“عندما نستشهد ننتصر”: فلسفة الانتصار في فكر المقاومة

بهذه العبارة التي تحوّلت من شعارٍ إلى ميثاق، افتتح سماحة أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم كلمته في يوم الشهيد 2025، مستعيدًا روح القائد الشهيد الاسمى السيد حسن نصر الله الذي صاغ معادلة الوعي بالدم، ومؤكدًا أنّ الشهادة ليست نهاية الطريق بل بدايته الجديدة نحو الكرامة والسيادة.

1- من أحمد قصير إلى مقاومة الأمة: التحوّل من الدم إلى الوعي

في خطابه في يوم الشهيد 2025، أكّد الشيخ نعيم قاسم أنّ المقاومة لم تعد سلاحًا فقط، بل وعيًا ووجودًا وطنيًا يحمي الدولة من الانهيار ويصون سيادتها من الهيمنة الأميركية والصهيونية. فمنذ أن فجّر الشهيد أحمد قصير نفسه في مقرّ الحاكم العسكري الإسرائيلي في صور عام 1982، دخل لبنان مرحلةً جديدةً من تاريخه المقاوم، تحوّل فيها الفعل العسكري إلى مشروع وطنيٍّ جامع يربط بين الإيمان والسيادة. ذلك الانفجار لم يكن نهاية معركة، بل بداية وعيٍ حضاريٍّ نقل المقاومة من ردّ الفعل إلى مدرسةٍ فكريةٍ تبني مجتمعًا يحيا بالكرامة. وأوضح الشيخ أنّ كل شهيدٍ هو امتدادٌ لأحمد قصير، لا بالجسد بل بالفكرة التي جعلت الموت طريقًا للحياة الحرة، وأنّ الاستشهاد هو قمة الوعي لا نهايته — وبه يتحوّل يوم الشهيد إلى يوم الأمة كلها، يوم تتجدد فيه البيعة لمشروعٍ يحوّل الدم إلى فكرٍ والخلود إلى وعيٍ يصنع الأجيال.

2- المقاومة كهوية وطنية لا خيار عابر

لقد أعاد الشيخ نعيم قاسم ترسيخ المفهوم الجوهري للمقاومة بوصفها هوية لبنان السيادية، لا فصيلًا عابرًا ولا مشروعًا طارئًا. فحين قال: ان العدو الصهيوني قد خرج صاغرا عام 2000 بفضل تضحيات الشهداء، لا بالمفاوضات ولا بالسياسة”، وأعاد التذكير بأنّ التحرير لم يكن هدية دولية، بل ثمرة الوعي والتضحية.
لقد ربط الشيخ بين الشهادة والسيادة، معتبرًا أنّ كل دمٍ يُسفك دفاعًا عن الأرض هو توقيعٌ على وثيقة الاستقلال الحقيقي، وأنّ السلاح في فكر المقاومة ليس غايةً بل ضمانةً لكرامة القرار الوطني.  وبهذا المعنى، تصبح المقاومة شريك الدولة لا خصمها، تحميها من الانهيار وتمنحها القدرة على الصمود في وجه الضغوط الأجنبية.
وفي حديثه عن معركة أولي البأس واتفاق وقف إطلاق النار لعام 2024، أكد أنّ المقاومة تفتح الطريق أمام الدولة لتتحمّل مسؤولياتها، لكنها في الوقت ذاته لن تسمح للعدو أو لوكلائه بتحديد مستقبل لبنان. فالردع في فكر حزب الله لا يُقاس بعدد الصواريخ، بل بمقدار الإيمان والعزيمة التي تصنع من الضعف قوةً ومن الموت حياةً.
إنها مقاومةٌ لم تعد مجرّد ردٍّ على الاحتلال، بل هوية وطنية تُجسّد إرادة العيش الحرّ، وتجعل من لبنان وطنًا لا يُباع ولا يُستبدل، لأنّ فيه رجالًا آمنوا أن الكرامة لا تُحمى إلا بالوعي والسلاح معًا.

3- من السيد إلى الشيخ: استمرارية لا انقطاع

قدّم الشيخ نعيم قاسم قراءة متجدّدة لهوية المقاومة، لا بوصفها معركة عسكرية، بل مشروع وعيٍ إنسانيٍّ وسياديٍّ متكامل. فحين قال: “نحن مطمئنون لأن هذه المقاومة وشعبها لا يُهزمان، ونحن منصورون بالنصر أو الشهادة”، أعلن انتقال المقاومة إلى مرحلة الاطمئنان الوجودي، حيث يصبح النصر حالة وعيٍ لا نتيجة معركة.
لقد بنى الشيخ قاسم خطابه على العبارة التي أطلقها سماحة الشهيد الاسمى السيد حسن نصر الله: “عندما نستشهد ننتصر”، ليؤكد أن العلاقة بين القائدين هي علاقة تكاملٍ لا تعاقب؛ فالسيد أسّس وجدان المقاومة، والشيخ يُنظّم فكرها ومؤسساتها، ليحافظ على توازن العقل والإيمان، والسيادة والدين في التجربة اللبنانية الفريدة.
وفي ختام كلمته، وجّه رسالة مزدوجة: إلى الخارج قالها بثبات — “لن نركع، وإذا أردتم التجربة فلن ننسحب من الميدان”؛ وإلى الداخل دعا إلى الوحدة والسيادة والكرامة الوطنية، محذّرًا من الارتهان للخارج. كما أكّد أنّ ما تريده أميركا و”والغدة السرطانية” ليس حماية لبنان بل تجريده من وعيه المقاوم عبر تحويل جيشه إلى أداةٍ داخلية بدل درعٍ للسيادة. وبهذا الخطاب، أثبت الشيخ قاسم أن المدرسة التي أنشأها الشهيد الاسمى السيد حسن نصر الله ما زالت حيّة ومستمرة.

