على أعتاب ذكرى نفي سماحته إلى تركيا

الإمام الخميني(رض) في المنفى.. الكلمة أقوى من السيف

الوفاق: يظل هذا اليوم شاهداً على أن الكلمة والفكر قادران على زلزلة عروش الطغاة، وأن الذاكرة الثقافية هي السلاح الأعمق في معركة الشعوب ضد الإستكبار.

من بين أيام الله في الثورة الإسلامية، التي تمثل ذكريات مرحلة كفاح استمرت أكثر من أربعين عاماً لشعبنا الشجاع والمنتصر، ويحمل كل منها ذكرى وإشعاعاً من إمامنا الراحل العظيم الإمام الخميني(رض)، يتميّز يوم الثالث عشر من آبان الموافق 4 نوفمبر بأبعاد أكثر تنوعاً ورسائل أعمق وأكثر جذرية. ففي هذا اليوم الإلهي، يظهر بوضوح صفّان متقابلان في معركة دامية: جبهة الظالم وجبهة المظلوم، جبهة الاستكبار والهيمنة وعلى رأسها أمريكا، وجبهة الحق والعدل ومشعلها الإمام الخميني(رض)، ويعتبر هذا اليوم رمزاً للصمود والمقاومة في وجه الإستكبار العالمي. وفي المناسبات الثلاث المرتبطة بهذا اليوم، يتجلى هذا الإصطفاف بوضوح، ويدعو أجيال اليوم والغد إلى التأمل والتدبر.

 

 

المحطة الأولى تعود إلى عام 1964، حين نُفي الإمام الخميني(رض) بعد اعتراضه على قانون «الكابيتولاسيون» أي  الحصانة للمستشارين الأميركيين، وهو ما كشف بوضوح طبيعة التبعية التي كان يعيشها النظام آنذاك. أما المحطة الثانية فكانت عام 1978، حين أطلقت قوات النظام البائد، النار على مجموعة من الطلاب، فارتقوا شهداء، لكن دماءهم أشعلت جذوة الغضب الشعبي وأعطت الثورة زخماً جديداً. المحطة الثالثة جاءت عام 1979، مع اقتحام وكر التجسس الأمريكي في طهران، وهو الحدث الذي اعتُبر إذلالاً لواشنطن وإعلاناً عن البعد العالمي للثورة.

 

 

هذه الوقائع الثلاث تجسد بوضوح خط المواجهة بين جبهة الحق والعدل بقيادة الإمام الخميني(رض)، وجبهة الباطل ممثلة في أميركا وحلفائها. ومن خلالها، لم تعد الثورة مجرد حركة لإسقاط نظام عميل، بل مشروع لمواجهة نظام الهيمنة العالمي.

 

 

إن استحضار هذا اليوم من كل عام يذكّر الأجيال بأن الصراع بين الحق والباطل ليس حدثاً عابراً، بل مسار تاريخي مستمر، وأن الثبات والتضحية هما السبيل لانتصار جبهة الحق مهما بلغت قوة الخصم.

 

 

إن دراسة هذا المسار المفعم بالأمل تظهر أنه كلّما صمدت جبهة الحق وضحّت، فإن جبهة الباطل – مهما كان حجمها وقوتها – لن تصمد أمامها، وستُجبَر على التراجع.

 

 

 نفي الإمام الخميني(رض) عام 1964م

 

 

في مطلع ستينات القرن الماضي، أعاد نظام الشاه المقبور إحياء قانون «الكابيتولاسيون» الذي يمنح الحصانة القضائية للأجانب، وعلى رأسهم الأمريكيون. هذا القانون، الذي يعود بجذوره إلى معاهدات استعمارية كـ «تركمانجاي»، أثار غضب الإمام الخميني(رض)، فندّد به في خطاب تاريخي وصف فيه الإتفاقية بأنها «مشينة»، معتبراً أنها تهدر كرامة الشعب الإيراني وتضعه أدنى من «الكلاب الأمريكية».

 

 

ردّ النظام الملكي البائد كان سريعاً، ففي فجر 4 نوفمبر 1964م، حاصرت قوات الكوماندوز بيت الإمام الخميني(رض) في مدينة قم المقدسة، واعتقلته، ثم نُقل إلى طهران ومنها إلى تركيا على متن طائرة عسكرية. هكذا بدأ فصل جديد من مسيرة النفي والهجرة التي استمرت أربعة عشر عاماً وانتهت بانتصار الثورة الإسلامية.

 

 

ورغم أجواء القمع، اندلعت موجة من الإحتجاجات في طهران والحوزات العلمية، وبرزت أصوات تندد بالقرار وتدعو إلى مقاومة أشد. لقد تحوّل النفي إلى شرارة جديدة غذّت روح الثورة، وأكدت أن الإستبداد مهما اشتدّ لا يستطيع إسكات صوت الحق.

