د. بهمن أكبري
فالنصّ، على قِصَره، يحمل إشارات لغوية وسياسية دقيقة تدلّ على أنّ العلاقات الإيرانية–السعودیة تجاوزت مرحلة المصالحة السياسية، ودخلت طور إرساء التعاون المؤسسي والمتعدد الأطراف.
١. انتقال مستوى العلاقات: من «المصالحة» إلى «التنسيق المؤسسي»
في الأشهر الأولى التي تلت اتفاق بكين (آذار/مارس ٢٠٢٣)، انحصر الاهتمام في إعادة فتح السفارات وتطبيع العلاقات السياسية.
لكنّ غريب آبادي تحدّث في بيانه عن «تطوير، وتعزيز، وتنسيق التعاون بين الحكومتين في مجالات المنظمات الدولية، وحقوق الإنسان، والتعاون القانوني والقضائي».
وهذا التحوّل يُشير إلى أنّ العلاقات بين البلدين تتجاوز الطابع الدبلوماسي التقليدي لتصل إلى مستوى مؤسساتي وفنّي، أي إلى مرحلة العمل المنسّق داخل المحافل الدولية، وهو تطوّر لم يسبق له مثيل في تاريخ العلاقات بين البلدين.
٢. دلالة المفردات: «الاحترام المتبادل» و«حسن الجوار»
يُعدّ استخدام مصطلحي الاحترام المتبادل وحسن الجوار مؤشراً على نشوء لغة سياسية جديدة بين طهران والرياض، تقوم على أساس التعايش وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية.
فبعد سنوات من التوترات التي اتسمت بـ«المنافسة داخل الفضاء الإسلامي»، بات الخطاب الجديد يقوم على البراغماتية الإقليمية، أي تغليب المصالح الواقعية على الخلافات الأيديولوجية.
هذه المفردات تعبّر عن تحوّل ذهني ومؤسسي في مقاربة البلدين لسياساتهما الخارجية.
٣. «القواسم المشتركة» و«المصالح المشتركة»: نحو مشاريع مشتركة
إشارة غريب آبادي إلى وجود «قواسم مشتركة عديدة في مجالات مختلفة» وإلى ضرورة تحقيق «المصالح المشتركة»، تُبرز رغبة البلدين في بلورة مشروعات اقتصادية وأمنية مشتركة.
ففي ظلّ الأزمات الإقليمية، توصّل الطرفان إلى قناعة بأنّ الخصومة المستمرة مُكلفة وغير مجدية، وأنّ التعاون القائم على الدبلوماسية القانونية والأمن الناعم هو الخيار الواقعي لضمان الاستقرار.
٤. البعد القانوني والإنساني: «حقوق الإنسان والتعاون القضائي»
الفقرة التي تناول فيها نائب الوزير «حقوق الإنسان» و«التعاون القانوني والقضائي» هي من أبرز النقاط الدلالية في النصّ.
فهي تعبّر عن رغبة متبادلة في اختبار الثقة السياسية عبر التعاون الحقوقي، إذ يمكن لإيران أن تقدّم من خلال هذا الإطار رؤيتها المستقلة لـ«حقوق الإنسان الإسلامية»، فيما تسعى المملكة إلى تقديم صورة أكثر انفتاحاً وإنسانية في الساحة الدولية.
وهذا التقاطع في المصالح قد يُمهّد لبناء خطابٍ إسلاميٍّ مشترك حول قضايا العدالة والحقوق.
٥. الأفق الاستراتيجي: «السلام والاستقرار الإقليمي»
اختتم غريب آبادي بيانه بالتأكيد على «تحقيق السلام والاستقرار الإقليمي في ظلّ الظروف الدولية الراهنة»، وهي عبارة تحمل أكثر من دلالة:
فهي تُشير ضمنياً إلى الأزمات المتزامنة في المنطقة،
كما تُبرز موقفاً مشتركاً في مواجهة محاولات الولايات المتحدة وإسرائيل إعادة هندسة التحالفات الإقليمية على حساب استقلال القرارين السعودي والإيراني.
بذلك يتّجه البلدان نحو صيغة جديدة من التقارب المصلحي الواعي في مواجهة الاستقطابات الغربية المفروضة.
الخلاصة
يمكن اعتبار رسالة غريب آبادي بيان المرحلة الثانية من العلاقات الإيرانية–السعودية؛ مرحلة تتجاوز المصالحة السياسية إلى بناء تعاون مؤسسي ومتعدد الأطراف في النظام الدولي.
وفي هذه المرحلة:
تكتسب الدبلوماسية الحقوقية والثقافية أهمية موازية للدبلوماسية السياسية؛
ويجري الانتقال من منطق المنافسة على النفوذ إلى منطق تنظيم المصالح المتقاطعة؛
وتُستبدل لغة الشكّ والتوجّس بلغة الاحترام المتبادل وحسن النية والتعاون البنّاء.
إنّ هذا المسار، إذا ما استمرّ بجهدٍ مؤسسي متبادل، يمكن أن يُسهم لا في ترسيخ العلاقات بين طهران والرياض فحسب، بل في إعادة رسم خريطة الأمن الإقليمي في الخليج الفارسي على أسسٍ من الثقة والاستقرار المستدام.
