صراع الإرادات في زمن التحولات الكبرى

أمريكا والصين.. من الحرب التجارية إلى حافة الحرب العسكرية

 جاءت تصريحات ترامب، التي حذّر فيها الصين من «عواقب» غزو تايوان، لتضيف مزيداً من الوقود إلى نار التوتر، وتفتح الباب أمام تساؤلات عميقة حول مستقبل الجزيرة، واستقرار المنطقة، ومصير النظام الدولي القائم على القواعد

في عالم تتسارع فيه التحولات الجيوسياسية، وتتصاعد فيه التوترات بين القوى العظمى، تبرز تايوان كإحدى أكثر النقاط سخونة في العلاقات الدولية. هذه الجزيرة الصغيرة، التي لا تتجاوز مساحتها 36 ألف كيلومتر مربع، باتت تُمثل خط تماس حاد بين الولايات المتحدة والصين. في هذا السياق، جاءت تصريحات دونالد ترامب، التي حذّر فيها الصين من «عواقب» غزو تايوان، لتضيف مزيداً من الوقود إلى نار التوتر، وتفتح الباب أمام تساؤلات عميقة حول مستقبل الجزيرة، واستقرار المنطقة، ومصير النظام الدولي القائم على القواعد.

 

تايوان.. الجغرافيا التي تصنع السياسة

 

لفهم أبعاد الأزمة، لا بد من العودة إلى الجذور التاريخية للصراع. بعد الحرب الأهلية الصينية التي انتهت عام 1949 م بانتصار الشيوعيين بقيادة ماو تسي تونغ، انسحبت الحكومة القومية بقيادة تشيانغ كاي شيك إلى جزيرة تايوان، وأعلنت أنها تمثل «الصين الحقيقية». ومنذ ذلك الحين، ظلت تايوان تتمتع بحكم ذاتي، ونظام ديمقراطي، واقتصاد مزدهر، لكنها لم تعلن استقلالها رسمياً، خشية من رد فعل عسكري صيني.

 

الصين، من جهتها، تعتبر تايوان جزءاً لا يتجزأ من أراضيها، وتتعهد بإعادتها إلى «حضن الوطن»، ولو بالقوة إذا لزم الأمر. هذا الموقف ليس مجرد خطاب سياسي، بل هو جزء من العقيدة العسكرية الصينية، وقد تم تضمينه في «قانون مناهضة الانفصال» الذي أقره البرلمان الصيني عام 2005، والذي يجيز استخدام القوة ضد تايوان إذا أعلنت الاستقلال أو تأخرت في التفاوض على إعادة التوحيد.

 

الولايات المتحدة وتايوان.. سياسة الغموض الاستراتيجي

 

منذ سبعينيات القرن الماضي، تبنّت الولايات المتحدة سياسة «الصين الواحدة»، أي الاعتراف بجمهورية الصين الشعبية كالحكومة الشرعية الوحيدة للصين، لكنها في الوقت ذاته حافظت على علاقات غير رسمية مع تايوان، وقدّمت لها الدعم العسكري والدبلوماسي. هذه السياسة، تهدف إلى تحقيق توازن دقيق: ردع الصين عن غزو تايوان، دون استفزازها بإعلان دعم صريح لاستقلال الجزيرة.

 

لكن هذه السياسة باتت موضع تساؤل في السنوات الأخيرة، خصوصاً مع تصاعد التوترات في بحر الصين الجنوبي، وزيادة النشاط العسكري الصيني حول تايوان، وتنامي العلاقات بين واشنطن وتايبيه. وقد شهدت السنوات الأخيرة زيارات رفيعة المستوى من مسؤولين أميركيين إلى تايوان، وزيادة في مبيعات الأسلحة، ما أثار غضب بكين، واعتبرته تدخلاً في شؤونها الداخلية.

 

ترامب والصين.. من الحرب التجارية إلى الردع العسكري

 

 

منذ وصوله إلى البيت الأبيض، تبنّى دونالد ترامب سياسة أكثر صرامة تجاه الصين، سواء في المجال التجاري أو التكنولوجي أو العسكري. أطلق حرباً تجارية شاملة ضد بكين، فرض خلالها رسوماً جمركية على مئات المليارات من الدولارات من السلع الصينية، واتهمها بسرقة الملكية الفكرية، والتلاعب بالعملة، ونشر فيروس كورونا. كما فرض قيوداً على شركات التكنولوجيا الصينية مثل هواوي وتيك توك، وسعى إلى تقليص الاعتماد الأميركي على سلاسل التوريد الصينية.

