سهيلا نوري
هنا جامعة طهران؛ الجامعة الأم في إيران. في صمت منتصف نهارٍ خريفي داخل كلية الحقوق والعلوم السياسية، يمنح السير في الممر المؤدي إلى القاعة المتخصصة في العلوم الجنائية إحساساً بالدخول إلى عالم آخر؛ عالم يجتمع فيه التاريخ والقانون وسرد قرنٍ من الجهد العلمي جنباً إلى جنب، رائحة الأوراق القديمة تمتزج بعطر الأغلفة الحديثة، ويغمر ضوء الشمس الخفيف كتباً يبلغ عمر بعضها أكثر من ثمانين عاماً، فيما لا يزال بعضها الآخر دافئاً من حرارة الطباعة الجديدة.
الرفوف الخشبية المرتبة بدقة متناهية، تبدو وكأن كل واحد منها بوابة إلى سنوات بعيدة؛ من الثورة الدستورية إلى الدستور الإيراني، ومن أبحاث الطلاب الأوائل في قسم الحقوق إلى الأعمال البارزة التي دوّنتها شخصياتٌ مؤثرة في البلاد.
وفي هذا السياق، يظهر وجه هادئ لكنه مفعم بالطاقة، يتتبع بعناية وحب أثر كل كتاب؛ إنه الدكتور «عباس شيري». الرجل الذي إرتبط إسمه اليوم بأول «مكتبة متخصصة في العلوم الجنائية في إيران»، وليس من المبالغة أن نعتبر هذا العميد لكلية الحقوق والعلوم السياسية في جامعة طهران مُحيياً لجزء من تاريخ الحقوق في إيران.
إن إنشاء هذه المكتبة لم يكن مجرد إضافة قاعة وعدد من الرفوف الجديدة إلى الكلية؛ بل كان جهداً يهدف إلى سد فراغٍ قديم، وتحقيق أمنية ربّما تشكّلت في أذهان أجيال مختلفة من الأساتذة على مدى أكثر من نصف قرن: تأسيس مكان تستطيع فيه العلوم الجنائية في إيران أن تتنفس من جديد، ويتمكّن الباحث الشاب من الوصول المباشر إلى المصادر الأساسية، ويُعرض الوجه الحقيقي للقانون الجنائي الإيراني بصورة صحيحة.
هذه المكتبة ليست مجرد قاعة أو مكتبة عادية؛ إنها نقطة إنطلاق لبداية مسار طويل. وليست هنا مجرد مكان للقراءة أيضاً؛ بل هي متحف حيّ للعلوم القانونية في إيران، حيث يُقدَّم التاريخ الثقافي والعلمي للبلاد بشكل ملموس ومفهوم للباحثين والزوار. قاعةُ العلوم الجنائية بكلية الحقوق والعلوم السياسية في إيران هي موئلُ أكثر من خمسة آلاف عنوان كتاب، وما يقارب ثمانمئة مجلد من الرسائل الجامعية؛ مجموعةٌ نادرةٌ كان طلابُ القانون والباحثون يشعرون بغيابها منذ سنوات طويلة.
العديد من هذه المصادر لم يُعَد طبعها بعد، وبعضها يعود إلى عقدَي الثلاثينات والأربعينات من الهجرية الشمسية، فيما يُعَدّ بعضها الآخر ميراثاً قيّماً لكل الأجيال وقد نجحت من الضياع.
لكن ما يميز هذه القاعة عن مكتبة عادية ليس فقط عدد الكتب، بل أيضاً القصص التي استقرت على رفوفها. كل واحد منها يحمل علامة من تاريخ القانون في إيران، ومسار جامعة طهران، والأجيال التي شكّلت القانون الجنائي في هذه الأرض.
ولهذا، فعندما يسير الدكتور «عباس شيري ورنامخواستي» – الأستاذ المشارك في القانون الجنائي وعلم الجريمة بجامعة طهران – بهدوء داخلها، يبدو وكأن صفحات التاريخ تُقلَب في ذهنه. فهو ليس فقط مدير المشروع، بل أيضاً حارس ذاكرة القانون في إيران، والسرد الآتي هو مراجعة لكواليس ولادة أحد أهم المراكز العلمية في البلاد.
مكتبة حوّلت حلماً إلى واقع تحتضنه الرفوف
آلاف العناوين من الكتب باللغات الفارسية والفرنسية والعربية. وفي الجهة الأخرى، مئات المجلدات من الرسائل الجامعية التي يعود عمر بعضها إلى ستين أو ثمانين عاماً، وكأنها أحيت جزءاً من تاريخ العلم في قلب كلية الحقوق. ولا شك أن توفير مثل هذا الفضاء إنما انبثق من فراغٍ ظل يشغل ذهناً نابضاً بالحيوية. في الإجابة عن سؤال: أين شعرتم لأول مرة بفراغ وجود مثل هذه المكتبة؟
يعود الدكتور شيري إلى سنوات مضت؛ إلى عام 1984 م، زمن الثورة الثقافية وإعادة فتح الجامعات. كانت فترة لم تتوفر فيها الكثير من الكتب والمكتبات، ولم تُخصَّص ميزانية تُذكر للجامعات. ومع ذلك، كان هو – حين كان طالباً في جامعة الشهيد بهشتي – يتردد على مكتبة الجامعة الصغيرة ويستفيد إلى أقصى حد من تلك القلة القليلة من الأعمال المتاحة.
