في عالم يترنّح بين التوترات الجيوسياسية والتطلعات نحو السلام، جاء إعلان دونالد ترامب عن استئناف التجارب النووية كصفعة مدوية على وجه التوافق الدولي. لم يكن القرار مجرد تصريح عابر، بل كان بمثابة إعادة إحياء لمرحلةٍ ظنّ العالم أنه تجاوزها منذ عقود. وبينما اتجهت الأنظار نحو بوسان، حيث اللقاء المرتقب بين ترامب ونظيره الصيني شي جينبينغ، خرجت التصريحات من واشنطن لتعيد رسم ملامح الردع النووي الأميركي، وتفتح أبواباً كانت موصدة منذ نهاية الحرب الباردة.
ذاكرة التفجيرات النووية؛ من نيو مكسيكو إلى بوسان
منذ أول تجربة نووية أميركية في صحراء نيو مكسيكو عام 1945، وحتى آخر تفجير تحت الأرض في موقع نيفادا عام 1992، شكّلت التجارب النووية جزءاً لا يتجزأ من العقيدة العسكرية الأميركية. كانت تلك التفجيرات بمثابة إعلان عن دخول الولايات المتحدة نادي القوى العظمى، ورسالة إلى العالم بأن لديها القدرة على فرض إرادتها بالقوة المطلقة. لكن مع نهاية الحرب الباردة، وتحديداً في عهد جورج بوش الأب، فرضت الولايات المتحدة حظراً على هذه التجارب، واستعاضت عنها بمحاكاة حاسوبية متقدمة. هذا الحظر ظلّ قائماً عبر الإدارات المتعاقبة، إلى أن قرر ترامب كسره، معلناً أن بلاده ستجري تجارب نووية إذا أقدمت دول أخرى على ذلك، دون أن يوضح طبيعة هذه التجارب أو توقيتها.
إعلان ترامب..غموض المقصد أم بداية التصعيد؟
أثار إعلان ترامب بشأن استئناف التجارب النووية موجة من الحيرة والقلق، ليس فقط بسبب توقيته الحساس، بل أيضاً بسبب غموض المقصود الفعلي. فبينما أشار إلى أن روسيا والصين تجريان اختبارات نووية، رجّح خبراء أن ترامب قد يقصد تجارب على أنظمة الأسلحة أو تجارب «دون الحرجة» التي لا تتجاوز حدود الطاقة المسموح بها. لكن الفرضية الأخطر، التي يروج لها بعض مؤيديه، تتمثل في استئناف التفجيرات الفعلية، رغم امتلاك واشنطن برامج محاكاة متقدمة. هذا التوجه، إن تحقق، قد يفتح الباب أمام سباق نووي عالمي، ويضع الاتفاقيات الدولية على المحك، خصوصاً أن موسكو وبكين ألمحتا إلى استعداد مماثل في حال بادرت واشنطن.
هيغسيث يدافع: الردع النووي واجب وطني
في كوالالمبور، وبعد محادثات مع وزير الدفاع الصيني، خرج وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث ليصف قرار ترامب بأنه «خطوة مسؤولة». لم يكن التصريح مجرد دفاع سياسي، بل كان تعبيراً عن تحول في الرؤية الاستراتيجية الأميركية. فوفق هيغسيث، الردع النووي لا يمكن أن يكون موثوقاً دون تجارب فعلية، وهو ما يعكس قناعة بأن المحاكاة وحدها لا تكفي لضمان الجاهزية. لكن هذا الطرح يثير تساؤلات عميقة: هل الردع يتطلب تفجيراً؟ أم أن التكنولوجيا الحديثة قادرة على محاكاة كل سيناريو محتمل؟ وهل يمكن اعتبار خطوة تحمل في طياتها خطر التصعيد العالمي «مسؤولة» فعلاً؟
هل أمريكا بحاجة فعلية إلى تجارب نووية؟
من الناحية التقنية، يؤكد العديد من الخبراء أن الترسانة الأميركية خضعت لتحديث شامل، ولا حاجة فعلية لتجارب تفجيرية. فالمحاكاة الحاسوبية، التي تطورت بشكل مذهل، قادرة على تقييم أداء الرؤوس النووية بدقة عالية. لكن من الناحية السياسية، قد يرى ترامب أن التجارب تعزز المصداقية، وتبعث برسالة واضحة إلى الخصوم بأن الولايات المتحدة لا تتردد في استخدام كل أدوات الردع المتاحة. وهنا يكمن التناقض: بين الحاجة التقنية المعدومة، والحاجة السياسية المتضخمة.
موسكو وبكين.. رسائل مشفّرة في توقيت حساس
توقيت الإعلان لم يكن بريئاً. فترامب اختار أن يعلن قراره قبيل لقائه بالرئيس الصيني، فيما اعتبره البعض رسالة ردع موجهة إلى بكين. وفي ظل تصاعد التوترات مع روسيا، قد يُنظر إلى استئناف التجارب كجزء من استراتيجية «الضغط النووي». فمع امتلاك روسيا لـ5489 رأساً نووياً، والولايات المتحدة لـ5177، والصين لـ600، فإن أي تغيير في العقيدة النووية قد يخل بالتوازن العالمي، ويعيدنا إلى منطق الحرب الباردة، حيث الردع لا يُبنى على الاتفاقات، بل على القدرة التدميرية.
