حين قررت الولايات المتحدة الأميركية عدم المشاركة في المراجعة الدورية الشاملة لسجلها في حقوق الإنسان أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، لم يكن ذلك مجرد انسحاب تقني من جلسة أممية، بل كان إعلاناً صريحاً عن رفض الخضوع للمساءلة، وتحدياً سافراً لفكرة العدالة الدولية. الدولة التي لطالما نصّبت نفسها وصية على حقوق الإنسان في العالم، اختارت أن تتخلف عن منصة المحاسبة، في خطوة لا يمكن تفسيرها إلا باعتبارها محاولة للهروب من مواجهة سجلها المثقل بالانتهاكات، داخلياً وخارجياً. هذا القرار، الذي يُعد سابقة خطيرة في تاريخ المراجعة الدورية، يكشف عن ازدواجية صارخة في الخطاب الأميركي، ويطرح أسئلة جوهرية حول مصداقية النظام الدولي حين تتخلف القوى الكبرى عن الالتزام بقواعده.
الهروب من مواجهة سجلها المثقل بالانتهاكات
منذ تأسيسها عام 2008، شكّلت آلية المراجعة الدورية الشاملة إحدى أهم أدوات الأمم المتحدة لضمان مساءلة الدول عن التزاماتها الحقوقية. هذه الآلية، التي تقوم على مبدأ المساواة بين الدول، تُجبر الجميع على الجلوس أمام المجتمع الدولي، وتقديم كشف حساب عن ممارساتهم في مجال حقوق الإنسان. وقد ساهمت هذه المراجعة في فضح انتهاكات كثيرة، ودفع دول عديدة إلى تعديل قوانينها وسياساتها.
لكن حين تتخلف الولايات المتحدة عن هذه المراجعة، فإن ذلك يُعد رفضاً متعمداً للمحاسبة، وتعبير عن شعور بالتفوق على القانون الدولي. فالدولة التي تمتلك أكبر آلة إعلامية لترويج الديمقراطية، تختار أن تغيب حين يُطلب منها أن تُحاسب على ممارساتها. هذا الغياب يُضعف من مصداقية الآلية، ويُحولها إلى منصة شكلية، تُحاسب فيها الدول الضعيفة، بينما تُعفى القوى الكبرى من المساءلة.
انتهاكات ممنهجة خلف ستار الديمقراطية
الولايات المتحدة لا تتهرب من المراجعة عبثاً، بل لأنها تدرك أن سجلها الحقوقي لا يحتمل الضوء. فعلى الصعيد الداخلي، تعاني البلاد من عنف ممنهج تمارسه الشرطة ضد الأقليات، خاصةً السود، في مشاهد تُعيد إلى الأذهان إرث العبودية والتمييز العنصري. حوادث القتل خارج القانون، والاعتقالات التعسفية، والتعامل الوحشي مع المتظاهرين، كلها تُشكل نمطاً متكرراً من الانتهاكات التي لم تُحاسب عليها الدولة.
أما في مراكز الاحتجاز، خاصة تلك المخصصة للمهاجرين، فالوضع أكثر مأساوية. أطفال يُحتجزون في أقفاص، وعائلات تُفصل عن بعضها البعض، وظروف معيشية تُخالف أبسط المعايير الإنسانية. هذه الممارسات، التي وثقتها منظمات دولية ومحلية، تُظهر أن الولايات المتحدة لا تُطبق ما تُنادي به، بل تُمارس سياسات تُناقض تماماً خطابها الحقوقي.
وعلى الصعيد الخارجي، فإن سجل واشنطن أكثر قتامة. من غوانتانامو إلى أبو غريب، ومن دعم الأنظمة القمعية إلى شن الحروب التي خلفت ملايين الضحايا، تُثبت الولايات المتحدة أنها ليست فقط غير ملتزمة بحقوق الإنسان، بل أنها تُسهم في تقويضها عالمياً. استخدام التعذيب، والقتل خارج نطاق القضاء، والضربات الجوية التي تستهدف المدنيين، كلها تُشكل انتهاكات جسيمة للقانون الدولي، لم تُحاسب عليها واشنطن يوماً.