وعند إسترجاع تلك الأيام، يظهر على محيّاه إبتسامة، يبدأ بهذه الجملة: «مكتبة جامعتنا ربما كانت نصف هذه المكتبة. وكانت المسؤولة هناك سيدة مجتهدة وودودة تُدعى السيدة عالمي». كان هناك نسخة أو نسختان من بعض الكتب في تلك المكتبة الصغيرة، وعندما كنت أذهب، كنت أفصل بهدوء الجزء من الكتب الذي كنت بحاجة إليه وأضعه في حقيبتي. إن ما أرويه الآن يعود إلى أربعين عاماً مضت. وبمشقة كنت أحمل الأوراق إلى رجلٍ ربما يكون قد توفي الآن، رحمه الله. كان ينسخها لي خفية، ثم أعود مرة أخرى إلى المكتبة وأعيد الأوراق إلى مكانها.
كانت السيدة عالمي تقول لي دائماً: لا أعرف ما السبب، فكلما تدخل إلى المكتبة تصبح كتبنا أوراقاً متناثرة. ولم يكن لدي جواب سوى أنني أدقق فيها كثيراً فتصبح هكذا. حقاً، في فترة دراستنا لم تكن هناك كتب مميزة، ولم تكن المكتبات جيدة أيضاً، لكن الحمد لله في الوقت الحاضر تمتلك جامعة الشهيد بهشتي مكتبة عامة وشاملة جيدة، ونحن أيضاً في كلية الحقوق والعلوم السياسية أصبحنا نملك مكتبة متخصصة تعوّض كل تلك النواقص.
والآن، في القاعة المتخصصة للعلوم الجنائية، يبدو وكأن جزءاً من تاريخ وآثار إيران يُحفظ هناك. ومن هنا سُكّت العملة الوحيدة باسم جامعة طهران باعتبارها أول وأشمل مكتبة للعلوم الجنائية في إيران.
قاعة العلوم الجنائية أبعد من مجرد مكتبة
إن كلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة طهران، باعتبارها واحدة من أقدم مراكز التعليم العالي في البلاد والتي تأسست قبل عقود من جامعة طهران (الجامعة الأم في إيران)، كانت تفتقر إلى هذه المكتبة المتخصصة؛ قاعة الإعلام ومكتبة العلوم الجنائية التي افتُتحت قبل أقل من شهر (في 3 نوفمبر الجاري) بحضور أساتذة بارزين في العلوم الجنائية في البلاد، وستكون بلا شك خطوة مهمة في سبيل تطوير ونشر القانون الجنائي وعلم الجريمة، وكذلك تعزيز مكانة النظام القانوني والقضائي في إيران.
الدكتور عباس شيري، مستنداً إلى هذا الإرث التاريخي، يشعر بسعادة كبيرة لأن حدثاً جديداً قد تحقق في هذه الكلية ذات العمر الذي يتجاوز قرناً من الزمن. ويشير قائلاً: «ربما لا يعلم كثيرون أن جامعة طهران تأسست عام 1934 م، من خلال تشكيل ودمج مدرسة الحقوق ومدرسة العلوم السياسية». وهو يلفت إلى هذه النقطة المهمة: عندما كان لدينا كلية حقوق قبل نشوء العديد من دول العالم، فمن الطبيعي أن نكون شديدي الحرص والدقة في الحفاظ على الآثار المتبقية من هذا الإرث التاريخي، وإضافة إمكانات جديدة إليه.
أسأله: ما الذي عزّز فكرة إنشاء هذه المكتبة أو بالأحرى ما هي الأمور التي دعمتها؟ فيكون الوضع الراهن للمجتمع أهم جزء من جوابه؛ إذ يقول: «أعتقد أن أحد الفراغات الموجودة حالياً في النظام التعليمي لبلادنا، وأحد أسباب إخفاقنا في مواجهة ظاهرة الجنوح، الأضرار الاجتماعية والجرائم الاقتصادية، هو غياب مركزٍ مستقل للتعليم والبحث».
بشكل متفرق، تنشغل مجموعات تعليمية في كل كلية بهذا العمل، لكن لا يوجد مركز متكامل لهذا الأمر، في حين أنه في الدول الكبرى هناك مراكز جامعية وبحثية لعلم الجريمة تتناول تحليل ظاهرة الجنوح والأضرار الاجتماعية. ومن هذا المنطلق، تم اتخاذ الخطوة الأولى لتمهيد الطريق نحو سد هذا الفراغ.
وبناءً على ذلك، بما أن جامعة طهران هي الجامعة الأم، وهذا المولود الجديد (المكتبة المتخصصة في العلوم الجنائية) سوف ينمو ويترعرع في المستقبل، فهل هناك احتمال أن يُضاف بفضل هذا المولود، كلية للعلوم الجنائية وفروع دراسية حديثة إلى هذه الجامعة؟
نعم، الأمر كذلك. فمنذ سنوات طويلة وأنا أحمل فكرة تأسيس كلية للعلوم الجنائية في جامعة طهران، وما زلت أحملها. وقد تقدّم هذا المشروع على مرحلتين أو ثلاث، لكن عدم استقرار مسؤولي الجامعة، وتغيّرهم، والسياسات المختلفة التي يتبعونها، كان سبباً في أن يتأخر العمل كلما اقتربنا من تحقيق النتيجة. ومع ذلك، ما زلت أحتفظ بهذه الفكرة وأسعى لتحقيقها عبر إنشاء مكوّنات وعناصر تلك الكلية.
