في قلب الولايات المتحدة، إذ يُفترض أن تعمل المؤسسات الفيدرالية بانسيابية لخدمة المواطن، يبرز مشهد غير مألوف: حكومة متوقفة، موظفون بلا أجور، ومجال جوي مهدد بالإغلاق. الإغلاق الحكومي الأميركي لم يعد مجرد حدث إداري أو سياسي عابر، بل تحول إلى أزمة بنيوية تعكس عمق الانقسام السياسي، وتكشف هشاشة التوازن بين السلطات، وتضع المواطن الأميركي أمام سؤال وجودي: ماذا يحدث حين تتوقف الدولة عن العمل؟
وفي الوقت الذي تتهاوى فيه واشنطن تحت وطأة الجمود الحزبي، تبرز نيويورك كمدينة تتنفس إرادة التغيير، مع فوز «زهران ممداني» بمنصب عدة المدينة. هذا الفوز التاريخي، الذي جاء في ذروة الأزمة الفيدرالية، لا يمكن فصله عن السياق الوطني، بل يعكس تحوّلاً في المزاج الشعبي، ورغبة في قيادة محلية قادرة على تجاوز الشلل المركزي.
الإغلاق الحكومي.. مواجهة سياسية مفتوحة
الإغلاق الحكومي الأميركي ليس ظاهرة جديدة، لكنه في نسخته الحالية تجاوز كل التوقعات. بدأ كخلاف حول بنود الموازنة، وتحديداً الإنفاق على الرعاية الصحية، لكنه سرعان ما تحوّل إلى مواجهة سياسية مفتوحة بين البيت الأبيض والكونغرس. الديمقراطيون يطالبون بتمديد الدعم الذي يجعل التأمين الصحي في متناول ملايين الأميركيين، بينما يرفض ترامب التفاوض قبل إنهاء الإغلاق، ما خلق حالة من الجمود السياسي غير مسبوقة.
هذا الجمود لم يبقَ في أروقة السياسة، بل تسلل إلى مفاصل الدولة، فأُغلقت مؤسسات، وتوقفت خدمات، وعاش أكثر من مليون موظف حكومي في حالة من القلق وعدم اليقين. ومع دخول الإغلاق يومه الـ36، تجاوز الرقم القياسي السابق المسجل عام 2019، ما يعكس عمق الأزمة الحالية مقارنة بسابقاتها.
الإغلاق الحكومي ليس مجرد توقف مؤقت في عمل المؤسسات، بل هو تعبير عن فشل النظام السياسي في التوصل إلى توافقات. إنه لحظة تتجلى فيها هشاشة الديمقراطية حين تُختطف من قبل الصراعات الحزبية، ويُستخدم المواطن كأداة ضغط في لعبة سياسية لا ترحم.
المجال الجوي.. شلل سياسي جديد
من بين القطاعات الامريكية المتضررة، يبرز قطاع الطيران كأحد أكثر القطاعات حساسية وتأثراً. يعمل أكثر من 60 ألف مراقب حركة جوية وموظف في إدارة أمن النقل من دون أجر، ما أدى إلى نقص حاد في الكوادر التشغيلية. هذا النقص بدأ ينعكس على أرض الواقع: تأخيرات في الرحلات، إلغاءات، توقف مؤقت في عمليات الإقلاع، وتحذيرات من إغلاق جزئي للمجال الجوي.
وزير النقل الأميركي، شون دافي، لم يُخفِ قلقه، بل وجّه تحذيراً صريحاً قائلاً إن استمرار الأزمة قد يؤدي إلى فوضى عارمة في المطارات، وتأخيرات لا يمكن السيطرة عليها، وربما إغلاق أجزاء من المجال الجوي. هذا التصريح ليس مجرد تهويل إعلامي، بل يعكس واقعاً مريراً تعيشه المطارات الأميركية، حيث يتغيب الموظفون عن العمل، ويضطر البعض إلى التذرّع بالمرض هرباً من العمل دون أجر.
