الرقم القياسي الذي سجلته صادرات النفط الإيراني في أكتوبر قد أحبط مجدداً الخريطة السياسية الأمريكية تجاه طهران. ووفقاً للبيانات الرسمية الصادرة عن وزارة النفط، تجاوزت الصادرات الشهرية الإيرانية 66 مليوناً و800 ألف برميل، مسجلة معدلاً يومياً بلغ مليونين و150 ألف برميل؛ وهو رقم غير مسبوق خلال الأشهر الخمسة عشر الماضية. ويعود هذا الارتفاع إلى الزيادة المتزامنة في الإنتاج وتعديل مسارات التسويق بطرق غير تقليدية؛ وهو مسار يُظهر انتقال شبكة النفط الإيرانية من مرحلة المقاومة البحتة إلى مرحلة إعادة الإعمار.
وقال وزير النفط، محسن باك نجاد، الشهر الماضي: إن الزيادة اليومية التي فاقت 120 ألف برميل في الإنتاج خلال العام الماضي كانت نتيجة تخطيط طويل الأمد، وليست ردّ فعل طارئ على الضغوط، ووصف موظفي صناعة النفط بأنهم «عماد استقرار البلاد في ظروف العقوبات».
وفي يونيو من العام الماضي، وبعد إقرار القانون المعروف بـSHIP ACT، حاولت الولايات المتحدة سدّ التأمين والنقل والمدفوعات الخاصة بالنفط الإيراني بشكل كامل، وكان متوقعاً أن يوجه هذا القانون الضربة القاضية لصادرات النفط الخام، غير أن التقارير الميدانية من الموانئ الآسيوية أظهرت أن إيران حافظت على صادراتها عبر تغيير مسارات التأمين واستخدام شبكة وسطاء. والآن، وبعد مرور أكثر من عام، لم تتوقف الصادرات فحسب، بل سجلت نمواً نسبياً أيضاً.
وفي حسابات السوق العالمية، تُعدّ إيران واحدة من بين خمسة مصدّرين يتمتعون باستقرار حجم الإمداد في منطقة آسيا. ويرى خبراء الطاقة أن إيران قد خرجت عملياً من العزلة النفطية من خلال «تنويع مسارات البيع» والاستفادة من أسواق آسيوية محدودة؛ لكنها مستقرة. ويعتبر المحللون الدوليون هذا النجاح ليس نتيجة رفع العقوبات، بل ثمرة هيكل مرن في إدارة المبيعات.
النفط أصل إنتاجي
اتخذت الحكومة الإيرانية، منذ النصف الثاني من العام، سياسة جديدة في مجال الطاقة، وتستند الفكرة الأساسية لهذه السياسة إلى نظرة متجددة للنفط بوصفه «أصلاً منتجاً» لا مصدراً فورياً للموازنة.
ووفقاً لأحد كبار مديري وزارة النفط، فإن الخروج من الاعتماد الموازناتي على النفط لن يتأتى إلا عندما يعود كل برميل يُباع إلى دورة الاستثمار الصناعي.
وتركز خطة وزارة النفط على تطوير الصناعات التحويلية، وجمع غازات الشعلة، وتعزيز الإنتاج البتروتكريري. ويمكن لهذا التوجه الجديد أن يُحدث تحولاً في هيكل قيمة النفط الإيراني؛ إذ إن تحويل جزء من الصادرات إلى منتجات ذات قيمة مضافة عالية سيُحرّر البلاد من فخ بيع الخام. وهو مسار ظلّ لسنوات يُعتبر الحلقة المفقودة في التنمية الصناعية الإيرانية.
وتشير التقارير التحليلية الداخلية إلى أن زيادة صادرات النفط الخام دون تطوير المصافي ليست سوى إنجاز مؤقت. أما اقتران نمو المبيعات بتقدم مشاريع البتروتكرير، فيمكنه أن يشكل أساس إصلاح مالي للصناعة. وقد استقر هذا النهج تدريجياً في وزارة النفط، وأكد عليه الوزير قائلاً: “حفظ الثروة الوطنية يمر عبر تحويل النفط إلى رأس مال مستدام”.
الميثانول وهدوء سوق البتروكيماويات
في الأسابيع الأخيرة، تناولت وسائل إعلام غربية أنباء عن احتمال فرض عقوبات على صادرات الميثانول الإيراني. ردّت وزارة النفط بردّ قصير وصريح مفادُه أنه لا يوجد أي قرار رسمي بهذا الشأن.
وقد أدّى هذا الموقف إلى تهدئة الجو النفسي المحيط بسوق البتروكيماويات. ويذكّر الخبراء بأن صادرات المنتجات الكيميائية الإيرانية مستمرة حتى مع انخفاض الأسعار العالمية للميثانول، ولا يوجد خطر التوقف المفاجئ.
كما تؤكد بيانات الجمارك هذا الرأي. فقد بلغت صادرات الميثانول الإيراني في الربع الثالث من السنة الميلادية أكثر من 4/2 مليون طن؛ وهو رقم يُظهر نمواً بنسبة 18% تقريباً مقارنة بالفترة السابقة.
ويبدو أن سياسة التركيز على استمرار تصدير المنتجات المكررة قد جعلت قطاع البتروكيماويات محصّناً نسبياً من تقلبات النفط.
