حينما لا يكون العمل الصالح كافيا!

الإصلاح رحلة تبدأ من أعماق النفس، يلج بها الإنسان أبوابا مفتّحة لمن يسعى بتواضع وبصيرة ليكتشف مواقع الخلل، وثغرات السقوط، ابتداء من إعادة تقييم نواياه وعقائدها المؤسسة، فتعيد للقلب صفاءه، وللعقل توازنه.

يُحكى في التراث الإسلامي أن رجلًا من بني إسرائيل عبد الله سبعين سنة، وكان لا يُخطئ في العبادة، حتى قيل له يومًا: “لو متّ على هذه الحالة دخلت الجنة”. فسمع ذلك، فاغترّ، ولم يلبث أن دخل عليه الشيطان من باب العُجب والغرور. فجاءه في المنام مَلَك يخبره: “كل عبادتك السابقة ذهبت هباءً، لأنك عبدت نفسك لا ربك”.

 

تقدم هذه القصة نموذجا واقعيا لقابلية حبوط الأعمال كنتيجة لتبدل النوايا، وتطرح أسئلة عن الدور الذي تلعبه النوايا في قبول الأعمال، وما إذا كانت كمية الأعمال ومراكمتها على طول الأمد يمكن أن يعوِّض عن صفاء النوايا وخلوصها؟

 

يقول الله عزوجل في كتابه الكريم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} (سورة الكهف:1.3-1.5).

 

تشير الآيات السابقة إلى حالة كل أولئك الذين بذلوا جهودا كبيرة وقاموا بأعمال كثيرة في الحياة الدنيا، آملين أن يثقلوا بها موازينهم يوم القيامة، فتحقق لهم النجاة يوم الفزع الأكبر، ليتفاجؤوا يوم الحساب أن أعمالهم كلها ذهبت هباء منثورا، ولم يكن لها عند الله قبولا، فلا يُقام لهم يوم القيامة وزنا.

 

إن مجرد تخيل هذ المشهد، يصيب الإنسان بالخوف، ويجعل القشعريرة تسري في البدن، كيف لا وهذا المشهد يأتي في زمان لا مجال للتعويض فيه، وتبعات الخسران حتمية، وحتما يقفز للذهن سؤال:

 

ما هي الأسباب وراء إحباط الأعمال؟ وكيف يمكن تفادي ومقاومة هذا الإحباط؟

 

إن البحث وراء الأسباب المؤدية لهذا الإحباط يتطلب من المرء بذل جهد حثيث، ومراجعة دقيقة، وتأمل عميق في طبيعة الأعمال التي قام بها وقدّمها بين يدي آخرته، ونيّاته من ورائها، وعقائده المؤسسة لها. إذ ذاك يكتشف ثغراتها، ويحوز الحكمة في سدّها، ويتبين ما زيّفه الموروث منها، ليستبدله بالأصيل، ويتمتع بالسكينة في تجاوزها.

 

فالإصلاح رحلة تبدأ من أعماق النفس، يلج بها الإنسان أبوابا مفتّحة لمن يسعى بتواضع وبصيرة ليكتشف مواقع الخلل، وثغرات السقوط، ابتداء من إعادة تقييم نواياه وعقائدها المؤسسة، فتعيد للقلب صفاءه، وللعقل توازنه.

 

وفيما يلي خطوات خمس يُتاح من خلالها اكتشاف ثغرات العمل، وتُمكّن من مقاومة إحباط إعمالنا، وعدم ضلال سعينا في الحياة الدنيا:

 

إعادة تقييم النوايا: النية هي الجذوة والشعلة التي تنير دروب العمل، وبالتالي تكون أولى خطوات مقاومة إحباط الأعمال هي فحص هذه الشُّعل (النوايا)، والتأكد من خلوها من كل ما يشوبها ويعكّر صفو ضيائها من أهواء ورغبات ومغالطات اعتقادية أسس لها الموروث الديني كعقيدة الفرقة الناجية وكل ما يصدر منها مقبول، وتقديم الكم من العمل الظاهري على حساب النية الخالصة، وما يتولد عنه من استسهال بلوغ الصلاح والقبول بأداء الطقوس ولو غاب الوعي الأخلاقي، ما أنتج عقلًا سطحيًا يعتمد على الكثرة والعبادة الظاهرية على حساب خلوص النوايا وربطها بغايات سامية ومتوافقة مع القيم الروحية، فتحيد بالساعي عن الطريق، أو تضلله، ليعتقد أنما هو يُحسن صنعا.

 

وعلينا أن نتذكر أن القلب هو موطن النية، والعمل لن يُثمر خيرا ما لم يكن القلب صافيا والنية خالصة سامية، فالنية الصافية هي الجسر الذي يعبر بنا إلى حقيقة العمل المتوخاة.

 

ولو أردنا وضع مقاييس لقابلية أن تُحبط أعمالنا، فيمكن أن نضع المقاييس التالية:

 

مقدار الانفصال بين النية والعمل: فكلما ابتعدت الأعمال عن النوايا الصافية التي حركتها ابتداء كانت أقرب لأن تُحبط.

 

مقدار تركيز الفرد على مصالحه الدنيوية وأهدافه المادية كنتيجة لمقدار غرقه في الافتتان بدنياه، إذ القيام بالصالحات لتحقيق مكاسب دنيوية تُفقد العمل قيمته.