ومن ناحية أخرى، لدينا في كلية العلوم السياسية بجامعة طهران مجموعة متخصصة في القانون الجنائي وعلم الجريمة، لكنني أعمل على تشكيل مجموعة جديدة تحت عنوان «علم الجريمة والعدالة الجنائية»، وآمل أن أتمكن خلال الأشهر القادمة من تأسيس هذه المجموعة المتخصصة.
مثل هذا التصور يحتاج إلى خلفية ناجحة. وهو قرار جرى تنفيذه في السنوات الماضية وكان ناجحاً أيضاً. وبجهود الدكتور عباس شيري، قبل عدة سنوات، تم في هذه الكلية – إلى جانب التخصص الرئيسي في القانون الجنائي وعلم الجريمة – إنشاء فرع «القانون الجنائي للأطفال واليافعين» في مرحلة الماجستير (إذ لم يكن لدينا في هذا المجال كوادر متخصصة)، وقد استقبل حتى الآن سبع أو ثماني دفعات من الطلاب.
وكما يقول بنفسه: فقد أعدّ برنامج الدكتوراه في القانون الجنائي للأطفال واليافعين، لأنه الآن وبعد هذه السنوات التي بلغ فيها المحتوى العلمي درجة من الغنى، يمكن أيضاً إطلاق مرحلة الدكتوراه في هذا التخصص.
كما أنه خطّط لتخصص آخر تحت عنوان «علم الجريمة»، وقد اجتاز مراحله النهائية وهو على وشك أن يُبلّغ من قِبل وزارة الثقافة والتعليم العالي. وإلى جانب ذلك، فإن إنشاء تخصصات حديثة أخرى في مجال العلوم الجنائية – مثل تخصص مستقل بعنوان علم الجريمة، القانون الجنائي الدولي، والعدالة الجنائية – وقبول الطلاب في مرحلة الماجستير لهذه التخصصات، هو ضمن جدول الأعمال، ويأمل أن يتم ابتداءً من شهر مهر القادم قبول المتقدمين لهذه الفروع أيضاً.
خطوة للدفاع عن حقوق الإيرانيين في العالم
ما يبدو مهماً خلال برامج الدكتور عباس شيري هو سعيه لإنشاء تخصص جامعي جديد تحت عنوان «القانون الجنائي الدولي». فإن الحرب الصهيونية المفروضة الأخيرة التي استمرت 12 يوماً كانت أقرب وأوضح موقف لهذا الشعور بالحاجة. وهو موضوع مهم يؤكده الدكتور أيضاً ويضيف في هذا الصدد: «في هذه الحرب التي دامت 12 يوماً أدركنا أهمية وجود هذا التخصص الجامعي؛ وقد أشار القائد أيضاً إلى أن هناك تقصيراً في المجال القانوني، وهذا ما جعلنا نتمكن بجرأة وشجاعة أكبر من طرح هذه القضية، وهي أننا قصّرنا كثيراً في مجال القانون الجنائي الدولي، ولم ندافع بشكل صحيح عن حقوق بلدنا وشعبنا (من الجانب الجنائي) في المحافل الدولية، ولم نستطع أن نستفيد من الإمكانات الموجودة في المؤسسات الدولية مثل المحكمة الجنائية الدولية (ICC) أو محكمة العدل الدولية في لاهاي (ICJ) وغيرها».
إن هدفي من إقرار هذا التخصص، الذي صادقت عليه أيضاً في الجلسة السابقة للجنة العلوم الإنسانية بالجامعة، وآمل أن نتمكّن حتى العام الدراسي القادم من قبول طلاب فيه، هو إعداد كوادر مستقلة ومتخصصة في مجال الجرائم الدولية مثل جرائم العدوان؛ ذلك الفعل الذي ارتكبته «إسرائيل» وأميركا ضد بلدنا ويُعد مثالاً واضحاً على العدوان وجريمة ضد الإنسانية.
ولكن بما أننا لم نُخرّج ما يكفي من المتخصصين في هذا المجال، لم نستطع أن ندافع عن حقوق شعبنا وبلدنا في العالم كما ينبغي. وربما يزعج كلامي هذا بعض السادة، لكنني أقوله بصفتي فرداً جامعياً، ولا أعني به القضايا السياسية، بل هو عمل يمكنني أنا وزملائي القيام به كأكاديميين. ونأمل أن نتمكن ابتداءً من شهر مهر العام القادم من قبول طلاب في هذا التخصص، وإن كان كثيرون قد يقولون: إنه لا تأثير له أو أنه يتأخر في الوصول إلى النتيجة.
