أدب الاختلاف

لا يكتمل أدب الاختلاف دون الإيمان بأنّ الحقيقة ليست ملكًا خالصًا لطرف واحد، وأنّ كل طرف يحمل جزءًا منها دون أن يحتكرها، وأنّ الوصول إلى صورة أصفى وأكثر توازنًا للحقيقة لا يكون إلا عبر الحوار المنتج والاختلاف المنظّم، فالحضارات الكبرى لم تتقدم عبر الإقصاء بل عبر التفاعل والتكامل وتبادل الرؤى وتجربة المسارات المتعددة...

يُعدّ الاختلاف سمةً أصيلة في الوجود الإنساني، فهو تعبير عن طبيعة الإنسان المتفرّدة، وعن تنوّع التجارب والرؤى والمصالح والبيئات التي ينشأ فيها الأفراد والمجتمعات، ومن هنا فإنّ محاولة إلغاء الاختلاف أو نفيه أو اعتباره خطأً ينبغي تصحيحه تُعدّ فعلًا مضادًا لقوانين الحياة وسنن الاجتماع، فالحياة تقوم على التنوع، والوعي المتقدّم يُحسن إدارة هذا التنوع بما يحفظ الكرامة ويُحقق التعاون ويمنع الصراع غير الضروري، وفي هذا السياق يتقدّم مفهوم أدب الاختلاف بوصفه قيمة حضارية عُليا، لا تقتصر على التعامل الأخلاقي فحسب، بل تمتد لتشكّل بنيةً منضبطة لإدارة الحوار واتخاذ القرار وبناء الإجماع دون قسر أو إقصاء.

 

إنّ أدب الاختلاف يقوم على أساس الاعتراف بحق الآخر في أن يكون آخر، أي أن يملك رؤيته الخاصة دون أن يُطلب منه أن يتخلى عنها إرضاءً للغير، فالاعتراف لا يعني الموافقة، كما أن المخالفة لا تعني العداء، وإنما يعني الاعتراف أن يرى الإنسان في الآخر إنسانًا كامل الإنسانية، له ما لنا وعليه ما علينا، ويشترك معنا في الهدف الكبير: بناء حياة أفضل للجميع على قاعدة القيم العليا التي تتجاوز المصالح الآنية والصراعات الصغيرة، وبهذا يصبح الحوار وسيلة للكشف عن الحقيقة لا لإثبات الذات، وأداة لتقريب وجهات النظر لا لتسجيل الانتصارات الكلامية أو الرمزية.

 

وعندما يتحوّل الآخر إلى خصم بالمعنى السلبي، يتراجع العقل وتتقدّم الغرائز، وعندما تُختزل الفكرة في صاحبها يُلغى مبدأ المناقشة الموضوعية، وحين يُستبدل البرهان بالسخرية أو التخوين أو التجريح يفقد الخطاب قيمته ويتحوّل الخلاف إلى صراع يبدّد الطاقات ويُقصي إمكانات التلاقي، ولهذا فإنّ أدب الاختلاف يبدأ من ضبط اللغة، لأن اللغة هي الوعاء الأول للفكرة، واللغة المشحونة تنتج وعيًا مشحونًا، بينما اللغة الهادئة تنتج وعيًا هادئًا قادرًا على النظر إلى الأمور في عمقها لا في قشرتها المتوترة.

 

ويقتضي أدب الاختلاف السعي الدائم إلى النقطة الوسط التي يمكن أن يلتقي عندها المختلفون، فكل فكرة كبرى تحمل في داخلها قنوات تتيح العبور نحو المشتركات، وليس من الحكمة الانطلاق من مناطق الاستقطاب، بل من مناطق التفاهم الممكن، لأن البناء لا يبدأ من نقطة الانفصال بل من نقطة الاتصال، ولو ضاعت النقاط الوسط تحوّل المشهد من السياسة والفكر إلى حلبة صراع نفسي وأيديولوجي لا نهاية له، بينما العقل الحضاري يبحث دائمًا عن حلول، وعن صيغ مشتركة، وعن خطوات تدريجية، دون أن يفقد الوضوح أو الهدف.

 

ولا يكتمل أدب الاختلاف دون الإيمان بأنّ الحقيقة ليست ملكًا خالصًا لطرف واحد، وأنّ كل طرف يحمل جزءًا منها دون أن يحتكرها، وأنّ الوصول إلى صورة أصفى وأكثر توازنًا للحقيقة لا يكون إلا عبر الحوار المنتج والاختلاف المنظّم، فالحضارات الكبرى لم تتقدم عبر الإقصاء بل عبر التفاعل والتكامل وتبادل الرؤى وتجربة المسارات المتعددة التي تصنع في النهاية الوعي المشترك.

 

إنّ مستقبل المجتمعات التي تسعى لبناء دولة حضارية حديثة يعتمد اعتمادًا واسعًا على قدرتها على إدارة الاختلاف بوصفه رصيد قوة لا بوصفه تهديدًا، وعلى قدرتها على تحويل الجدل من معارك انفعالية إلى عمليات تفكير مشتركة، وعلى قدرتها على حفظ كرامة الجميع دون انتقاص أو تبخيس، فالإنسان الذي تُنتهك كرامته في الحوار لا يمكن أن يشارك في البناء، بينما الإنسان الذي تُصان كرامته يفتح قلبه للتفاهم والتعاون.

 

وهكذا يصبح أدب الاختلاف ليس مهارة لغوية ولا تكتيكًا سياسيًا، بل قيمة حضارية جوهرية، وإحدى اللبنات الأساسية لبناء الوعي الجمعي القادر على الانتقال من التشظي إلى الوحدة، ومن الغريزة إلى العقل، ومن رد الفعل إلى الفعل المؤسس.

 

 

المصدر: وكالات

الاخبار ذات الصلة