاً جيداً للفنانين في المستقبل.

 

الحكمة في أخلاق الأستاذ فرشجيان

وعندما سألنا الأستاذ رجبي عن ذكرى حول الأستاذ فرشجيان، قال: لدي العديد من الذكريات؛ وكلها تحمل جانباً من الحكمة. كان يتصرف بطريقة تكون درساً لنا، درساً روحياً يظهر في أعمالنا الفنية وسلوكنا.

على سبيل المثال، الأستاذ مجيد مهركان، أحد أول تلاميذه، في أحد الأيام قرر أن يرسم لوحة بأسلوب الأستاذ فرشجيان ليُظهر أنه تعلم منه جيداً. وعندما عرض اللوحة على الأستاذ فرشجيان، قال له: «أنت الآن تحاول أن تصبح مثلي، لكنني موجود بالفعل. لماذا خلقنا الله؟ لماذا خلقنا مختلفين؟ لأنه أراد أن يظهر من كل واحد منا تجلياً خاصاً. هل تريد أن تكون مثلي؟ لو أراد الله ذلك، لخلق شخصاً واحداً فقط وعبّر عن كل شيء من خلاله. لقد جاء الأنبياء والأولياء والبشر ليُظهروا تجليات مختلفة لخلق الله. إذاً، حاول أن تُظهر ذلك التجلي الإلهي الذي أودعه الله فيك».

أنظروا، هذا هو ذروة الحكمة في أعلى مستوياتها، وقد علّم الأستاذ فرشجيان ذلك لتلميذه ببراعة.

 

 سبب عالمية أعمال الأستاذ فرشجيان

وفيما يتعلق بالخصوصية التي جعلت أعمال الأستاذ فرشجيان تجذب الجميع في مختلف أنحاء العالم، قال الأستاذ رجبي:  هناك أمران أدّيا إلى ذلك. الأول، كما قلت، أنه استخدم لغة الإنسان، لا لغة الإيراني أو الأصفهاني أو لغة الأمس واليوم والغد، بل لغة الإنسان. ولهذا، أينما ذهبت أعماله في العالم، قُبلت، وذكرت اليونسكو اسمه كفنان إنساني، ونشرت أعماله، وأشاد به الباحثون والفنانون الكبار في العالم.

الأستاذ فرشجيان حقق هذا التأثير أولاً من خلال المضامين، مضامين تتجلى في ظاهر حياتنا وأخرى في باطنها. عندما نراه يحتج على الظالمين، ونرى اليوم ما يحدث في غزة من كارثة في تاريخ البشرية، لو لم يكن عاجزاً في أيامه الأخيرة، لكان رسم أعمالاً رائعة حول ذلك، رغم أن أعماله السابقة تشهد على موقفه من الظلم والجرائم التي يرتكبها الطغاة.

ومن جهة أخرى، يتحدث عن الأفعال الداخلية للإنسان، أحياناً عرفانية، وأحياناً عن مظلومية الإنسان المعاصر الذي وقع في زمن الغفلة، ويُحذر منها. ومع كل هذه المضامين، يعرضها بجمال عالم من الألوان والأنسجة والعناصر الرمزية، ويُركّبها جميعاً بطريقة تُنتج وحدة في العمل، وجمال الألوان والأنسجة يسحر الجميع. ولهذا، أينما ذهبت أعماله في العالم، رغم أنهم يرون تلك القضايا، إلا أنهم ينجذبون إلى ذلك العالم الذي عرضه الأستاذ فرشجيان.

 

 دور الفنانين في دعم غزة من خلال الفن

وأخيراً أكد الأستاذ رجبي أن دور الفنانين في دعم غزة لا يجب أن يكون تكليفاً أو مشروعاً مفروضاً، بل نابعاً من إحساس داخلي صادق. فالفن الحقيقي، كما يرى، ينبع من التفاعل العميق مع قضايا الإنسان والمصير الإنساني، كما يفعل الفنانون الكبار مثل الأستاذ فرشجيان. وأضاف أن الفنان إذا أدرك بوجدانه ما يحدث للبشر من ظلم، فإن فنه سيتحول تلقائياً إلى صرخة مقاومة وكشف للجرائم.

 

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص

الاخبار ذات الصلة