وبالطبع، فقد عرضتُ أيضاً تخصصاً آخر تحت عنوان «العدالة الجنائية» على لجنة العلوم الإنسانية وتمت المصادقة عليه، وهو تخصص بالغ الأهمية يتناول تقييم أداء مؤسسات العدالة الجنائية، الشرطة، السجون والمؤسسات القضائية بصورة علمية. وفي الدول المتقدمة يُقبل الطلاب فيه حتى مرحلة الدكتوراه، وآمل أن نتمكن في العام الدراسي القادم من قبول طلاب في مرحلة الماجستير لهذا التخصص أيضاً.
إستعراض الماضي لبناء المستقبل
لنعد إلى قاعة العلوم الجنائية! فالدكتور شيري لم يختر بعد اسماً لهذا المولود الجديد. وعندما أسأله عن سبب هذا التريّث، يذكر اسم والد العلوم الجنائية الحديثة في إيران؛ الدكتور «علي حسين نجفي أبرندآبادي» الذي يُعد من الأساتذة الروّاد في العلوم الجنائية في إيران. وبما أن هذا الأستاذ الكامل في جامعة الشهيد بهشتي قد بذل جهوداً جديرة بالتقدير في مسار تطوير العلوم الجنائية في البلاد، فقد تقرر أن يُطلق اسم الدكتور «علي حسين نجفي أبرندآبادي» على أول «قاعة إعلامية ومكتبة متخصصة في العلوم الجنائية» في البلاد. والآن يمكن بوضوح إدراك أن قاعة العلوم الجنائية ليست مجرد مكتبة، بل هي القطعة الأولى من أحجية كبيرة جداً.
إلى جانب هذه المكتبة، توجد غرفة مستقلة مجهزة بعدة حواسيب تربط الطلاب بالمكتبات الكبرى في العالم. وقد وفّر القسم الرقمي لهذه القاعة إمكانية الوصول إلى آلاف المجلدات من الكتب، والمقالات، والمجلات العلمية، والمجموعات المتخصصة. في هذا القسم المنفصل، يتصل الطلاب بمخزون ضخم من المصادر الرقمية. ويتم حالياً تطوير سرعة الإنترنت ووسائل الوصول، والهدف هو أن يتمكنوا من الوصول إلى المصادر العالمية دون قيود أو تكاليف باهظة. وحتى منذ بضعة أيام، رُفع الحجب عن موقع يوتيوب في هذه الجامعة، لأن المسؤولين يرون أن يوتيوب منصة للنشر العلمي وليس عائقاً أخلاقياً.
يرى الدكتور شيري أن التأخير في نشر الأعمال المكتوبة يُعد ضعفاً في التعامل مع الجرائم الحديثة، لكنه من خلال إنشاء هذا القسم لم يقضِ فقط على هدر الوقت، بل أتاح أيضاً فرصة للطلاب والباحثين في مجال العلوم الجنائية للوصول إلى المصادر الدولية وكذلك إلى المحتويات المـُوثّقة والإفتراضية. وفي الواقع، فقد تم إطلاق القسم الرقمي لهذه القاعة بالتزامن مع الفضاء المادي للمكتبة. يقول رئيس كلية الحقوق والعلوم السياسية في جامعة طهران عن العملية الجارية في قاعة الإعلام الجنائي: «في هذا الفضاء يمكن للطلاب والباحثين في مجال العلوم الجنائية أن يصلوا بسهولة إلى آلاف المجلدات من الكتب والمقالات ذات الصلة. كما نخطط لتطوير تجهيزات الإنترنت بحيث يتمكن المتقدمون بسرعة أعلى مقارنة بسائر الجامعات من الاتصال بالمكتبات الكبرى في العالم والإستفادة من مجلاتها ونشراتها ومقالاتها التطبيقية».
وأضيف هنا أيضاً: إنه إذا كان من المقرر استخدام هذه المصادر بشكل حر، فلا بد من دفع ما لا يقل عن 100 دولار لكل مصدر، في حين أننا نسعى إلى أن يكون وصول المتقدمين إلى المصادر العالمية في فضاء الكلية ممكناً بأقل قدر من القيود. وكما نجحنا خلال الأيام الماضية في رفع الحجب عن موقع يوتيوب، لأننا نؤمن – خلافاً لبعض التصريحات – أن يوتيوب ليس أداة للانحرافات الجنسية والأخلاقية، بل هو منصة مهمة لتحويل مقالات الطلاب والباحثين إلى أفلام وتقارير وبودكاستات تُتداول في الفضاء الافتراضي، وبذلك سيرتفع ترتيب الجامعة بشكل ملحوظ؛ فلا يمكن أن نحرم أنفسنا بأيدينا من فرصة الظهور والإمكانات اللامحدودة التي توفرها شبكات التواصل الإجتماعي.