 

مقدار وجود الروح، والقيم الإنسانية والأخلاقية في بُنية النية. والتأكد من صحة الأثر المادي لها.

 

مقدار الاعتماد على القوالب السلوكية أو الطقسية، مقابل التأكد من المقاصد الداخلية.

 

فتخيّل شابًا تطوّع في عمل خيري سنوات طويلة، يعطي من وقته وماله، يشارك في حملات توعية، ويزور المحتاجين، وهو يستمتع بذلك ويجد فيه نفسه، ثم في لحظة غضب يقول له أحدهم: “أنت تفعل هذا لتُظهر نفسك فقط!”

 

فما هي ردة فعلك لو كنت مكانه؟ هل ستعيد تقييم نواياك أم ستمارس الإنكار؟

 

الحل يكمن في العودة للتأمل العميق في النوايا، وتوجيه الجهود نحو أهداف تتوافق مع القيم والإيمان.

 

تصحيح العمل: إن تحويل النية إلى عمل يتطلب جرأة مواجهة المستقبل المجهول، وما يكتنفه من تحديات، ومن ثم المراجعة المستمرة لخطوات العمل للتأكد من استمراره على المسار القويم، لذا فإن الخطوة الثانية بعد فحص النوايا، والتأكد المستمر من نقائها، تأتي ضرورة فحص العمل وتصحيحه، والتأكد من القيام به بجد وإخلاص وثبات.

 

فالعمل الذي لا تنير طريقه البصيرة ولا يرافقه الإخلاص، ولا يواكبه الفحص والتدقيق قد ينحرف عن مساره، ويسير بنا نحو الهاوية، فنكون مصداقا لمن حبط عمله. بينما حين يسكن الصدق أفعالنا، تصبح أجنحتنا قوية وتصل بنا إلى الغاية السامية.

 

الصبر والإيمان: السير في طريق تحقيق الأعمال بصدق وإخلاص وصفاء نية يحتاج إلى صبر وإيمان وطول أناة، فالطريق طويل ومتعرج ولا يخلو من مطبات وعثرات، تتمثل في اختبارات وابتلاءات، ونجاحات وفشل، وخير معين لنا عليه هو الصبر والإيمان.

 

ففي الصبر إيمان بأن لكل زهرة وقتها لتزهر، وللإيمان نور يضيء القلب في أحلك الأوقات، مذكّرا بأمر الله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 153]، إذ الصلاة هي الصلة التي تُبقي الإنسان متصلا بالأمل والثقة بالله، وباليقين بأن التحديات فرص للتطور، وأن الثمار تأتي في وقتها، فلا تُظِلمُ معها الدنيا أبدا.

 

التعلم من الأخطاء: لا يخلو هذا المسار من عثرات، والوقوع في الأخطاء من طبيعتنا البشرية، وليس إصلاح العمل بقطع صلتنا بها، بل باستلهام دروسها بحكمة وبصيرة، والتعلم المستمر من منها، وتحويلها إلى فرص للتطور والنمو.

 

ففي كل خطأ درسٌ كامن علينا تعلمه، بل كل خطأ ليس سوى درس موجّه لنا في ثوب خفي، وكل عثرة هي طريق إلى حيازة الحكمة، وكل سقطة هي خطوة نحو النهوض.

 

ومن لم يعرف كيف يتعلم من أخطائه، وقابلها بالتكبر أو الكبرياء الأجوف، فاته جوهر التجربة وسر التطور الروحي.

 

فمن الأخطاء الوقوع في أسر أفكار موروثة وتصورات مجتمعية مزيّفة تثمّن الشكل الظاهري للعمل، وتزينه على حساب حقيقة أثره على الفرد نفسه أو الآخرين، ومنها الذوبان في نية جماعية مزيّفة، تجعل الناس يعبدون أو يعملون ضمن إطار مخادع يحدده أصحاب الخطاب الديني أو السياسي.

 

التواضع والاعتراف بالقصور: وأخيرا، لا يكتمل السعي إلا بـ (التواضع والاعتراف بالقصور)، فالإنسان ضعيف بغير تواضعه، وعظيم بقدرته على رؤية نقصه والسعي المستمر إلى بلوغ الكمال.

 

وعندما نعترف بضعفنا، ونقر بحدود قدراتنا وذواتنا نجد قوتنا الحقيقية من خلال الاستعانة بالله والسعي الدائم للتصحيح والتحسين والتطوير، وإعادة النظر ليس فقط في نوايانا وأعمالنا، بل حتى في كل الخطابات المؤججة لمشاعرنا الإيمانية والملهبة لاندفاعاتنا نحو عمل الخير، إذ النية المستعارة من خارج الذات، سواء من الخطاب الديني أو السياسي، أو من العرف الاجتماعي تتحول لأداة تخدّر الضمير ليطمئن لما يفعله، في خيانة مقنّعة للذات.

 

فالتواضع هو باب الحكمة، والاعتراف بالقصور بداية المعرفة.

 

فإن كنا مشفقين على سعينا في الحياة من الإحباط، فلنكن ممن يحافظون على هذه القيم، ونجعلها نبراسا في حياتنا، فإنها عدة الطريق إلى السمو والعروج إلى الحق.

 

فقبل أن يأتي يوم وزن الأعمال، حيث لا مجال للتعويض، هل فكرت أن تزن أعمالك بنفسك الآن؟

 

 

 

المصدر: وكالات

الاخبار ذات الصلة