الهروب من المحاسبة لا يُبرر بالسيادة
تبرير الولايات المتحدة لانسحابها من المراجعة الدورية تمحور حول رفض «تسييس حقوق الإنسان»، وكأنها تُريد أن تُقنع العالم بأن المنصة الأممية تُستخدم لتصفية الحسابات. لكن هذا التبرير لا يصمد أمام الواقع، فالمراجعة تشمل الجميع، وتُبنى على تقارير متعددة المصادر، ولا تُستثني أحداً. الحقيقة أن واشنطن تُدرك أن مشاركتها ستُفضي إلى كشف انتهاكاتها، الأمر الذي سيُحرجها أمام الرأي العام العالمي.
الانسحاب، ليس دفاعاً عن السيادة، بل هو تهرب من المحاسبة، ومحاولة لتكريس منطق الهيمنة، إذ تُحاسب الولايات المتحدة الآخرين، لكنها ترفض أن تُحاسب نفسها. هذا المنطق يُقوّض فكرة العدالة الدولية، ويُحوّل النظام الحقوقي إلى أداة انتقائية، تُستخدم وفق المصالح، وتُعطل حين تُهدد النفوذ.
المجتمع المدني الأميركي.. مقاومة التعتيم
رغم انسحاب الدولة، يبقى المجتمع المدني الأميركي صوتاً حياً يُقاوم التعتيم، ويُفضح الانتهاكات. منظمات مثل «هيومن رايتس ووتش» و«ACLU» و«أمنستي» تُوثق باستمرار ممارسات الدولة، وتُطالب بالإصلاح. لكن هذه المنظمات، رغم قوتها، لا تملك سلطة إلزامية، ولا تستطيع إجبار الدولة على الخضوع للمساءلة الدولية.
انسحاب واشنطن يُضعف من قدرة هذه المنظمات على التأثير، ويُقلّص من مساحة العمل الحقوقي، ويُرسل رسالة مفادها أن الدولة لا تُعير اهتماماً للرقابة، ولا تُبالي بالتوصيات. هذا الواقع يُهدد مستقبل العمل الحقوقي في الولايات المتحدة، ويُحوّل المجتمع المدني إلى شاهد عاجز على انتهاكات لا تُحاسب.
حين يُحاسب الضعفاء ويُعفى الأقوياء
في قلب المنظومة الأممية التي يُفترض أنها تقوم على مبدأ المساواة بين الدول، تتجلّى مفارقة صارخة تُقوّض من شرعية العدالة الدولية: الدول الضعيفة تُستدعى إلى منصات المحاسبة، تُخضع لتقارير تفصيلية، وتُجبر على تعديل سياساتها، بينما تُعفى القوى الكبرى من أي مساءلة، وتُترك لتُمارس انتهاكاتها دون رادع أو محاسبة. هذه المفارقة لا تُعبّر فقط عن خلل في آليات الأمم المتحدة، بل تكشف عن أزمة أخلاقية عميقة في بنية النظام الدولي، حيث تُصبح العدالة امتيازاً سياسياً لا حقاً إنسانياً.
الولايات المتحدة، بانسحابها من المراجعة الدورية الشاملة لسجلها الحقوقي، تُكرّس هذا المنطق الانتقائي. فهي ليست أول من يتخلف عن المراجعة، فقد سبقها كيان العدو الصهيوني عام 2013، حين رفض المشاركة احتجاجاً على ما اعتبره «تحيزاً ممنهجاً» ضده. لكن الفارق بين الحالتين جوهري. ذلك الكيان المؤقت، رغم ما يتمتع به من حماية سياسية في المحافل الدولية، يبقى كياناً صغيراً نسبياً، محدود التأثير على بنية المؤسسات الأممية. أما واشنطن، فهي القوة الأكبر، والممول الرئيسي للأمم المتحدة، وصاحبة اليد الطولى في صياغة القرارات الدولية. غيابها لا يُعد مجرد انسحاب، بل يُحدث فراغاً مؤسسياً يُربك التوازن داخل مجلس حقوق الإنسان، ويُضعف من قدرته على فرض معايير موحدة.