أفق المستقبل؛ التفاهمات، والمختبرات والعيادات المتخصصة
وفقاً لما ذكره الدكتور شيري، فإن الاستفادة من هذا الفضاء الجديد لا تقتصر على طلبة جامعة طهران فحسب؛ بل يمكن للعاملين في مجال العلوم الجنائية خارج أسرة جامعة طهران أيضاً أن ينتفعوا من موارد هذه القاعة والمكتبة. غير أنّه، وبالنظر إلى أنّ العلوم الجنائية فرع من العلوم الإنسانية والاجتماعية وعلم النفس، ومع تقدّم الزمن وتحوّل في أنماط الجريمة في البلاد بفعل الجرائم السيبرانية، يظل السؤال قائماً: هل سيكون هذا المصدر الجامعي الأصيل غذاءً معرفياً لمواجهة الطيف الواسع من الآفات الاجتماعية في العصر الحديث، والتي غالباً لا تخضع لعنصر الزمن؟
ويرى الدكتور شيري أنّ سبب تقسيم مكتبة العلوم الجنائية إلى قسمين: مادي ورقمي، هو طبيعة الجرائم المستحدثة، ويصرّح قائلاً: «الواقع أنّ النشر الورقي متأخر عن التحولات. فالأحداث تقع والأبحاث تُنجز، لكن حتى تُدوّن على الورق قد يستغرق الأمر سنوات. أمّا قاعة الإعلام الرقمي، المرتبطة عبر الحواسيب بالمكتبات العالمية المعتبرة، فهي تلبّي هذا الاحتياج. إذ يتمكّن الطلبة والباحثون من الوصول إلى أحدث المعلومات في العالم، وهذا يعني أنّه إذا وقع حدث اليوم، فإنّهم يستطيعون اليوم نفسه، وعبر الفضاء الافتراضي، الاطّلاع على جميع أبعاده ومجالاته».
ولمزيد من الإيضاح وتقديم تعريف تطبيقي ومفصّل، يشير الدكتور شيري إلى قضية مقتل المرحوم أميرحسين خالقي، أو إلى الحوادث اليومية الجارية التي تُعدّ موضوعات راهنة في العلوم الجنائية، الشبيهة بما يُطرح في ملفات شخصيات مثل «كلثوم أكبري»، «تَتّلو»، «إلهه حسين نجاد»، «بجمان جمشيدي»، أو حتى الجرائم المرتبطة بالذكاء الاصطناعي. وهذه القضايا، بغضّ النظر عن أي حكم قضائي بشأنها، تُطرح كمسائل تشغل الطلبة والباحثين والجمهور. فإذا أرادوا أن يكتبوا أطروحة أو مقالة حول هذه الموضوعات الساخنة، فإن وصول المعلومات المكتوبة إلى المكتبة قد يستغرق أكثر من عام، بينما يمكن عبر فضاء الإعلام الرقمي الوصول إلى تحليلات علمية حديثة أو الاطّلاع على آراء الأساتذة، مما يفضي في المستقبل القريب إلى أطروحات غنية تتمحور حول هذه القضايا.
وبناءً على ذلك، طلبتُ من الدكتور شيري أن يوضح ما إذا كان يمكن أن نتوقع أن تصبح هذه المكتبة الناشئة يوماً ما مرجعاً للمحافل القضائية في البلاد وحلّاً لمعضلات الجرائم الراهنة. فكان جوابه: «لقد أعددنا عدداً من مذكرات التفاهم، بعضها وُقّع مع السلطة القضائية، ووزارة الداخلية، ورئاسة الجمهورية والشرطة، وبعضها الآخر قيد التوقيع. لكنني، وكعادتي، أفضل أن أُطلق الاسم على الطفل بعد ولادته، لذا أفضّل الحديث عنها بعد اكتمالها. ومع ذلك أستطيع أن أصرّح بوضوح أنّنا نسعى من أجل نموّ هذا المشروع إلى الحصول على أرض تتراوح مساحتها بين عشرة آلاف إلى خمسة عشر ألف متر، تابعة لجامعة طهران، لنُنشئ فيها من دون أن نطلب تمويلاً من الجامعة، أقساماً مختلفة، مثل مختبر العلم الجنائي ومختبر الطب الشرعي، مختبر كشف الجريمة (الذي سيساعد الشرطة كثيراً)، وأنواع مختلفة من العيادات العلاجية. فعلى سبيل المثال، تواجه الأسر اليوم ظاهرة الانتحار واحتمال الانتحار، وللأسف لا توجد عيادات يُعتدّ بها في هذا المجال، وكذلك في مجال علاج الإدمان على المخدرات والكحول.
بل إنّ التفكير امتدّ إلى قضايا المثليين والمتحوّلين جنسياً، الذين يحتاجون إلى علاجات نفسية سريرية أو حتى جراحات متخصصة. وفي الحقيقة، سيتناول هذا القسم العيادي الجرائم والانحرافات التي لا تحمل بالضرورة وصفاً جنائياً، لكنها سلوكيات غير سوية تُعالج بالأساليب السريرية. وبذلك ستغطي هذه العيادات الجوانب العلاجية والطبية والجراحية، فضلاً عن الجوانب النفسية العلاجية والتحليلية، وستكون فعّالة في معالجة مشكلات أفراد المجتمع كافة».
وإذا أُتيح لنا هذا الأمر، وأعلن المحسنون وعدد من أساتذة العلوم الجنائية في إيران استعدادهم، فبإمكاننا إنشاء هذا الصرح. لكن لا بد أن أقول؛ إنّ العائق الجدي في الوقت الراهن هو جامعة طهران نفسها، إذ أنها لا تملك نظرة توسعية، والسبب في ذلك يعود إلى المشكلات والقيود المالية. ومع ذلك، وبوجود المحسنين الذين أعلنوا استعدادهم لتأمين التكاليف، يمكن النظر إلى هذا الأفق بعين الأمل».
ويقصد الدكتور شيري تحديداً شخصيات مثل الدكتور «عباس مصلينجاد»، أستاذ التعليم العالي المخضرم في كلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة نفسها، والمحسن في مجال التعليم العالي والتربية والتعليم، الذي أنفق حتى الآن المليارات من أجل تطوير وتوسيع وتحديث الإمكانات والتجهيزات والمرافق والأماكن التعليمية والثقافية، وتأمين سكن الطلاب، ودعم الأهداف العلمية والتعليمية للجامعة. وبفضل دعمه المالي الأخير، يجري الآن استكمال إنشاء أول متحف قانوني في كلية الحقوق والعلوم السياسية في جامعة طهران.
بصمات التاريخ على رفوف المكتبة
في هذه الفترة القصيرة منذ افتتاح المكتبة، كانت ردود الفعل الإيجابية على قدر كبير من القوة، حتى إن رؤساء جامعتي شيراز ويزد أعلنوا استعدادهم للاقتداء بهذا المصدر الجامعي. وفي الزيارات الأخيرة للدكتور عباس شيري إلى هاتين الجامعتين، تقرّر تخصيص مكان لقاعة متخصصة في العلوم الجنائية، على أن يتكفّل الدكتور شيري بتأمين الكتب. وهو يأمل أن تُفتتح مثل هذه القاعات المتخصصة في عدد من الجامعات الكبرى في البلاد، وقد أفاد بوجود نحو ستة آلاف مجلد فائض عن حاجة الكلية، سيُخصّص للجامعات التي تؤسس مكتبات متخصصة في العلوم الجنائية، وبما أنّها كتب مُهداة ولا تُعدّ من ممتلكات الجامعة، فلا يوجد مانع من ذلك.
إنّ مكتبة العلوم الجنائية في جامعة طهران ليست مجرد مجموعة من الكتب؛ بل هي انعكاس لتاريخ ينبغي الافتخار به، ومستقبل يجب العمل على بنائه. إنّها محاولة لربط الماضي المشرّف لحكم القانون في إيران باحتياجات اليوم المعقّدة؛ هنا، حيث تُقلب صفحات التاريخ ليُكتب المستقبل. وتضم هذه المجموعة كتباً ذات قيمة فريدة من الناحية التاريخية والمضمونية.
يُعدّ تنوّع اللغات والتاريخ في كتب هذه القاعة من أكثر جوانبها تأثيراً فهي كتب ذات قيمة فريدة. من حيث المضمون؛ هناك نسخٌ تروي أقدم القوانين الجزائية في إيران منذ عام 1929م، وصولاً إلى كتبٍ سجّلت انضمام الدولة الإيرانية إلى بروتوكول جنيف في العام نفسه. كما تُرى مجلدات ضخمة باللغة الفرنسية، دالّة على حضور أساتذة متمكّنين من هذه اللغة في الجامعة، وكأنّ العلوم القانونية في إيران قد تنفّست لعقود طويلة بفرنسا. وإلى جانب ذلك، توجد مجموعة من كتب الفقه الإسلامي باللغة العربية، شاهدةً على الصلة العريقة بين القانون في إيران والفقه.
وعندما سألتُ الدكتور عباس شيري عن سبب هذا التنوع اللافت ووجود عدد كبير من الكتب باللغة الفرنسية، أوضح قائلاً: «في الماضي كان معظم أساتذة الحقوق وعلم الإجرام في الكلية، مثل المرحوم الدكتور كاتوزيان، المرحوم الدكتور محمّدجعفر جعفري لنكرودي، المرحوم السيد حسن إمامي، وكثير من الأساتذة الآخرين، إمّا من خرّيجي فرنسا أو من المتقنين للغة الفرنسية. فضلاً عن أنّ جزءاً من هذه الكتب الفرنسية قد تبرّع بها الأستاذ الدكتور نجفي، وهو أيضاً متقن لهذه اللغة».
إنّ جزءاً من آلاف الكتب الموجودة في هذه المكتبة يُعدّ فريداً من نوعه، بمعنى أنّه لن يُعاد طبعه مرة أخرى. وكثير منها هدايا من كبار الأساتذة، وهي تُمثّل جزءاً من الهوية العلمية لإيران؛ وهناك كتبٌ يقول عنها الدكتور شيري:«لقد طُبعت قبل أكثر من ثمانين عاماً، وقد جمعتها لأُظهر أنّ إيران تمتلك نظاماً تشريعياً منذ أكثر من مئة عام، في حين أنّ كثيراً من دول العالم لا يتجاوز تاريخ استقلالها الأربعين أو الخمسين أو حتى الستين عاماً، أو أنّ تاريخ استقلال الولايات المتحدة نفسها، رغم كل مظاهرها، يعود إلى مئتين وخمسين عاماً فقط، بينما نحن قبل مئة وخمس عشرة سنة كنا أصحاب الدستور، وقد صدر في بلادنا قانون المشروطة، وكان لدينا مجلس، وبرلمان ونظام ثنائي المجلس، وقوانين يتجاوز عمرها المئة عام».
