في خضم التحولات الجيوسياسية المتسارعة، تبرز فنزويلا كحالة نموذجية لصراع الإرادات بين القوى العالمية والدول الساعية للحفاظ على استقلالها السياسي والاقتصادي. فمنذ تولي مادورو السلطة، دخلت البلاد في مواجهة مفتوحة مع الولايات المتحدة وحلفائها، على خلفية اتهامات متبادلة تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان، تقويض الديمقراطية، ونهب الموارد الطبيعية. لكن خلف هذه الاتهامات، تتكشف معادلة أكثر تعقيداً: فنزويلا ليست مجرد دولة نفطية، بل تُمثل تحدياً مباشراً لمنظومة الهيمنة الغربية، عبر تمسكها بنموذج سياسي واقتصادي مناهض لليبرالية الجديدة. وفي ظل العقوبات الاقتصادية، والحصار المالي، والحملات الإعلامية، تطرح فنزويلا سؤالاً جوهرياً حول حدود السيادة الوطنية في عالم تحكمه المصالح العابرة للحدود. فما تواجهه فنزويلا ليس مجرد أزمة داخلية، بل هي تخوض فعلاً حرباً غير معلنة ضد منظومة إمبريالية تسعى لإعادة تشكيل الخارطة السياسية للمنطقة.
فنزويلا.. بلد الثروات والتاريخ المقاوم
منذ اكتشاف النفط في فنزويلا مطلع القرن العشرين، تحولت هذه الدولة إلى لاعب اقتصادي مهم في أميركا اللاتينية. تمتلك فنزويلا واحداً من أكبر احتياطيات النفط في العالم، إلى جانب ثروات طبيعية أخرى كالذهب والغاز والأراضي الزراعية الخصبة. هذه الثروات جعلتها محط أنظار القوى الكبرى، خصوصاً الولايات المتحدة التي لطالما اعتبرت أميركا اللاتينية مجالاً حيوياً لنفوذها السياسي والاقتصادي.
لكن فنزويلا لم تكن يوماً دولة خاضعة بالكامل. فمنذ عهد الرئيس هوغو تشافيز، تبنت البلاد سياسة مقاومة للهيمنة الغربية، وبدأت في بناء نموذج اقتصادي واجتماعي قائم على الاشتراكية البوليفارية. هذا التوجه أثار حفيظة واشنطن، التي رأت فيه تهديداً لمصالحها في المنطقة، خصوصاً مع تقارب فنزويلا من دول كوبا وروسيا وغيرها.
الحرب النفسية.. أدوات الهيمنة الجديدة
في خطابه الأخير، تحدث مادورو عن حرب نفسية تُشن ضد بلاده، تهدف إلى تبرير التدخل الخارجي وتغيير النظام السياسي. هذه الحرب، كما وصفها، لا تُخاض بالدبابات والطائرات، بل عبر الإعلام، والعقوبات الاقتصادية، والتضليل السياسي. إنها حرب ناعمة، لكنها لا تقل خطورة عن الحروب التقليدية.
فالإعلام الدولي، وفق مادورو، يصور فنزويلا كدولة فاشلة، تعاني من الفقر والقمع وانعدام الديمقراطية. هذا التصوير، وإن كان يحمل بعض الحقائق، إلا أنه يُستخدم كذريعة لتبرير العقوبات والحصار. فبدلاً من دعم الحوار الداخلي، تُفرض العقوبات التي تؤدي إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية، وتُستخدم لاحقاً كدليل على فشل النظام.
في هذا السياق، يرى مادورو أن الحرب النفسية تهدف إلى زعزعة ثقة الشعب بالحكومة، وإثارة الفوضى الداخلية، تمهيداً لتدخل خارجي أو انقلاب سياسي. إنها استراتيجية تعتمد على الضغط المستمر، والتشكيك، والتضليل، بهدف خلق بيئة قابلة للتغيير السياسي من الخارج.
الاستراتيجية الأميركية تجاه فنزويلا
منذ عودة دونالد ترامب إلى السلطة، تبنّت الولايات المتحدة نهجًا تصعيديًا تجاه فنزويلا، تجاوز الأطر الدبلوماسية والاقتصادية التقليدية، ليأخذ طابعًا أكثر عدوانية يشمل التهديد العسكري والعمليات الاستخباراتية. هذه السياسة، التي تنفذ وفق استراتيجية متعددة الأبعاد، تهدف إلى زعزعة النظام السياسي في كاراكاس وإعادة تشكيل التوازن الجيوسياسي في أميركا اللاتينية بما يخدم المصالح الأميركية.
أولى خطوات هذا التصعيد تمثلت في فرض عقوبات اقتصادية شاملة، استهدفت القطاعات الحيوية في فنزويلا، وعلى رأسها قطاع النفط، البنك المركزي، والشركات الحكومية الاستراتيجية. ولم تقتصر العقوبات على المؤسسات، بل شملت شخصيات بارزة في الحكومة، بمن فيهم الرئيس مادورو، حيث جُمّدت أصولهم ومنعوا من التعامل المالي الدولي. الهدف المعلن من هذه العقوبات كان خنق الاقتصاد الفنزويلي ودفع البلاد نحو اضطرابات داخلية تؤدي إلى تغيير النظام.
بالتوازي، كثّفت واشنطن من دعمها السياسي والمالي للمعارضة الفنزويلية، خاصةً خلال فترات الانتخابات والاحتجاجات الشعبية. كما موّلت منصات إعلامية ومنظمات غير حكومية تروّج لخطاب مناهض للحكومة وتشكك في شرعيتها، في إطار حملة دعائية تهدف إلى إضعاف الجبهة الداخلية تحت شعار «الديمقراطية».
وفي منحى أكثر خطورة، أقرّ ترامب علنًا بأنه منح وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) تفويضًا لتنفيذ عمليات سرية ضد النظام الفنزويلي. ورغم غياب التفاصيل الدقيقة، تشير التقديرات إلى أن هذه العمليات تشمل اختراقات إلكترونية، تجنيد عناصر داخلية، وربما التخطيط لأعمال تخريبية تستهدف البنية التحتية أو القيادات السياسية.
كما اتخذت الولايات المتحدة خطوات عسكرية مباشرة، تمثلت في نشر ثلاث مدمرات بحرية وغواصة ومجموعة إنزال برمائية قرب المياه الإقليمية لفنزويلا، تحت ذريعة “مكافحة المخدرات”. هذا الحشد العسكري يُعد رسالة تهديد واضحة، ويعيد إلى الأذهان سيناريوهات التدخل العسكري المباشر في دولٍ أخرى.
على الصعيد الدبلوماسي، سعت واشنطن إلى عزل فنزويلا دوليًا، عبر الضغط على دول أميركا اللاتينية والاتحاد الأوروبي لعدم الاعتراف بشرعية الحكومة، ودعم قرارات في الأمم المتحدة تُدين النظام. كما عملت على منع فنزويلا من الوصول إلى مؤسسات مالية دولية مثل صندوق النقد والبنك الدولي، في محاولة لتضييق الخناق المالي عليها.
وفي خطوة غير مسبوقة، دعمت الولايات المتحدة في عام 2019 إعلان المعارض خوان غوايدو نفسه رئيسًا مؤقتًا لفنزويلا، متجاوزة بذلك الأعراف الدبلوماسية، وساعية إلى فرض واقع سياسي جديد بالقوة، رغم فشل هذا المشروع في تحقيق أهدافه.
ولم تقتصر الضغوط الأميركية على الداخل الفنزويلي، بل امتدت إلى استهداف الحلفاء الدوليين لفنزويلا، مثل روسيا والصين وتركيا، عبر تهديدات بفرض عقوبات ثانوية ومحاولات لعرقلة الاتفاقيات الثنائية، بهدف عزل كاراكاس عن أي دعم خارجي محتمل.
تُظهر هذه الخطوات أن الولايات المتحدة لا تتعامل مع فنزويلا كدولة فقط، بل كمشروع سياسي يُهدد مصالحها في القارة. وبين العقوبات والتهديدات، تسعى واشنطن إلى إعادة تشكيل فنزويلا وفق رؤيتها، بينما تواصل كاراكاس المواجهة، مستندة إلى تحالفاتها الدولية وصمود شعبها، في معركة تتجاوز الجغرافيا، وتمس جوهر السيادة الوطنية في عالم تتشابك فيه المصالح وتُعاد فيه صياغة موازين القوة.
