في يوم تكريمه وتكريم الحكمة والفلسفة

الفارابي.. جسر الحكمة بين الشرق والغرب

الوفاق: تكريم الفارابي في يومه الوطني ليس مجرد احتفاء بفيلسوف إيراني، بل هو تكريم للعقل الإنساني وللحكمة التي أسهمت في بناء الحضارة.

إيران، بتاريخها العريق، لم تكن يوماً مجرد جغرافيا سياسية، بل كانت دائماً أرضاً خصبة للفكر والحكمة. في يومها الوطني، لا يُحتفى فقط بتاريخها السياسي والثقافي، بل أيضاً بإرثها الفلسفي الذي أسهم في تشكيل الحضارة الإنسانية. فالفلسفة في إيران لم تكن مجرد تأملات نظرية، بل مشروعاً حضارياً يربط بين العقل والدين، وبين العلم والفن، ليقدّم رؤية متكاملة عن الإنسان والمجتمع.

 

الفلاسفة الإيرانيون وإرثهم العالمي

 

منذ فجر التاريخ، أنجبت أرض إيران شخصيات بارزة في ميادين العلم والمعرفة والحكمة. ومع بداية العصر الإسلامي، نما علماء كبار في مختلف مجالات العلوم الإسلامية مثل الفقه، والحديث، والتاريخ، والكلام، والحكمة والفلسفة، وكان لكل واحد منهم دور عظيم في تقدم الثقافة العلمية للعالم الإسلامي. وفي تاريخ الحكمة والفلسفة الإسلامية، تتلألأ أسماء الحكماء والفلاسفة الإيرانيين: الفارابي، ابن سينا، شهاب الدين السهروردي، خواجه نصير الدين الطوسي، وصدر المتألهين الشيرازي وغيرهم.

 

ويعتقد بعض الباحثين أن منبع الأفكار الفلسفية الأفلاطونية يمكن العثور عليه في إيران القديمة، وهو ما جعل الفلاسفة المسلمين الإيرانيين يولون اهتماماً بالفلسفة الإيرانية القديمة إلى جانب الفكر اليوناني.

 

 تكريم الفارابي

 

يوافق يوم الجمعة 21 نوفمبر، اليوم الوطني للحكمة والفلسفة في إيران، وهو أيضاً يوم تكريم أبي نصر الفارابي، أحد أعظم الفلاسفة والعلماء الإيرانيين في العصر الذهبي للإسلام. وقد تم تسجيل هذا اليوم رسمياً في التقويم الوطني الإيراني عام 2020، بمصادقة المجلس الأعلى للثورة الثقافية، ليصبح مناسبة سنوية لتكريم هذا الحكيم الكبير. ومن اللافت أن تركيا افتتحت في عام 2019 «متحف الفارابي» بمناسبة مرور 1150 عاماً على ميلاده، وهو ما أثار جدلاً واسعاً في الإعلام الإيراني حول محاولات بعض الدول المجاورة الاستحواذ على رموز التراث الإيراني.

 

مَنْ هو الفارابي؟

 

أبو نصر محمد بن محمد الفارابي، وُلد في مدينة فاراب بخراسان، ويُعد أول فيلسوف ظهر في العصر الإسلامي، ولذلك لُقّب بـ «أستاذ الفلاسفة». وهو أيضاً أول من اهتم بترجمة مؤلفات الحكمة والعلوم اليونانية إلى العربية، وأسهم بشكل كبير في نشر الفلسفة في العالم الإسلامي. ويُعتبر ثالث فيلسوف في العالم تُدين له الحضارة الإنسانية بمشاريعه الفكرية في بناء المجتمعات.

 

الفارابي والعلم والفنّ

 

تخصص الفارابي في الفلسفة، والمنطق، وعلم الاجتماع، والطب، والرياضيات والموسيقى. ومن أبرز إنجازاته ابتكار آلة القانون الموسيقية ذات الـ 45 وتراً، التي شرحها في كتابه الشهير الموسيقى الكبير، المكتوب بالعربية والمترجم لاحقاً إلى الفارسية. هذا الكتاب جمع فيه آراء السابقين في الموسيقى، وتحدث عن آلات مثل الطنبور البغدادي والخراساني، مما جعله علامة فارقة في تاريخ الموسيقى الإسلامية.

 

المعلّم الثاني

 

كان الفارابي «المعلّم المطلق» في عصره، إذ سعى في نظرياته السياسية إلى التوفيق بين فلسفة إيرانشهر ذات الجذور الساسانية، وبين الفكر الإسلامي، وبين الفلسفة اليونانية. وقد أثّرت فلسفته تأثيراً بالغاً في الفلاسفة الذين جاؤوا من بعده، وكان شاغله الأساسي هو إيجاد صلة بين الدين والفلسفة. فقد اعتقد أن رسالة النبي(ص) لا تتعارض مع الحكمة اليونانية، وأن الخلافات بينهما سطحية ويمكن تجاوزها بالتأويل الفلسفي. نال الفارابي عدة ألقاب، أبرزها «المعلم الثاني» بعد أرسطو الذي عُرف بـ «المعلم الأول». كما لُقّب بـ «مؤسس الفلسفة الإسلامية» لأنه أول من أدخل الفلسفة بشكل جاد إلى العالم الإسلامي، وبـ «ناقل المنطق الصوري اليوناني إلى الإسلام». هذه الألقاب تعكس مكانته الفريدة في تاريخ الفكر الإنساني.

 

الفارابي ومدينته الفاضلة

 

بحث الفارابي بعمق في مفهوم السعادة الإنسانية، واعتبر أن العقل والوعي والإدراك هي الطريق إليها، وأن الجاهل لا يمكن أن يكون سعيداً. وقد اشتهر بطرحه لفكرة المدينة الفاضلة، التي تشبه مدينة أفلاطون المثالية، حيث تُعد مدينة السعادة التي يسعى إليها البشر بالعقل. هذه الفكرة جعلت منه رائداً في الفلسفة السياسية والاجتماعية.

 

مؤلفات الفارابي

 

ترك الفارابي مؤلفات عديدة أحدثت تحولاً في الفكر الديني والعلمي بعده. من أبرزها:

 

– إحصاء العلوم: الذي قدّم فيه تقسيماً جديداً للعلوم، وأضاف المنطق واللغة والفقه والكلام إلى التصنيفات الأرسطية.

 

– كتاب الحروف: الذي تناول فيه العلاقة بين اللغة والفكر والفلسفة. كما كتب شروحاً على مؤلفات أرسطو مثل الأورغانون، الطبيعة، الميتافيزيقا والأخلاق، مما جعله حلقة وصل بين الفلسفة اليونانية والفكر الإسلامي.

 

 تكريم العقل الإنساني

 

إن تكريم الفارابي في يومه الوطني ليس مجرد احتفاء بفيلسوف إيراني، بل هو تكريم للعقل الإنساني وللحكمة التي أسهمت في بناء الحضارة؛ فالفارابي لم يكن مجرد شارح للفلسفة اليونانية، بل كان مؤسساً لفلسفة إسلامية أصيلة، ومفكراً عالمياً ترك بصمته في الفكر والسياسة والموسيقى، وجعل من الفلسفة جسراً بين الدين والعقل، وبين الشرق والغرب. وبذلك، يظل إرثه حياً، يذكّرنا بأن الفلسفة ليست ترفاً فكرياً، بل ضرورة حضارية لمواجهة تحديات العصر.

 

 

المصدر: الوفاق