العالم يرد بين الغضب والتحذير
لم تتأخر ردود الفعل الدولية في التعبير عن القلق والغضب إزاء القرار الأميركي، الذي اعتُبر على نطاق واسع خطوة تهدد الاستقرار العالمي. الناجون من القنبلة النووية في اليابان، الحائزون على جائزة نوبل للسلام، عبّروا عن استيائهم العميق، مؤكدين أن هذه الخطوة تمثل تراجعًا خطيرًا عن التزامات المجتمع الدولي تجاه بناء عالمٍ خالٍ من الأسلحة النووية. أما الأمم المتحدة، فقد شددت في بيانها على أنه «لا يمكن السماح بإجراء التجارب النووية تحت أي ظرف»، في إشارة واضحة إلى الخوف من انهيار منظومة الردع التي تستند إلى التوازن والرقابة، لا إلى التصعيد والتفجير.
لكن الأمم المتحدة، رغم قوتها الرمزية، تفتقر إلى أدوات الضغط الفعلية، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالقوى الكبرى. ومع غياب التوافق داخل مجلس الأمن، تبدو المنظمة عاجزة عن وقف التصعيد، أو حتى عن فرض عقوبات رمزية.
المعاهدات الدولية في مهب الريح
استئناف التجارب النووية يهدد بنسف معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، التي وقّعتها الولايات المتحدة عام 1996، وإن لم تصادق عليها. هذه المعاهدة، التي تُعد حجر الزاوية في جهود نزع السلاح النووي، قد تفقد مصداقيتها إذا قررت واشنطن تجاهلها. والأسوأ من ذلك، أن دولاً أخرى قد تستغل الوضع لتبرير برامجها النووية، بحجة أن القوى الكبرى لا تلتزم بما تطالب به الآخرين. وهكذا، يتحول القرار الأميركي من خطوة داخلية إلى أزمة دولية، تهدد بنشوء عالم متعدد التجارب، حيث يصبح الردع النووي أداة يومية، لا استثنائية.
ترامب لا يؤمن بالثوابت
منذ وصوله إلى البيت الأبيض، لم يُخفِ ترامب ميله إلى كسر التقاليد، وإعادة تعريف مفاهيم السياسة الخارجية الأميركية. من التهديدات المتكررة لكوريا الشمالية، إلى إعادة النظر في دور الناتو، بدا واضحًا أن ترامب لا يؤمن بالثوابت، بل يفضل اللعب على الحافة. في هذا السياق، يأتي قرار استئناف التجارب النووية كامتداد طبيعي لنهجه. فبالنسبة له، الردع لا يتحقق إلا بالفعل، لا بالتصريحات. وإذا كانت روسيا والصين تواصلان تطوير ترساناتهما، فلماذا تبقى الولايات المتحدة مكتوفة الأيدي؟
الاحتمال الذي يخشاه الجميع
إذا قررت روسيا والصين الرد بالمثل على الخطوات الأميركية، فإن العالم قد يدخل مرحلة جديدة من سباق التسلح النووي، تتسم بتعقيد أكبر وصعوبة في الرقابة والضبط. هذا التصعيد قد يدفع دولاً أخرى تمتلك طموحات نووية أو قدرات عسكرية متقدمة إلى مراجعة استراتيجياتها، وربما تسريع برامجها الدفاعية والهجومية، ما يهدد بتقويض الجهود الدولية لنزع السلاح. في ظل هذا المناخ، تصبح المنظومة الأمنية العالمية أكثر هشاشة، ويزداد خطر الانفجار في أي لحظة، خاصة مع تصاعد النزاعات الإقليمية، وتبدل التحالفات، وظهور تقنيات جديدة تجعل من استخدام السلاح النووي خياراً أكثر واقعية من أي وقت مضى. إن غياب الثقة بين القوى الكبرى، وتراجع دور المؤسسات الدولية، يفتح الباب أمام سباق لا تحكمه قواعد واضحة، ولا يضمن أحد نتائجه.
التجارب النووية كلفة بيئية هائلة
بعيدًا عن السياسة، تحمل التجارب النووية كلفة بيئية هائلة. التفجيرات تحت الأرض، رغم أنها أقل ضررًا من التفجيرات الجوية، تترك آثارًا إشعاعية تمتد لعقود. التربة تتلوث، المياه الجوفية تتسمم، والحياة البرية تتضرر. وفي بعض الحالات، تظهر أمراض نادرة بين السكان القريبين من مواقع التجارب، كما حدث في نيفادا في القرن الماضي. ومع ذلك، فإن قرار استئناف التجارب لا يتضمن أي خطة لمعالجة الآثار البيئية، أو لتعويض المجتمعات المتضررة.
الإعلام الأميركي.. بين التبرير والنقد
القرار الأميركي أثار جدلًا واسعًا داخل الولايات المتحدة نفسها. فبينما دافعت بعض وسائل الإعلام عن الخطوة، معتبرة أنها ضرورية لضمان الأمن القومي، شنّت صحف أخرى هجومًا لاذعًا، ووصفت القرار بأنه «عودة إلى زمن الجنون النووي». المحللون انقسموا بين من يرى أن التجارب تعزز المصداقية، ومن يعتبرها استفزازًا غير مبرر. لكن اللافت أن النقاش لم يقتصر على الجانب التقني، بل امتد إلى البُعد الأخلاقي.
خاتمة مفتوحة على احتمالات متعددة
قرار ترامب باستئناف التجارب النووية ليس مجرد حدث عابر، بل هو نقطة تحول في مسار الردع العالمي. وبين من يراه خطوةً مسؤولة، ومن يعتبره تهديدًا للسلم الدولي، يبقى السؤال: هل يمكن للعالم أن يحتمل عودة التفجيرات النووية؟ وهل نحن أمام بداية سباق تسلح جديد، أم أن العقلانية ستنتصر في النهاية؟