إنّ عدداً كبيراً من هذه الكتب حديث وضروري للبحوث الجديدة، كما أنّ آلاف المجلدات الأخرى ستُضاف قريباً إلى هذه الرفوف، ليصل عدد الكتب الموجودة في هذه المكتبة إلى ما لا يقل عن عشرة آلاف مجلد.
تحمل الرسائل الجامعية القديمة في هذه المكتبة عالماً عجيباً؛ إذ إنّ ذهن الدكتور شيري، وهو يقلب صفحات كل واحدة منها، يغدو كأنّه مسافر عبر الزمن، فيحلق بخياله للحظة في عقود الأربعينيات والخمسينيات الهجرية الشمسية. ولكل واحدة منها لديه الكثير ليقوله، ويجيب بصبر على كل أسئلتك في هذا الشأن. هذه الرسائل الجامعية التي مضى عليها ستّون إلى ثمانون عاماً تُشكّل جزءاً مهماً من هذه الكنوز. وقد وصفها الدكتور شيري بأنها «رحلة عبر الزمن»، قائلاً: «قد لا تكون هذه الرسائل الجامعية مواكبة من الناحية العلمية اليوم، لكنها تاريخ. فهي تُظهر ما كانت عليه اهتمامات أساتذتنا قبل نصف قرن.
وقصتها أنّ العديد من الأساتذة، حين علموا بهذه المكتبة وما تحتويه من مصادر، قصدوني وقالوا؛ إن لديهم عدداً من الرسائل الجامعية في مجال العلوم الجنائية، أُنجزت على مدى العقود الماضية ودافع عنها أساتذة قدامى ومخضرمون.
وسألوني إن كانت تنفعني، وأنا الذي أؤمن بأن جزءاً من تاريخنا مخبوء بين هذه الصفحات، رحّبت بهذه المقترحات كثيراً. ولا شك أنّ محتواها قد شاخ بمرور الزمن، مثل بحث أُنجز قبل خمسين عاماً حول السرقة ولم يعد صالحاً للاستناد إليه اليوم، لكنّه يظل جزءاً من تاريخنا. وغداً، حين يزور أساتذة أجانب هذه الجامعة، سيشهدون بحوثاً ميدانية أنجزها كبار الأساتذة الإيرانيين الذين مارسوا نشاطاً أكاديمياً في بلدنا القانوني منذ أكثر من نصف قرن.»
سألته عن مراسم إزاحة الستار عن «منشور كوروش» في منظمة اليونسكو، وعن الصلة التي يراها بين أحدث مبادراته وهذا الإرث الحضاري للبلاد. فيذكر باعتزاز تاريخ التشريع في إيران ويؤكد قائلاً:«بالاستناد إلى القوانين المتقدمة في عصر الساسانيين وقرارات ملوك الساسانيين والأخمينيين، مثل النهي عن تلويث المياه، وعدم قطع الأشجار، وعدم ذبح الحيوانات، أقول إنّ لإيران تاريخاً أطول بكثير من الرواية التي تتحدث عن 2500 عام. فكل ما تفتخر به البشرية اليوم، نحن قد مارسناه منذ آلاف السنين في بلادنا. ومن هنا فإن القول؛ بأن لإيران تاريخاً عمره 2500 عام قول خاطئ؛ بل نحن أصحاب تاريخ يمتد إلى سبعة آلاف عام.
نحن نفتخر بالقوانين والقرارات التي ذكرها كوروش حين دخل الأراضي التي فتحها، إذ قال:«في هذه الأرض كل إنسان حرّ في دينه، وفي لغته، وفي عمله ومهنته التي يزاولها. إنني أرى هذه الأرض أكثر فخراً مما يراه الآخرون، فنحن في هذه البلاد نمتلك خصائص فريدة؛ لم نكن قط عبدة أصنام، نحن الأمة الوحيدة في العالم التي كانت دائماً موحّدة ومؤمنة بالله. كان لدينا نظام الزواج الأحادي. ولم يكن لدينا في إيران عبيد قط، في حين أنّ دولة مثل الولايات المتحدة لم تُلغِ نظام الرق إلاّ في عام 1955م، وتفتخر على هذا الأساس بشخص مثل الشهيد آبراهام لنكولن».
ولادة أول متحف قانوني في إيران
في صناديق قديمة موضوعة في زاوية ساحة الكلية، كانت الكتب والرسائل الثمينة مكدّسة تنتظر أن ينتهي بها المطاف في سلال النفايات. ولم يكن يدرك قيمتها إلا من كان مولعاً بتاريخ بلاده، فينتشلها من بين المهملات والأنقاض الجامعية ليضعها في واجهات زجاجية لأول متحف قانوني في الكلية.
إنّ شغف عباس شيري بإيران وماضيها جعله خبيراً بارعاً في تمييز النفائس، فأعاد إحياء قيمة كل ما كان يُظن أنّه من نصيب مزبلة التاريخ، بأجمل صورة ممكنة. لقد منح حياة جديدة لرسائل علمية نادرة وقيّمة، ناقشها قبل عقود طويلة في هذه الكلية طلاب مرحلة الدكتوراة، وهو يعتقد أنّه لو وُجدت مثل هذه الأعمال في أي بلد آخر لبلغت قيمتها ملايين الدولارات على الأقل. ولهذا، وبأسلوبه الخاص الممزوج بالأسى، يذكر أنّ سيجارة دخّنتها الملكة إليزابيث وُضعت في متحف لتُعرض للزوار، أو آخر نعال ارتدته الملكة وأصبح اليوم يُلتقط معه صور تذكارية، بينما للأسف الشديد ظلّ بحث علمي قيّم يعود إلى أكثر من ستين عاماً مخفياً بين نفايات الجامعة.