صراع الروايات حول التخفيضات
تُعدّ التخفيضات النفطية الإيرانية الكبيرة من أبرز الموضوعات التي تتناولها وسائل الإعلام. وتزعم بعض التقارير الأجنبية أن طهران اضطرت لبيع نفطها بتخفيضات غير مسبوقة للحفاظ على أسواقها الآسيوية، غير أن مراجعة نماذج تسعير النفط في الشرق الأوسط تُظهر أن هذه الادعاءات تفتقر إلى أساس إحصائي واضح. وتتبع وزارة النفط، حفاظاً على سرية مسارات البيع، سياسة «لا تأكيد ولا تكذيب».
وفي الأشهر الماضية، تطوّر نموذج بيع النفط نحو عقود طويلة الأمد مع تمويل مشترك بين المشترين والشركة الوطنية للنفط؛ وهي آلية تقلل من إمكانية التخفيضات الحادة، إذ يُقسَّم خطر الصفقة بين الطرفين. وقد أدّى هذا الأسلوب عملياً إلى مزيد من استقرار الإيرادات بالعملة الصعبة، ويعكس الانتقال من البيع الاضطراري إلى التفاعل الاستراتيجي.
الإستهلاك الداخلي.. إختبار الشتاء
إلى جانب الرقم القياسي في الصادرات، تواجه وزارة النفط تحدّياً كبيراً يتمثل في إدارة الاستهلاك الداخلي. فموسم البرد هذا العام، وبالتزامن مع زيادة المبيعات الخارجية، قد زاد الضغط على شبكة الغاز في البلاد.
ووفقاً لتصريح وزير النفط، ترتفع حصة القطاع المنزلي والتجاري من إجمالي استهلاك الطاقة خلال الشتاء إلى نحو 45%. ونتيجة لذلك، تم تفعيل برنامج تخزين الديزل واستخدام الوقود البديل لمحطات توليد الكهرباء الغازية.
وتؤكد مصادر داخل وزارة النفط، أن فرض بعض القيود الموسمية أمر لا مفر منه؛ لكن هذه القيود لا تُشير إلى أزمة. فمشاريع الرصد الذكي للاستهلاك وإصلاح نمط الطاقة في الصناعات الكبرى قيد التنفيذ. ويُعدّ هذا النهج جزءاً من السياسة العامة المعروفة بـ«صيانة الاحتياطيات»، وهو مفهوم بات في الحكومة الحالية محور سياسة الطاقة.
تراجع أمريكي.. تقدّم إيراني
تُظهر نظرة تاريخية على فترتي رئاسة “دونالد ترامب” أن الأهداف الرئيسية لعقوبات واشنطن كانت خفض صادرات النفط الإيراني وقطع مسار الإيرادات بالعملة الصعبة.
ورغم الضغوط الواسعة، لم تتوقف صادرات إيران خلال السنوات الخمس الماضية تماماً، بل رافقها فترات من النمو أيضاً.
وفي الوقت الحالي، تصدّر إيران مقارنة بسنتي 2019 و2020 ما يقارب ضعف الكمية في ذلك الحين. وتُشير هذه البيانات إلى فشل هيكلي في السياسة الأمريكية التي كانت تتصور أن تقييد النقل والتأمين كافٍ.
في الواقع، لم تبق شبكة بيع النفط الإيراني في الصمت فحسب، بل تعمل في مدار جديد من المرونة والاستقلالية. ولهذا السبب، يعتقد العديد من الخبراء أن مرحلة العقوبات النفطية تتحول إلى مرحلة إصلاح السوق واستعادة المكانة التجارية الإيرانية.
ويُشير التحليل النهائي للوضع الراهن إلى أن الاقتصاد النفطي الإيراني يقف على أعتاب انتقال هيكلي. ويتم هذا الانتقال عبر مسارين متزامنين: الأول، الحفاظ على الأسواق التصديرية بأساليب جديدة. والثاني، خلق قيمة مضافة من خلال مشاريع التكرير والبتروكيماويات.
نمو الصادرات، وتقليص الاعتماد الموازناتي، وزيادة الإنتاج، ثلاثة مؤشرات إيجابية في سجل السنة الأولى لوزارة النفط، غير أن التحديات البنيوية لا تزال قائمة: قيود الاستثمار الأجنبي، وتهالك البنى التحتية، وتقلبات الطلب العالمي.
ومع ذلك، وباستمرار سياسة تحويل النفط إلى أصل منتج وتعزيز دور القطاع الخاص في المشاريع التحويلية، يمكن توقع أن تكون سنة 2026 نقطة تثبيت الهيكل الإيرادي للنفط، سنة يصبح فيها النفط الإيراني، بدلاً من رمز المقاومة، دلالة على إعادة الإعمار والازدهار الاقتصادي.
هذا في الوقت الذي تخضع لأشدّ العقوبات النفطية الأمريكية، والتي كان من المفترض أن تُخفض صادرات البلاد النفطية إلى الصفر؛ لكن ناقلات النفط الإيرانية الخاضعة للعقوبات تبحر بحرّية حول العالم، وفقًا لمؤسسة ما تسمى بالدفاع عن الديمقراطيات.