التهديد بإغلاق المجال الجوي ليس مجرد إجراء تقني، بل هو إعلان عن عجز الدولة عن إدارة أحد أكثر القطاعات حيوية. إنه مؤشر على أن الأزمة لم تعد محصورة في أروقة الكونغرس، بل وصلت إلى السماء، إلى الفضاء الذي يُفترض أن يكون رمزاً للانفتاح والحرية والتنقل.
سيناريو 2019.. التاريخ لا يتعلم من نفسه
أزمة الإغلاق الحالية تذكّرنا بإغلاق عام 2019، حين استمر الشلل لمدة 35 يوماً، وانتهى بعد أن تسبب تغيب الموظفين عن العمل في تأخيرات كبيرة في المطارات، ما أجبر إدارة ترامب حينها على التراجع. لكن يبدو أن التاريخ لا يتعلم من نفسه، فها نحن نعيش نسخة أكثر تعقيداً من تلك الأزمة، وسط تصلّب أكبر في المواقف، وانقسام أعمق في الكونغرس.
الفرق الجوهري هذه المرة هو أن الإغلاق تجاوز الرقم القياسي السابق، وأن التحذيرات لم تعد نظرية، بل بدأت تتحقق على أرض الواقع. توقف مؤقت في مطار رونالد ريغان، تأخيرات في مطار فينيكس، وتهديدات بإغلاق جزئي للمجال الجوي، كلها مؤشرات على أن الأزمة دخلت مرحلة حرجة.
البنية المؤسسية في اختبار حقيقي
الإغلاق الحكومي يضع البنية المؤسسية الأميركية في اختبار حقيقي. فحين تتوقف الدولة عن دفع أجور موظفيها، وتُغلق مؤسساتها، وتُشلّ خدماتها، فإن ذلك لا يعكس فقط أزمة سياسية، بل يكشف هشاشة النظام الإداري في مواجهة الانقسامات الحزبية. المؤسسات التي يُفترض أن تكون محايدة وفعالة، تصبح رهينة للصراع السياسي، ما يهدد ثقة المواطن في الدولة، ويضع الديمقراطية الأميركية أمام تحديات وجودية. فحين يُهدد المجال الجوي بالإغلاق، فإن ذلك لا يعني فقط تأخيرات في الرحلات، بل يشير إلى انهيار في قدرة الدولة على تقديم خدماتها الأساسية.
لعبة عضّ الأصابع
المواجهة بين الجمهوريين والديمقراطيين تحولت إلى لعبة عضّ أصابع، إذ يراهن كل طرف على أن الآخر سيتراجع أولاً. ترامب يرفض التفاوض قبل إنهاء الإغلاق، والديمقراطيون يصرّون على ربط إعادة تشغيل الحكومة بتحقيق مطالبهم في الرعاية الصحية. هذا التصعيد لا يترك مجالاً للحلول الوسط، بل يدفع بالأزمة نحو مزيد من التعقيد.
في هذه اللعبة، المواطن الأميركي هو الخاسر الأكبر. الموظفون بلا أجور، الخدمات متوقفة، والمطارات في حالة فوضى. ومع استمرار الإغلاق، تتزايد الضغوط على الطرفين، لكن لا يبدو أن أحدهما مستعد للتنازل، ما يجعل الأزمة مفتوحة على كل الاحتمالات، بما فيها إغلاق جزئي للمجال الجوي، أو حتى انهيار ثقة المواطن في النظام السياسي برمّته.
وإذا استمر الإغلاق، فإن الاحتجاجات الشعبية قد تتصاعد، وفي حال لم يتم التوصل إلى اتفاق، فإن الأزمة قد تتحول إلى أزمة دستورية، تهدد استقرار النظام السياسي الأميركي.
التحول الديمقراطي وسط الإغلاق الفيدرالي
في لحظة سياسية حرجة تعيشها الولايات المتحدة بسبب الإغلاق الحكومي، جاء فوز «زهران ممداني» بمنصب عمدة نيويورك ليشكل نقطة تحول بارزة في المشهد الأميركي. لم يكن هذا الفوز مجرد حدث محلي، بل حمل دلالات عميقة، خاصةً أنه تزامن مع تهديدات بإغلاق جزئي للمجال الجوي نتيجة نقص الموظفين الفيدراليين.
ممداني، البالغ من العمر 34 عاماً، أصبح أول مسلم من أصول جنوب آسيوية وأفريقية يتولى قيادة أكبر مدينة أميركية، وأصغر عمدة في تاريخها الحديث. حملته الانتخابية ركزت على قضايا معيشية مباشرة مثل تجميد الإيجارات، النقل المجاني، ورعاية الأطفال، وهي مطالب تتقاطع مع تداعيات الإغلاق الذي ترك آلاف الموظفين بلا أجور.
فوزه يُعد ردًا شعبيًا على السياسات الفيدرالية التي تسببت في الشلل الحكومي، ويعكس رغبة المواطنين في قيادة محلية تقدم حلولًا عملية بعيدًا عن الجمود الحزبي. فقد استطاع أن يحشد قاعدة شعبية واسعة، خصوصًا من الفقراء والمهمّشين، متحديًا النخبة السياسية التقليدية داخل الحزب الديمقراطي.
هذا التحول في نيويورك لا يُنظر إليه بمعزل عن الأزمة الوطنية، بل كجزء من إعادة تعريف السياسة بوصفها خدمة للمواطن، لا سلطة فوقه. وبينما تتصارع واشنطن حول بنود الموازنة، يختار سكان نيويورك قيادة تضع الإنسان في قلب الاهتمام، وتقدم نموذجًا يُحتذى به في مدن أخرى.
ممداني؛ رمز شعبي ورسالة إلى واشنطن
فوز ممداني لم يكن مجرد انتصار انتخابي، بل إعلان عن نهاية مرحلة سياسية وبداية أخرى. فقد اعتبره سياسيون بارزون مثل «بيرني ساندرز» من أكبر المفاجآت السياسية في التاريخ الأميركي الحديث، بينما عبّر منافسوه عن قلقهم من توجهاته الاشتراكية.
ممداني نفسه أكد أن السياسة لم تعد تُفرض على الناس، بل هي ما يصنعونه بأنفسهم، متعهداً بمحاربة الفساد، وإنهاء الإسلاموفوبيا، ومحاسبة المتهربين من الضرائب. وقد عبّر عن ذلك بوضوح حين قال:« إذا كان بإمكان أي شخص أن يُظهر لأمة خانها ترامب كيفية هزيمته، فهي المدينة التي أنجبته».
هذا التصريح لم يكن مجرد تحدٍ سياسي، بل إعلان عن نهاية مرحلة وبداية أخرى، حيث تُعاد صياغة العلاقة بين المواطن والدولة، وتُستبدل النخبة التقليدية بقيادات شعبية تعبّر عن هموم الناس.
ختاماً فوز زهران ممداني لا يغيّر فقط وجه نيويورك، بل يرسل رسالة إلى واشنطن مفادها أن الشعب يريد قيادة مسؤولة، قادرة على تجاوز الأزمات، لا التسبب فيها. وبينما تختنق العاصمة في خلافاتها، تتنفس نيويورك عبر صناديق الاقتراع، وتعيد رسم معادلة السلطة من القاعدة إلى القمة.
هذا الفوز يعكس تحوّلاً في المزاج الشعبي، لا سيما في المدن الكبرى التي باتت تبحث عن قيادات محلية قادرة على تقديم حلول عملية، في وقت تعجز فيه الحكومة الفيدرالية عن إدارة أبسط الملفات. وبينما يُهدد المجال الجوي بالإغلاق، يفتح هذا الفوز أفقاً سياسياً جديداً، قد يكون بداية لتحول أوسع في طريقة إدارة الدولة الأميركية نفسها.