ولحسن الحظ، أدرك الدكتور عباس شيري الأمر في الوقت المناسب، وقد قام حتى الآن بتنظيم ما يقارب ثلاثين في المئة منها، مخصّصاً لها طاولات زجاجية لامعة لعرضها. وهو يعتزم أن يُعيد ترتيب آخر مجلد من هذه الآثار القيّمة بالطريقة نفسها، ليشرّف المهتمين بهذا الجزء الثمين من تاريخ وطننا برؤيتها.
سألته من أين تأتي هذه الروح وهذه الدافعية؟ فأجاب بصوت هادئ ممزوج بالفخر: «قد لا يروق ذلك لأبناء اليوم، لكنني رجل تقليدي، وتاريخ إيران وتاريخ القانون يعنيان لي الكثير».
وبينما يتحدث بفخر عن تاريخ إيران العريق، يقف بجوار أول طاولة زجاجية في متحف القانون، مشيراً إلى الرسالة الضخمة لـ «جهانغير آموزكار» التي كُتبت عام 1940م.
هذا هو المتحف الذي قام على دعم الدكتور مصلينجاد المالي، وبجهود الدكتور عباس شيري تبلورت فيه واحدة من أكثر الروايات مرارةً ولكن أيضاً أكثر إشراقاً. فقد وُضعت عدة واجهات زجاجية متجاورة كي لا يُمحى جزء من التاريخ العلمي لإيران إلى الأبد.
من بعيد يتتبع الدكتور شيري الواجهة الزجاجية الثانية، فتلمع عيناه من البهجة، ويُسرع في خطواته، مشيراً بيده إلى أول نسخة من سجل مكتبة كلية الحقوق العائد إلى عام 1934م؛ وهو دفتر تسجيل انديكاتوري كُتبت بياناته باللغة الفرنسية. ويُوضح قائلاً:«انظروا! لقد كُتب بالفرنسية وبأسلوب متصل، وكان موظفو مكتبتنا في عام 1934م على درجة من الإتقان في اللغة الفرنسية مكّنتهم من تدوين المعلومات بهذه الدقة والنظافة.»
حينما تقلب صفحات ماضي إيران، كأنك تطلّ على المستقبل. ومن هذا الماضي المشرّف استمدّ الدكتور عباس شيري حماسه، فراح بلا انقطاع يسعى لإبراز وجه إيران الحضاري. إنها مجموعة قيّمة تضمّ نماذج من نحو مئة وخمسين إلى مئتي مجلد من كتب الدكتور محمد مصدق، الممهورة بتوقيعه الشخصي والمُهدَاة إلى الجامعة، وقد وُضعت في قسم مستقل.
وفي الجانب الآخر من المتحف، تُعرض رسالة جامعية لأحد أبرز أساتذة القانون الدستوري في إيران، الدكتور السيّد أبو الفضل قاضي شريعت بناهي، بكل احترام على صفحة بيضاء. وقد عاد إلى الوطن بعد حصوله على الدكتوراة الفدرالية في القانون العام من إحدى الجامعات الفرنسية، وكذلك شهادة إنهاء الدراسة من المدرسة الوطنية الإدارية في فرنسا، وفي عام 1970 التحق رسمياً بكلية الحقوق في جامعة طهران بصفة أستاذ مساعد، ثم توفي في عقد السبعينيات هجري شمسي إثر إصابته بمرض السرطان.
وعلى امتداد الواجهات الزجاجية، تُعرض أعمال الدكتور سعدزاده أفشار، وكتابات المرحوم ايرج أفشار الرئيس السابق لمكتبة جامعة طهران المركزية الذي قدّم أيضاً أوقافاً للجامعة، إلى جانب رسالة الدكتور معتمدي طباطبائي حول القانون الدستوري والإداري في إيران، ورسالة الدكتور فريدون آدمیت العائدة إلى عام 1942م، ورسالة المرحوم الدكتور لنكرودي بإشراف الأستاذ محمود شهابي، وأخيراً رسالة المرحوم الشهيد بهشتي الذي كان هو نفسه طالباً في هذه الكلية.
ولتنظيم بقية الرسائل القيّمة التي أُعيد إحياؤها حديثاً، ثمة حاجة إلى ما لا يقل عن ثلاثين واجهة زجاجية إضافية، كي تُعرض رسائل شبيهة برسالة المرحوم الدكتور ناصر كاتوزيان -أب القانون في إيران – التي دافع عنها عام 1952م، بإشراف المرحوم آية الله سنكلجي، فتُزيّن هذا المتحف.
هنا، بفضل نزاهة الشرف، استعاد جزء من الإرث العلمي المنسيّ في البلاد حياته من جديد؛ كنز إذا ما جرى الحفاظ عليه، سيُقدّم صورة أدقّ وأوضح عن تاريخ القانون في إيران أمام أجيال المستقبل.
تصوير: رضا معطريان