 

في هذا السياق، جاءت تصريحات ترامب الأخيرة بشأن تايوان كجزء من استراتيجية أوسع لردع الصين، وإعادة تأكيد التزام واشنطن بأمن حلفائها في آسيا. لكن اللافت في تصريحاته هو الغموض الذي أحاط بها، حيث رفض الإفصاح عما إذا كانت الولايات المتحدة ستتدخل عسكرياً في حال غزت الصين تايوان، مكتفياً بالقول: «ستعرفون إذا حدث ذلك، وهو يعرف الإجابة». هذا الغموض قد يكون مقصوداً، لكنه يثير تساؤلات حول مدى جدية التزام واشنطن بالدفاع عن الجزيرة.

 

الصين وتايوان.. الحسابات المعقدة

 

من وجهة نظر بكين، فإن تايوان ليست مجرد قضية سيادة، بل مسألة كرامة وطنية، وركيزة أساسية في شرعية الحزب الحاكم. الرئيس الصيني شي جينبينغ جعل من «إعادة التوحيد» هدفاً مركزياً في رؤيته للصين الحديثة، واعتبر أن «تحقيق الحلم الصيني» لا يكتمل دون استعادة تايوان.

 

لكن غزو تايوان ليس قراراً سهلاً. فالصين تدرك أن أي هجوم عسكري سيؤدي إلى رد فعل دولي عنيف، وقد يجرّ الولايات المتحدة إلى حرب مباشرة، ما قد يهدد استقرار النظام العالمي، ويؤدي إلى انهيار الاقتصاد الصيني. لذلك، تعتمد بكين حالياً على استراتيجية «الضغط المتدرج» عبر المناورات العسكرية، والحصار الاقتصادي، والحرب السيبرانية، في محاولة لإضعاف تايوان دون اللجوء إلى الحرب الشاملة.

 

الردع العسكري الأميركي بين الالتزام والتحفظ

 

الولايات المتحدة، رغم سياسة الغموض، لم تتوقف يوماً عن تعزيز قدرات تايوان الدفاعية. فمنذ إقرار «قانون العلاقات مع تايوان» عام 1979، التزمت واشنطن بتزويد الجزيرة بالأسلحة اللازمة للدفاع عن نفسها. وقد شهدت السنوات الأخيرة صفقات ضخمة شملت طائرات مقاتلة، أنظمة دفاع جوي، وصواريخ مضادة للسفن. هذا الدعم لا يقتصر على المعدات، بل يشمل أيضاً تدريبات مشتركة، وتبادل معلومات استخباراتية، وزيارات رسمية من مسؤولين أميركيين رفيعي المستوى.

 

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يكفي هذا الدعم لردع الصين؟ وهل تملك الولايات المتحدة الإرادة السياسية للتدخل العسكري المباشر في حال اندلاع الحرب؟ تصريحات ترامب، التي اتسمت بالغموض، تعكس تردداً في تقديم ضمانات صريحة، ما قد يفسر على أنه ضعف في الموقف، أو محاولة لتجنب التصعيد. في المقابل، يرى البعض أن هذا الغموض هو جزء من استراتيجية مدروسة تهدف إلى إبقاء الصين في حالة تخمين، ومنعها من اتخاذ قرار حاسم بشأن غزو تايوان.

 

الصين والردع الأميركي.. اختبار الإرادة

 

من وجهة نظر بكين، فإن الردع الأميركي لا يُنظر إليه على أنه مطلق، بل قابل للاختبار. فالصين تدرك أن الولايات المتحدة تعاني من انقسامات داخلية، وتواجه تحديات اقتصادية، وتخوض صراعات متعددة في مناطق أخرى. كما أن الرأي العام الأميركي لا يؤيد التدخلات العسكرية الخارجية، خصوصاً بعد تجارب العراق وأفغانستان. لذلك، قد تراهن الصين على أن واشنطن لن تخاطر بحرب شاملة من أجل جزيرة صغيرة، خصوصاً إذا تم الغزو بسرعة وبحسم.

