لا شرعية للغزو

كاراكاس تقاوم الهيمنة ..معركة السيادة في وجه أطماع واشنطن

التدخل الأمريكي العسكري في فنزويلا، يحمل في طياته مخاطر سياسية وعسكرية واقتصادية قد تكون كلفتها أكبر من أي مكاسب أخرى والرهان على المعارضة محفوف بالشكوك

في خضم التحولات الجيوسياسية المتسارعة، تعود الولايات المتحدة إلى ممارسة واحدة من أكثر سياساتها إثارة للجدل وهي التدخل في شؤون الدول الأخرى تحت ذرائع متعددة، تتراوح بين حماية الأمن القومي، مكافحة الإرهاب، أو الدفاع عن حقوق الإنسان. هذه المرة، تتجه الأنظار نحو فنزويلا، الدولة الغنية بالنفط والمثقلة بالأزمات، حيث تتكشّف تحركات أميركية تهدف إلى إضفاء شرعية على استهداف نظام الرئيس نيكولاس مادورو. وبينما تنفي إدارة ترامب وجود نية فعلية لشن ضربات داخل الأراضي الفنزويلية، فإن الوقائع تشير إلى سيناريو أكثر تعقيداً، يتجاوز مجرد الضغط السياسي إلى احتمال التدخل العسكري المباشر.

 

التصعيد العسكري من البحر إلى البر

 

بدأت ملامح التصعيد الأميركي تتضح منذ أيلول/ سبتمبر 2025، حين استهدفت واشنطن قوارب في الكاريبي بزعم ارتباطها بتهريب المخدرات. ثم تضاعفت المكافأة المالية المخصصة للقبض على مادورو، لتصل إلى 50 مليون دولار، في خطوة تعكس نية واضحة في تصعيد المواجهة. كما اعترف ترامب علناً بالسماح لوكالة الاستخبارات المركزية بتنفيذ عمليات سرية داخل فنزويلا، ما يشير إلى تحول في الاستراتيجية من الضغط الاقتصادي إلى العمل الاستخباراتي والعسكري.

 

في الوقت ذاته، نشرت الولايات المتحدة آلاف الجنود، وسفن حربية، وغواصات، وقاذفات استراتيجية قرب السواحل الفنزويلية، في مشهد يذكّر بتحضيرات ما قبل التدخل العسكري. ورغم تأكيد الإدارة أن لا نية حالياً لشن ضربات برية، فإن هذه التحركات الميدانية تفتح الباب أمام احتمالات متعددة، خصوصاً في ظل غياب موقف موحد داخل الكونغرس بشأن صلاحيات الرئيس في هذا الملف.

 

البحث عن غطاء قانوني للهجوم

 

تسعى إدارة ترامب إلى إيجاد مبرر قانوني يتيح لها استهداف مادورو دون الحاجة إلى تفويض من الكونغرس. وقد بدأت وزارة العدل العمل على بناء سردية تربط مادورو بالإرهاب والمخدرات، ما قد يبرر تصنيفه كتهديد للأمن القومي. هذا التوجه يعكس رغبة في تجاوز القيود القانونية التي تمنع تنفيذ ضربات داخل أراضي دولة ذات سيادة، خصوصاً بعد أن أعلن مكتب المستشار القانوني في وزارة العدل بأن استهداف قوارب مشبوهة لا يبرر ضرب أهداف برية.

 

في هذا السياق، تبرز أهمية الاتصالات المستمرة بين واشنطن والمعارضة الفنزويلية، التي باتت تتحدث بلغة أكثر تصعيداً، كما في تصريحات ماريا كورينا ماتشادو التي أكدت أن «الوقت ينفد أمام مادورو»، في إشارة إلى قرب الحسم.

 

صراع داخل الإدارة الأميركية

 

التحول في سياسة واشنطن تجاه فنزويلا لم يكن وليد لحظة، بل جاء نتيجة صراع داخلي بين تيارين داخل الإدارة، الأول بقيادة ريتشارد غرينيل، الذي فضّل التفاوض مع مادورو ونجح في التوصل إلى اتفاقات اقتصادية، والثاني بقيادة ماركو روبيو، الذي دفع باتجاه تغيير الحكومة بالقوة، متهماً مادورو بالإرهاب وتهديد الأمن القومي.

 

هذا الصراع انتهى بانتصار التيار المتشدد، خصوصاً بعد أن أعاد روبيو تصوير مادورو كقائد لـ«إرهاب المخدرات» والهجرة غير الشرعية، وربطه بعصابة «ترين دي أراغوا»، ما أقنع ترامب بضرورة التصعيد.

 

المعارضة بين الدعم الأميركي والانقسام الداخلي

 

المعارضة الفنزويلية، التي لطالما كانت أداة في يد واشنطن، تعاني من انقسامات داخلية وتراجع شعبيتها. فبعد فشل غوايدو في حشد دعم شعبي واسع، تحاول شخصيات جديدة مثل ماريا كورينا ماتشادو لعب دور أكثر فاعلية، مستفيدة من الدعم الأميركي المباشر. إلا أن غياب وحدة الصف، وتردد الجيش في الانشقاق، يجعل من المعارضة شريكاً هشاً في أي خطة لتغيير الحكومة.

 

سجل التدخلات الأميركية في أميركا اللاتينية

 

من غواتيمالا (1954) إلى كوبا، ومن تشيلي إلى نيكاراغوا، غالباً ما أدت التدخلات الأميركية إلى حروب أهلية، انهيار مؤسسات الدولة، وتفاقم العداء الشعبي تجاه واشنطن. في فنزويلا تحديداً، فشلت محاولات سابقة، أبرزها دعم خوان غوايدو عام 2019، و«عملية غدعون» عام 2020، التي انتهت بإحباط محاولة إنزال بحري للقبض على مادورو.