4- اتفاق وقف إطلاق النار ومعادلة الردع

في مقاربته لاتفاق 27 تشرين الثاني 2024، أكّد الشيخ نعيم قاسم أنّ المقاومة قبلت به “بثمنٍ مقبول” لأنّ الجيش اللبناني، هم أبناء الوطن، وهو من سيتولى الانتشار في الجنوب، مشددًا على أنّ الاتفاق يخصّ جنوب الليطاني فقط، وأنّ على “العدو الصهيوني الانسحاب الكامل وإطلاق الأسرى دون قيدٍ أو شرط. ورفض الشيخ أي محاولةٍ لـ“استبدال الاتفاق أو تبرئة الاحتلال باتفاقٍ جديد”، مؤكدًا أنّ لبنان يُدار بإرادةٍ وطنية لا بإملاءاتٍ دولية.
وفي هذا الإطار، أعاد الشيخ رسم معادلة الردع والسيادة في وجه التدخلات الأميركية والصهيونية، معتبرًا أن “أميركا تضغط باليد الصهيونية لتطبيق أوامرها في الداخل اللبناني”، مندّدًا بتصريح “توم برّاك” الذي دعا لتسليح الجيش ضدّ شعبه المقاوم، ومؤكدًا أنّ الخطر ليس في سلاح المقاومة، بل في القرار المستورد من الخارج.
وحين قال: “لن أناقش خدام العدو الصهيوني، لم يكن يهاجم خصومًا سياسيين بل ذهنيّة الاستسلام التي تحاول نزع سيادة لبنان باسم الواقعية. وأوضح أنّ مجتمع المقاومة يحمي الدولة من التبعية، داعيًا الحكومة لتحمّل مسؤوليتها بعد 42 عامًا من التضحيات.
في المقابل، دعا إلى الوحدة الوطنية معتبرًا أنّ التحالف بين حزب الله وحركة أمل “ليس تهمة بل مصدر فخر”، وأنّ من استشهد لأجل الأرض لا يمكن أن يقبل بتجزئتها بالفتنة.
واختتم بتحيةٍ لمحور المقاومة — فلسطين، إيران، اليمن، العراق — مؤكدًا أنّ البوصلة تبقى فلسطين، وأنّ المقاومة اللبنانية ليست مشروعًا محليًا بل رسالة إنسانية أممية توحّد الأحرار في مواجهة الاستكبار.

5-معادلة الختام: النصر أو الشهادة

في ختام كلمته في يوم الشهيد 2025، أعلن الشيخ نعيم قاسم بوضوح معادلة الوعي الجديد:
“نحن مطمئنون لأن هذه المقاومة وشعبها لا يُهزمان، ونحن منصورون بالنصر أو الشهادة، وهذا زمن الصمود وصناعة المستقبل.”
بهذه العبارة، ختم الشيخ مرحلةً من المقاومة وافتتح أخرى، إذ تحوّل الخطاب من لغة الحرب إلى فلسفة الوعي، ومن معركة التحرير إلى مشروع بناء الدولة المقاومة.
لم تعد المقاومة مجرّد ردٍّ على عدوان، بل صارت صناعةً للتاريخ وكتابةً للمستقبل بمداد الشهداء وعلى رأسهم سيد شهداء الامة الشهيد الاسمى السيد حسن نصر الله. فالوعي الشعبي أصبح السلاح الذي لا يُهزم، والمجتمع المقاوم هو الدولة التي لا تسقط.
من أحمد قصير إلى الشهداء الأحياء في وجدان الأمة، ومن كلمة السيد الشهيد الأسمى إلى فكر الامين المؤتمن الشيخ نعيم قاسم، تمتدّ الرحلة نفسها: من الدم إلى الوعي، ومن الفداء إلى السيادة.
لقد علّم السيّد أن النصر يبدأ بالكلمة، وأثبت الشيخ أن النصر يستمرّ بالعقل؛ فبين الكلمة والعقل تتجلّى نهضة لبنان الواعي الذي يحيا بشهدائه ويُبنى بضمير مقاوم لا يركع إلا لله.
إنها معادلة الوجود الجديد التي تختصر فلسفة المقاومة:
أن نحيا أحرارًا، نؤمن بأنّ الشهادة ليست نهاية الحياة، بل بدايتها نحو كرامةٍ لا تموت.

المصدر: الوفاق/ خاص/د. أكرم شمص