هذا التفاوت في الالتزام يُعيد إنتاج منطق الهيمنة، ويُحوّل المراجعة الدورية إلى أداة غير فعالة، تُحاسب من يُشارك، وتُعفي من ينسحب. فالدول التي تلتزم بالحضور تُعرض نفسها للنقد، وتُجبر على تقديم تبريرات وتعديلات، بينما الدول التي تتخلف تُفلت من المحاسبة، وتُرسل رسالة مفادها أن القانون الدولي لا يُطبّق على الجميع، بل يُستخدم كأداة سياسية تُوجّه حسب المصالح.
ولعل أخطر ما في هذا التفاوت أنه يُحوّل العدالة إلى أداة انتقائية، تُستخدم ضد من لا يملك الحماية السياسية، وتُعطل حين تُهدد النفوذ. فحين تُرتكب انتهاكات جسيمة من قبل الولايات المتحدة، سواء داخل حدودها أو في ساحات تدخلاتها العسكرية، فإن الرد الدولي غالباً ما يكون خجولاً، أو يُواجه بالفيتو السياسي، أو يُقابل بالانسحاب من الآليات ذاتها. هذا ما حدث حين رفضت واشنطن الخضوع للمراجعة، رغم أن سجلها الحقوقي يتضمن قضايا خطيرة مثل التعذيب في غوانتانامو، والقتل خارج نطاق القضاء، والتمييز العنصري البنيوي، وسوء معاملة المهاجرين، والاعتداء على الحريات المدنية.
في هذا السياق، تتحوّل العدالة الدولية إلى رهينة للتوازنات الجيوسياسية، وتفقد أدواتها الفاعلية في مواجهة الانتهاكات. فحين تُعفى الولايات المتحدة من الخضوع للمراجعة الحقوقية، يُفرغ هذا الإجراء من مضمونه، ويتحوّل إلى طقس شكلي تُمارسه الدول الضعيفة كنوع من الاعتراف، بينما تنعم القوى الكبرى بامتياز الإنكار. هذه المفارقة تُقوّض شرعية مجلس حقوق الإنسان، وتُضعف ثقة الشعوب في المؤسسات الأممية، وتُرسّخ قناعة عالمية بأن العدالة ليست مبدأً يُطبّق على الجميع، بل امتيازاً يُمنح لمن يملك القوة والنفوذ.
العدالة رهينة النفوذ
انسحاب الولايات المتحدة من آلية المراجعة الدورية الشاملة لحقوق الإنسان يُمثل موقفاً سياسياً واضحاً برفض الخضوع للمساءلة الدولية، ويعكس توجهاً نحو تعزيز منطق التفرد في صياغة المعايير الحقوقية بدلاً من الالتزام بها. هذا السلوك يُضعف من مصداقية النظام الدولي القائم على المساواة بين الدول، ويُكرّس اختلالاً في تطبيق قواعد العدالة، حيث تُستثنى القوى الكبرى من المحاسبة، رغم تورطها في انتهاكات موثقة داخلياً وخارجياً.
وهكذا في عالم يُعاني من تصاعد الانتهاكات، وتُهيمن فيه النزعات السلطوية، تصبح الحاجة إلى آليات مساءلة فعالة أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. لكن هذه الآليات لا يمكن أن تنجح دون مشاركة الجميع، خاصةً القوى الكبرى. فالمساءلة لا تكون حقيقية إلا حين تشمل الجميع، دون استثناء، ودون تمييز. وإذا كانت الولايات المتحدة، بكل ما تمثله من قوة ونفوذ، تختار الانسحاب من هذه المساءلة، فإن ذلك يُنذر بتحوّل خطير في بنية النظام الدولي، ويُهدد بتحويل العدالة إلى امتياز سياسي، لا إلى حق إنساني.