 

تشير الدراسات إلى أن الدعم السري الأميركي للمعارضين لم ينجح في إسقاط الأنظمة سوى في حالات نادرة، ما يطرح تساؤلات حول جدوى تكرار هذه الاستراتيجية. كما أن محاولات الاغتيال غالباً ما فشلت، على غرار ما حصل مع «فيدال كاسترو» في كوبا.

 

السيناريوهات المحتملة بين الضربات والغزو

 

قد تلجأ واشنطن إلى استهداف منشآت عسكرية أو قيادات بارزة، بهدف إضعاف الحكومة أو تحفيز انقلاب داخلي. إلا أن التجربة التاريخية تُظهر أن الضربات الجوية وحدها لم تنجح يوماً في إسقاط نظام سياسي، بل غالباً ما تؤدي إلى تصعيد داخلي وتماسك الحكومة المستهدف.

 

هذا الخيار مستبعد حالياً، نظراً لتكلفته البشرية والسياسية. فوفق تقديرات مراكز الدراسات، فإن غزو فنزويلا يتطلب أكثر من 50 ألف جندي، وهو رقم يتجاوز بكثير ما هو متاح حالياً. كما أن تجربة العراق لا تزال حاضرة في الذاكرة الأميركية، وتُعدّ درساً في فشل السيطرة على بلد كبير ومعقد.

 

رغم التصعيد، لا تزال بعض الأصوات داخل الإدارة الأميركية ترى أن التفاوض مع مادورو قد يحقق مكاسب استراتيجية بأقل تكلفة، خصوصاً في ظل العروض الاقتصادية السخية التي قدمها، ومنها فتح قطاعي النفط والذهب أمام الشركات الأميركية، وتحويل صادرات النفط من الصين إلى الولايات المتحدة.

 

النفط والذهب في قلب الصراع

 

فنزويلا تمتلك أكبر احتياطي نفطي في العالم، إلى جانب ثروات معدنية هائلة. وقد عرض مادورو خلال الصيف فتح جميع مشاريع النفط والذهب أمام الشركات الأميركية، ومنحها عقوداً تفضيلية، في محاولة لاستمالة واشنطن. هذا العرض، الذي وصف بأنه «الأكثر سخاءً» منذ عقود، يعكس إدراك الحكومة الفنزويلية لحجم الضغوط الأميركية، ورغبتها في تجنب المواجهة.

 

إلا أن التيار المتشدد داخل الإدارة الأميركية يرى أن هذه العروض لا تكفي، ويعتبر أن تغيير الحكومة هو السبيل الوحيد لضمان مصالح واشنطن في المنطقة.

 

الدور الدولي؛ الصين وروسيا في المشهد

 

فنزويلا ليست دولة معزولة، بل ترتبط بعلاقات استراتيجية مع قوى دولية مثل الصين، روسيا. هذه الدول ترى في فنزويلا شريكاً سياسياً واقتصادياً، وتعارض أي تدخل أميركي في شؤونها. وقد يؤدي التصعيد الأميركي إلى ردود فعل دولية، تتراوح بين الدعم السياسي لمادورو، إلى تعزيز التعاون العسكري والاقتصادي معه، ما يعقّد المشهد الإقليمي والدولي.

 

كما أن أي تدخل أميركي في فنزويلا سيؤثر على كامل المنطقة، خصوصاً في ظل تصاعد الحركات اليسارية، وتنامي العداء الشعبي تجاه واشنطن. كما أن دول الجوار، مثل كولومبيا والبرازيل، قد تجد نفسها مضطرة لاتخاذ مواقف حاسمة، ما يهدد الاستقرار الإقليمي.

 

التحديات القانونية والدستورية

 

 

في الداخل الأميركي، يواجه ترامب تحديات قانونية، أبرزها محاولة الكونغرس تقييد صلاحياته في تنفيذ ضربات عسكرية دون تفويض. وقد عرقل الجمهوريون مشروع قرار قدمه السيناتور الديمقراطي تيم كين، ما يعكس الانقسام الحاد داخل المؤسسة التشريعية بشأن التدخل في فنزويلا.

 

إن الخيارات المطروحة أمام إدارة ترامب، وإن بدت متعددة، إلا أنها في جوهرها محكومة بقيود داخلية وخارجية. فالتدخل العسكري، سواء عبر ضربات جوية أو اجتياح بري، يحمل في طياته مخاطر سياسية وعسكرية واقتصادية، قد تكون كلفتها أكبر من أي مكاسب محتملة. أما الرهان على المعارضة الفنزويلية، فهو محفوف بالشكوك، نظراً لانقساماتها وضعف قاعدتها الشعبية. وفي المقابل، فإن العودة إلى طاولة المفاوضات، رغم ما تحمله من تنازلات، قد تكون الخيار الأنجع لتحقيق أهداف استراتيجية بأقل تكلفة.

 

في النهاية، تبقى فنزويلا ساحة اختبار لإرادة القوى الكبرى، وميداناً لصراع الإرادات بين الداخل والخارج، بين السيادة الوطنية والمصالح الجيوسياسية، وبين الواقعية السياسية والمغامرة. وما لم تُغلّب واشنطن منطق العقل على منطق القوة، فإنها قد تجد نفسها مرة أخرى في مواجهة نتائج كارثية، لا تقلّ خطورة عن تلك التي خلفتها تدخلاتها السابقة في البلدان المختلفة.

 

المصدر: الوفاق/ خاص