 

 

تأليف «تحرير الوسيلة» في تركيا

 

 

لم يكن النفي نهاية المطاف، بل بداية مرحلة جديدة من العطاء الفكري. ففي مدينة بورسا التركية، استثمر الإمام الخميني(رض) فترة نفيه لتأليف كتابه الفقهي المهم «تحرير الوسيلة»، فقد كان رجلاً يستفيد من كل فرصة، كما فعل بعض العلماء الكبار في التاريخ الذين ألّفوا كتباً وهم في السجن. وفي مقدمة كتابه تحرير الوسيلة كتب الإمام أنه كان قد دوّن سابقاً حاشية على كتاب وسيلة النجاة للسيد أبو الحسن الأصفهاني، لكنه في تركيا وجد الفرصة لإدماج تلك الحواشي في النص وإضافة مسائل جديدة، ليصبح أكثر فائدة.

 

 

وخلال نحو عام قضاه في مدينة بورسا التركية، ورغم الصعوبات والضغوط، ألّف الإمام كتاب تحرير الوسيلة، الذي يُعد اليوم من المراجع الدراسية في الفقه الإستدلالي، شأنه شأن كتاب العروة الوثقى.

 

 

تحرير الوسيلة كتاب فقهي-فتوائي شامل، يتناول معظم أبواب الفقه، ويضم أيضاً مباحث سياسية وقضائية ومسائل مستحدثة، مما جعله يحتل مكانة مميزة بين مؤلفات الإمام الخميني(رض). بدأ تدوينه في منفاه بتركيا، وأتمّه لاحقاً في النجف الأشرف، وصدرت له أكثر من 150 ترجمة، وتلخيص، وشرح، وتعليق، كما تُرجم الكتاب إلى الفارسية، والأردية، والإنجليزية.

 

 

«شمس الغربة»

 

 

لم يكن الرابع من نوفمبر مجرد محطة سياسية، بل تحوّل إلى رمز ثقافي وفني. فقد ألهمت هذه الأحداث الشعراء والكتّاب والفنانين، مثل شعر «آفتاب غربت» أي «شمس الغربة» لـ «مريم سقلاطوني»، الذي يصوّر النفي كسرقة للشمس من عيون الأزقة، لكنها شمس إزدادت إشراقاً في الغربة، فجاء في قسم منه: «كانت الشمس أسيرةً لشيطان الليل. الأزقة كانت تهبّ مظلمة. مخالب الزمن دامية من جرح السواد، والشياطين في غفوة أخرى كانت ترسم خطة إطفاء الشمس.. حتى جاء الأوغاد، بذريعة الشياطين، فسرقوا الشمس من عيون الأزقة.. لكن لم تمضِ فترة طويلة حتى عجزت الأيادي الملوثة بالظلم عن قطف الشمس؛ فالغربة جعلت الشمس أكثر إشراقاً من ذي قبل، وأهدتها للأزقة والبساتين..».

 

 

 

 كتاب «الأيام التي غاب فيها أبي»

 

 

كما تناولت الكاتبة مريم بيات‌تبار هذه المرحلة في كتابها «روزهايي كه بابا نبود» أي «الأيام التي غاب فيها أبي»، الموجّه لليافعين، حيث روت من خلال ذاكرة الجدّ وأحفاده قصة النفي وما حمله من معانٍ إنسانية ووطنية، الكتاب يروي الحادثة التاريخية لنفي الإمام الخميني(رض) إلى تركيا والعراق.

 

 

وبخصوص عنوان الكتاب، أوضحت أنّه مستوحى من أحداث القصة: أولاً يشير مباشرة إلى فترة إقامة البطلة في بيت جدها أثناء غياب والدها في مهمة، وثانياً إلى ما قاله الجدّ: إنّ الإمام الخميني (رض) كان بمثابة أبٍ لهذه الأمة، وفي فترة غيابه عن إيران وقعت أحداث أليمة كثيرة.

 

 

النفي بداية لمرحلة جديدة من المقاومة

 

 

إن استحضار هذا اليوم لا يقتصر على التذكير بوقائع الماضي، بل هو دعوة متجددة للتأمل في معنى الحرية، ومكانة الثقافة والفن في مواجهة الاستبداد. فكما كان النفي بداية لمرحلة جديدة من المقاومة، يظل هذا اليوم شاهداً على أن الكلمة والفكر قادران على زلزلة عروش الطغاة، وأن الذاكرة الثقافية هي السلاح الأعمق في معركة الشعوب ضد الاستكبار.

 

 

المصدر: الوفاق