تحالفات استراتيجية في مواجهة الهيمنة الغربية
في ظل الحصار الغربي المتصاعد، تبنّت فنزويلا سياسة خارجية تقوم على تنويع الشراكات الدولية، متجهةً نحو تعزيز علاقاتها مع قوى كبرى لا تخضع للنفوذ الغربي المباشر، مثل روسيا، الصين، وكوبا. هذا التوجه لم يكن مجرد رد فعل على العقوبات الأميركية والأوروبية، بل جاء في إطار استراتيجية أوسع تهدف إلى كسر العزلة المفروضة عليها، وبناء شبكة دعم سياسي واقتصادي تُمكّنها من الحفاظ على استقلالية قرارها السيادي.
الصين برزت كأحد أبرز الشركاء الدوليين لفنزويلا، حيث استثمرت مليارات الدولارات في مشاريع البنية التحتية والطاقة، مقابل عقود طويلة الأمد في قطاع النفط. بالنسبة لبكين، لا تمثل كاراكاس مجرد حليف سياسي، بل تُعد بوابة استراتيجية لتعزيز نفوذها في أميركا اللاتينية، وتقليص الهيمنة الأميركية في المنطقة. أمّا روسيا، فقد شكّلت ركيزة أساسية في دعم فنزويلا، لا سيما في المجالات العسكرية والدبلوماسية، من خلال توقيع اتفاقيات تعاون في مجالات الدفاع والتكنولوجيا والطاقة، فضلاً عن دعمها السياسي للرئيس مادورو في المحافل الدولية. هذا التحالف يعيد إلى الأذهان نمط الاصطفافات الدولية في حقبة الحرب الباردة، وإن كان بصيغة جديدة تراعي التوازنات الجيوسياسية الراهنة.
كوبا، الحليف التاريخي، تواصل تقديم الدعم التقني والإنساني لفنزويلا، خصوصاً في مجالي الصحة والتعليم، في إطار علاقة تتجاوز المصالح المادية إلى تقارب أيديولوجي يعكس روح المقاومة اللاتينية في وجه الهيمنة الغربية. هذه التحالفات مجتمعة لا تقتصر على توفير أدوات للبقاء في وجه الضغوط، بل تمنح فنزويلا هامشاً من المناورة السياسية والاقتصادية، وتُعزز من قدرتها على الصمود.
غير أن هذا التوجه يثير قلقاً متزايداً لدى الغرب، الذي يرى في هذه التحالفات محاولة لبناء محور مضاد لنفوذه التقليدي في القارة. ومع ذلك، فإن فنزويلا لا تسعى فقط إلى عقد تحالفات بديلة، بل إلى إعادة تعريف موقعها في النظام الدولي، كدولة مستقلة ترفض الوصاية وتُصرّ على حقها في تقرير مصيرها. ومن هنا، يُمكن فهم خطاب مادورو بوصفه جزءاً من معركة أوسع تتعلق بإعادة تشكيل موازين القوى العالمية، في مواجهة نظام دولي يُصرّ على الأحادية، بينما تراهن كاراكاس على التعددية والتوازن كمدخل لإرساء نظام عالمي أكثر عدالة.
فنزويلا.. نموذج للسيادة في زمن الانصياع
في عالم تتسارع فيه وتيرة التبعية السياسية والاقتصادية، تبرز فنزويلا كواحدة من الدول القليلة التي اختارت أن تقول «لا» في وجه الهيمنة. ورغم الحصار والعقوبات، لم تتنازل عن حقها في تقرير مصيرها، ولم تسمح بأن تُدار شؤونها من غرف مغلقة في واشنطن أو بروكسل. هذه المواقف، هي تعبير عن إرادة وطنية لا تقبل الإملاء.
فنزويلا، بقيادتها الحالية، لم تكتف برفض التدخلات، بل سعت إلى بناء نموذج اقتصادي واجتماعي مستقل، يُعيد توزيع الثروات، ويمنح الفقراء صوتاً في القرار السياسي. ورغم التحديات، فإن هذا النموذج يُمثّل محاولة جريئة لكسر القوالب الجاهزة التي فُرضت على دول الجنوب لعقود.