 

لكن هذا الرهان محفوف بالمخاطر. فالتدخل الأميركي قد لا يكون مباشراً، لكنه قد يشمل فرض عقوبات اقتصادية قاسية، وحشد تحالف دولي ضد الصين، وتقديم دعم عسكري غير مباشر لتايوان. كما أن أي عدوان صيني قد يؤدي إلى انهيار العلاقات التجارية مع الغرب، وفقدان الثقة في الاقتصاد الصيني، وهروب الاستثمارات الأجنبية، ما قد يهدد استقرار النظام في بكين.

 

المعادن النادرة..سلاح اقتصادي في الصراع

 

في سياق موازٍ، تبرز قضية المعادن النادرة كساحة جديدة للصراع بين واشنطن وبكين. هذه المعادن، التي تشمل عناصر مثل النيوديميوم والديسبروسيوم، تُستخدم في الصناعات التكنولوجية والعسكرية، وتسيطر الصين على أكثر من 80% من إنتاجها العالمي. هذا الاحتكار يمنح بكين نفوذاً كبيراً، وقد استخدمته سابقاً كورقة ضغط ضد اليابان والولايات المتحدة.

 

لكن واشنطن بدأت تدرك خطورة هذا الاعتماد، وتسعى إلى تنويع مصادرها، وتطوير صناعات محلية لاستخراج هذه المعادن.

 

التحالفات الإقليمية.. شبكة ردع متعددة الأطراف

 

الولايات المتحدة لا تعتمد فقط على قوتها العسكرية، بل تبني شبكة من التحالفات الإقليمية لاحتواء الصين. أبرز هذه التحالفات هو «الرباعية» (QUAD)، التي تضم إلى جانب واشنطن كلاً من اليابان، الهند، وأستراليا. هذا التحالف يسعى إلى تعزيز الأمن البحري، وتنسيق السياسات الدفاعية، ومواجهة النفوذ الصيني في المحيطين الهندي والهادئ.

 

كما تعزز واشنطن علاقاتها مع كوريا الجنوبية، والفلبين، وتايلاند، وتدعم مبادرات مثل «الشراكة الاقتصادية عبر المحيط الهادئ»، التي تهدف إلى تقليص الاعتماد على الصين في التجارة. هذه التحالفات تشكل طوقاً جيوسياسياً حول بكين، وتزيد من تكلفة أي مغامرة عسكرية ضد تايوان، وتجعل الرد الأميركي أكثر تنسيقاً وفعالية.

 

تايوان في مفترق طرق

 

المستقبل يحمل عدة سيناريوهات محتملة، تتراوح بين التصعيد العسكري، والحل الدبلوماسي، واستمرار الوضع القائم. السيناريو الأكثر خطورة هو الغزو الصيني لتايوان، وما قد يترتب عليه من حرب إقليمية أو حتى عالمية. لكن هذا السيناريو لا يزال مستبعداً، نظراً للتكلفة الباهظة، والمخاطر السياسية والاقتصادية.

 

السيناريو الآخر هو استمرار الضغط الصيني دون غزوٍ مباشر، عبر الحصار، والمناورات، والحرب السيبرانية. هذا السيناريو يسمح لبكين بتحقيق أهدافها تدريجياً، دون إثارة رد فعل دولي عنيف. في المقابل، قد تسعى واشنطن إلى تعزيز الردع، وتقديم ضمانات أمنية لتايوان، دون الدخول في مواجهة مباشرة.

 

ختاماً في خضم التصريحات المتبادلة والمواقف المتباينة، تظل تايوان نقطة ارتكاز في معادلة دولية شديدة الحساسية، حيث تتقاطع فيها مصالح القوى العظمى ورؤاها المتباينة لمستقبل النظام العالمي. وبينما تسعى الصين إلى استعادة وحدة أراضيها وتحقيق حلمها الوطني في «إعادة التوحيد»، تواصل الولايات المتحدة إرسال رسائل غامضة تزيد من حالة عدم اليقين، وتفتح الباب أمام مزيد من التوتر.

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص