ثروات نيجيريا تحت المجهر الأميركي..

ترامب يوظف المسيحية لإعادة رسم النفوذ في أفريقيا

هل تتحرك واشنطن فعلاً نحو التدخل في نيجيريا بعد تصريحات ترامب بأن بلاده قد تتخذ إجراءات عسكرية لحماية المسيحيين، أم أنها تبقى في إطار الضغط السياسي والدبلوماسي؟

في عالم السياسة الدولية، لا تأتي التصريحات الرئاسية من فراغ، ولا تمر مرور الكرام. حين يعلن دونالد ترامب، عبر منصته الخاصة «تروث سوشيال»، أن بلاده قد تتخذ إجراءات عسكرية لحماية المسيحيين في نيجيريا، فإن هذا التصريح لا يُقرأ فقط في سياق إنساني أو ديني، بل يُفكك ضمن شبكة معقدة من المصالح الجيوسياسية، والرهانات الاستراتيجية، والتفاعلات الإقليمية والدولية. فنيجيريا، الدولة الأكبر سكاناً في أفريقيا، ليست مجرد ساحة لصراع داخلي، بل هي عقدة أمنية واقتصادية وسياسية في غرب القارة، ما يجعل أي تدخل فيها محفوفاً بالتعقيدات.

 

التقارير الإعلامية التي تلت تصريحات ترامب كشفت أن القيادة الأميركية في أفريقيا (أفريكوم) أعدت ثلاث خطط للتدخل المحتمل، تتراوح بين الدعم اللوجستي للقوات النيجيرية، وتنفيذ ضربات بطائرات بدون طيار، وصولاً إلى نشر حاملات طائرات وأصول هجومية بعيدة المدى. هذا التصعيد الأمريكي يطرح أسئلة جوهرية حول دوافع التدخل، وحدوده، وتداعياته على الأمن الإقليمي والدولي، فضلاً عن انعكاساته على الداخل النيجيري الذي يعاني من اضطرابات مزمنة.

 

 تعقيدات الداخل وأزمة الهوية الأمنية

 

لفهم أبعاد التدخل الأميركي المحتمل، لا بد من التوقف عند المشهد الأمني في نيجيريا، الذي يتسم بتعدد الفاعلين المسلحين، وتداخل الأبعاد الدينية والعرقية والاقتصادية. فمنذ أكثر من عقد، تشكل جماعة «بوكو حرام» تهديداً وجودياً للدولة النيجيرية، عبر تنفيذ عمليات إرهابية تستهدف المدنيين والعسكريين على حد سواء. وقد تطورت هذه الجماعة لتصبح جزءاً من تنظيم «داعش – غرب أفريقيا»، ما أضفى على الصراع طابعاً عابراً للحدود، وأدخل نيجيريا في دائرة التهديدات العالمية.

 

لكن التهديد لا يقتصر على الجماعات الجهادية، فهناك أيضاً ميليشيات عرقية مثل «شعب بيافرا الأصلي»، التي تطالب بالانفصال، وتخوض مواجهات مع الجيش النيجيري. كما أن الصراعات بين الرعاة والمزارعين، التي غالباً ما تكون متجذرة في التوترات الاقتصادية والاجتماعية، تساهم في تأجيج العنف الداخلي. هذا الخليط من التهديدات يجعل من نيجيريا ساحة معقدة يصعب التعامل معها عبر تدخل عسكري تقليدي، ويطرح تحديات أمام أي قوة خارجية تسعى للتأثير في مجريات الأحداث.

 

استراتيجية واسعة لإعادة تشكيل النفوذ

 

تصريحات ترامب حول حماية المسيحيين في نيجيريا ليست الأولى من نوعها، لكنها تأخذ منحى أكثر حدة في هذه الحالة.  فترامب لا يكتفي بالتعبير عن القلق، بل يهدد بقطع المساعدات، ويأمر البنتاغون بالاستعداد لتدخل محتمل. هذا التوظيف للدين في السياسة الخارجية يثير جدلاً واسعاً، خاصةً أن بيانات مشروع ACLED تشير إلى أن من بين 1923 هجوماً على أهداف مدنية في نيجيريا في عام واحد، هناك فقط 50 هجوماً مرتبطاً مباشرة بالهوية المسيحية. ما يعني أن العنف لا يميز بين المجتمعات، بل يطال الجميع.

 

لكن ترامب، الذي لطالما خاطب قاعدة انتخابية محافظة ومتدينة، يجد في قضية المسيحيين في نيجيريا فرصة لتأكيد التزامه بالدفاع عن «القيم المسيحية»، حتى لو كان ذلك عبر تدخل عسكري. هذا التوجه يفتح الباب أمام تساؤلات حول مدى صدقية الدوافع الإنسانية، وهل هي فعلاً لحماية المدنيين، أم أنها جزء من استراتيجية أوسع لإعادة تشكيل النفوذ الأميركي في أفريقيا، في مواجهة تمدد الصين وروسيا.

 

خطط أفريكوم بين الدعم والشراكة والتصعيد

 

الخطط الثلاث التي أعدتها القيادة الأميركية في أفريقيا تعكس تدرجاً في مستوى التدخل، لكنها تكشف أيضاً عن غياب رؤية شاملة. فالخيار الأول، الذي يتضمن دعم القوات النيجيرية عبر الشركاء، يبدو أقرب إلى استمرار الوضع القائم، حيث تقدم واشنطن مساعدات لوجستية وتدريبية دون تدخل مباشر. أما الخيار الثاني، الذي يشمل تنفيذ ضربات بطائرات بدون طيار، فيواجه تحديات لوجستية، خاصةً بعد انسحاب القوات الأميركية من قواعدها في النيجر المجاورة، ما يجعل تنفيذ هذه الضربات أمراً معقداً.

 

الخيار الثالث، وهو الأكثر تصعيداً، يتضمن نشر مجموعة حاملة طائرات وأصول هجومية بعيدة المدى، لكنه لا يُعتبر أولوية حالياً، وفق تصريحات المسؤولين الأميركيين. هذا الخيار، رغم قوته العسكرية، يطرح تساؤلات حول جدواه، خاصةً أن المسؤولين أنفسهم يعترفون بأن إنهاء التمرد في نيجيريا يتطلب حملة مشابهة لتلك التي خاضتها واشنطن في العراق أو أفغانستان، وهو أمر لا يُدرس بجدية في الوقت الراهن.

 

نيجيريا.. جوهرة أفريقيا التي لا تُقدّر بثمن

 

نيجيريا ليست فقط أكبر دولة أفريقية من حيث عدد السكان، بل هي أيضاً أكبر منتج للنفط في القارة، وتملك احتياطيات ضخمة من الغاز الطبيعي. كما أنها سوق استهلاكي هائل يُتوقع أن يصبح من بين أكبر 10 اقتصادات في العالم بحلول منتصف القرن. هذه العوامل تجعل من نيجيريا هدفاً مغرياً لأي قوة عظمى تسعى لتثبيت أقدامها في أفريقيا.

 

إلى جانب النفط والغاز، تحتوي نيجيريا على معادن استراتيجية مثل الليثيوم والكولتان والذهب واليورانيوم، وهي موارد أصبحت هدفاً للتنافس العالمي، خاصةً مع تزايد الطلب على الطاقة النظيفة والتكنولوجيا المتقدمة. وتماماً كما كانت فنزويلا هدفاً بسبب نفطها، فإن نيجيريا تُستهدف اليوم بسبب ثرواتها المتنوعة.

 

إعادة التموضع الأميركي في أفريقيا

 

بعد انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، تبحث واشنطن عن مناطق جديدة لإعادة نشر نفوذها العسكري والاستخباراتي. نيجيريا تُمثل فرصة مثالية لذلك، خاصة في ظل تراجع النفوذ الفرنسي في الساحل الأفريقي، وتوسع النفوذ الروسي عبر مجموعة «فاغنر»، والوجود الاقتصادي الصيني الكثيف في مشاريع البنية التحتية. التدخل في نيجيريا، حتى لو كان محدوداً، يمنح أميركا موطئ قدم في غرب أفريقيا، ويعيد التوازن في مواجهة خصومها.

 

مخاطبة القاعدة المسيحية.. بُعدٌ انتخابي

 

ترامب لا يتحرك فقط بدوافع استراتيجية، بل أيضاً بدوافع انتخابية داخلية. فخطابه عن “حماية المسيحيين” في نيجيريا يخاطب قاعدة إنجيلية قوية في الولايات المتحدة، تعتبر الدفاع عن المسيحيين في الخارج قضية محورية. هذا الخطاب يُستخدم لحشد الدعم، خاصةً في موسم الانتخابات، ويمنح ترامب صورة «المدافع عن الإيمان».

 

ورغم عدم وجود قواعد أميركية نشطة في نيجيريا، إلا أن موقعها الجغرافي يجعلها مثالية لتكون منصة استخباراتية لمراقبة تحركات التنظيمات المتطرفة في الساحل وغرب أفريقيا، وشبكات التهريب العابرة للحدود، والنفوذ الصيني في الموانئ والبنية التحتية. كما أن نيجيريا تُمثل مختبراً لنموذج تدخل منخفض التكلفة: دعم استخباراتي، ضربات بطائرات بدون طيار، تدريب قوات محلية، دون التورط في حرب شاملة. هذا النموذج إذا نجح، قد يُعمم على دول أخرى في أفريقيا وآسيا.

 

ردود الفعل الداخلية والانقسام السياسي

 

الداخل النيجيري ليس كتلة واحدة، بل هو فسيفساء من المواقف والتوجهات. ففي حين رحبت بعض الجهات بالمساعدة الأميركية في مكافحة الإرهاب، شددت الحكومة على ضرورة احترام السيادة الوطنية. في المقابل، دعا زعيم جماعة «شعب بيافرا الأصلي»، ننامدي كانو، ترامب إلى إجراء تحقيق مستقل في «قتل المسيحيين وشعب إيغبو»، مطالباً بالوصول إلى المقابر الجماعية والسجلات العسكرية. هذا الانقسام يعكس تعقيد المشهد الداخلي، ويشير إلى أن التدخل الأميركي قد يُستغل من قبل بعض الجهات لتحقيق أهداف سياسية داخلية، ما يزيد من تعقيد المهمة.

 

الإعلام والدعاية بين التبرير والتضليل

 

الخطاب الإعلامي الأميركي يركز على حماية المسيحيين، بينما تشير تقارير مستقلة إلى أن العنف في نيجيريا لا يميز بين المجتمعات. فالإعلام الأميركي، خاصةً في عهد ترامب، غالباً ما يوظف قضايا حقوق الإنسان والدين لتبرير سياسات خارجية تخدم مصالح اقتصادية أو أمنية. وفي حالة نيجيريا، يتم تصوير الجماعات المسلحة على أنها تستهدف المسيحيين بشكلٍ حصري، رغم أن الواقع أكثر تعقيداً. هذا التبسيط الإعلامي يساهم في خلق صورة نمطية، ويُستخدم لتعبئة الدعم الشعبي لأي تدخل محتمل، حتى لو كانت دوافعه الحقيقية مختلفة تماماً.

 

هل تنجح واشنطن في تحقيق أهدافها؟

 

يُعد نجاح التدخل الأميركي في نيجيريا ليس مضموناً. فالمشهد الداخلي معقد، والمجتمع النيجيري حساس تجاه التدخلات الخارجية، كما أن الجماعات المسلحة أثبتت قدرتها على التكيف والصمود. لذلك، فإن أي تدخل يُصاغ ضمن استراتيجية شاملة، تشمل البعد العسكري، والدبلوماسي، والاقتصادي، والاجتماعي، وقد يتحول إلى عبء جديد على واشنطن، ويُعيد سيناريوهات الفشل السابقة.

 

في النهاية، يبقى السؤال مفتوحاً: هل تتحرك واشنطن فعلاً نحو التدخل، أم أن التصريحات تبقى في إطار الضغط السياسي والدبلوماسي؟ الإجابة ستتضح في الأشهر المقبلة، لكن المؤكد أن نيجيريا أصبحت الآن في قلب الحسابات الأميركية، وأن مستقبلها الأمني بات مرتبطاً، بشكل أو بآخر، بقرارات تُتخذ في واشنطن.

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص