في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 2025، فوجئ العالم بخبر وصول عشرات الفلسطينيين من قطاع غزة إلى جنوب أفريقيا عبر رحلات غامضة نظمتها جهة غير معروفة على نطاق واسع تدعى «المجد أوروبا». لم يكن هؤلاء الفلسطينيون يعرفون وجهتهم، ولم تكن السلطات الجنوب أفريقية نفسها على علم مسبق بوصولهم. بدا المشهد وكأنه جزء من رواية سياسية – إنسانية معقدة، حيث تتداخل عناصر الغموض مع معاناة الحرب، وتتشابك الأبعاد الإنسانية مع الحسابات الجيوسياسية. لكن خلف هذه القصة، يبرز سؤال جوهري: هل نحن أمام عملية إنقاذ إنساني لمواطنين محاصرين في غزة، أم أمام خطة تهجير منظمة يسعى كيان العدو من خلالها إلى تفريغ القطاع من سكانه؟
الرحلات الغامضة بين حصار خانق ومشاريع تهجير خفية
منذ أكثر من عقد ونصف، يرزح قطاع غزة تحت حصار خانق فرضه كيان الاحتلال، مدعوماً بمواقف دولية متواطئة أو صامتة. هذا الحصار لم يكن مجرد قيود على الحركة أو التجارة، بل تحوّل إلى أداة سياسية تهدف إلى إنهاك المجتمع الفلسطيني وكسر إرادته، ودفعه قسراً نحو خيارات لا يريدها. ومع تصاعد الحرب في عام 2025 وما خلّفته من دمار واسع، منازل مهدّمة وبنية تحتية منهارة ومستشفيات بالكاد تعمل، ظلّ الفلسطينيون متمسكين بأرضهم رغم كل الظروف، رافضين فكرة الرحيل عنها.
في هذا السياق، برزت عروض غامضة من جهات مجهولة تدّعي قدرتها على إخراج الناس من القطاع. إحدى هذه الجهات كانت منظمة تُسمّى «المجد أوروبا»، التي تواصلت مع بعض العائلات عبر وسطاء محليين، مقدمة عرضاً مشبوهاً: دفع 1600 دولار عبر محفظة عملات مشفرة مقابل رحلة «آمنة» إلى الخارج. ورغم أن هذه العروض بدت كاحتيال منظم، فإنها كشفت عن خيوط مشروع أكبر، إذ بدا واضحاً الدور الصهيوني في تسهيل مثل هذه المسارات، ليس لإيجاد حلول إنسانية، بل لفتح باب التهجير القسري وإفراغ الأرض من أهلها.
وهكذا، تحوّلت هذه الرحلات إلى قضية سياسية مثيرة للجدل، تكشف كيف يُستغل الحصار والدمار كأدوات لدفع الفلسطينيين نحو خيارات لا يرغبون بها، بينما يبقى تمسّكهم بأرضهم هو السدّ الحقيقي في مواجهة مشاريع التهجير الخفية.
تفاصيل الرحلة من غزة إلى جوهانسبرغ
العائلات التي وافقت على العرض تلقت تعليمات صارمة: التحرك في حافلات بنوافذ مغلقة، عدم استخدام الهواتف، والتصريح للقوات الصهيونية بأنهم ضمن «إجلاء فرنسي». هذه التعليمات زادت من الغموض وأثارت مخاوف المشاركين من أنهم قد يكونون ضحية لعملية احتيال أو حتى استغلال سياسي. عند معبر كرم أبو سالم، أجبر الفلسطينيون على ترك كل ما يملكون، قبل أن يُنقلوا إلى مطار رامون في صحراء النقب. هناك صعدوا إلى طائرة لا يعرفون وجهتها. في منتصف الطريق، اكتشفوا أنهم متجهون إلى العاصمة الكينية نيروبي، ومنها إلى جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا. في 28 أكتوبر/تشرين الأول، وصلت أول مجموعة إلى جوهانسبرغ. السلطات الجنوب أفريقية فوجئت بوصولهم، لكنها منحتهم دخولاً اعتيادياً. غير أن المفاجأة لم تنته هنا: آخر رسالة تلقوها من المنظمة كانت تفيد بأن مكان إقامتهم محجوز لأسبوع واحد فقط، رغم أن الاتفاق كان لشهر كامل. المجموعة التالية واجهت وضعاً أكثر تعقيداً، حيث ظلت ساعات داخل الطائرة بسبب تأخر السلطات في حسم وضعهم القانوني، قبل أن تسمح لهم بالدخول بفضل تدخل منظمات محلية. هذه التفاصيل تكشف أن الرحلات لم تكن منظمة بشكل رسمي أو قانوني، بل كانت أقرب إلى عمليات تهجير غير معلنة، جرى تمريرها عبر قنوات غامضة.
الدور الصهيوني في التهجير
هنا يبرز السؤال الأهم: ما هو الدور الصهيوني في هذه الرحلات؟ المعطيات تشير إلى أن كيان العدو لعب دوراً محورياً في تسهيل نقل الفلسطينيين، حيث رافقت قوات صهيونية الحافلات من غزة إلى معبر كرم أبو سالم، ثم إلى مطار رامون. هذا الدور لا يمكن تفسيره على أنه مجرد تعاون لوجستي، بل يعكس سياسة أعمق تهدف إلى دفع الفلسطينيين نحو الهجرة القسرية. فمنذ النكبة عام 1948، ارتبط المشروع الصهيوني بسياسة التهجير القسري للفلسطينيين. هذه السياسة لم تتوقف، بل اتخذت أشكالاً جديدة مع مرور الزمن. في حالة الرحلات إلى جنوب أفريقيا، يبدو أن كيان العدو وجد فرصةً لتفريغ غزة من بعض سكانها عبر قنوات غير رسمية، مستخدماً منظمات غامضة كواجهة. التهجير ليس مجرد عملية إنسانية أو لوجستية، بل هو أداة سياسية تهدف إلى تغيير الواقع الديمغرافي. بالنسبة لكيان العدو، تقليل عدد الفلسطينيين في غزة يعني تقليل الضغط السياسي والدولي، وتخفيف عبء إدارة الصراع. وفي الوقت نفسه، يُستخدم التهجير كرسالة إلى المجتمع الدولي بأن الفلسطينيين «يختارون» المغادرة، رغم أن الواقع يكشف أنهم يُدفعون إليها دفعاً. الغموض الذي أحاط بالرحلات ليس عرضياً، بل هو جزء من الاستراتيجية. عبر استخدام منظمة غير معروفة مثل «المجد أوروبا»، وعبر الدفع بالعملات المشفرة، وعبر تعليمات صارمة بعدم استخدام الهواتف، سعى كيان العدو إلى إخفاء دوره المباشر، لتبدو الرحلات وكأنها مبادرات إنسانية مستقلة. لكن وجود القوات الصهيونية في كل مرحلة من مراحل النقل يكشف الحقيقة: هذه ليست مجرد رحلات إنسانية، بل عمليات تهجير منظمة.
موقف الجنوب أفريقي والارتباك الدولي
جنوب أفريقيا أعربت عن قلق بالغ إزاء وصول الفلسطينيين، معتبرةً أن الرحلات «غامضة» وغير واضحة الدوافع. السلطات حذرت من أن ما يجري قد يشير إلى خطة تهجير منظمة تهدف إلى تفريغ غزة والضفة الغربية من سكانهما. هذا الموقف يعكس حساسية جنوب أفريقيا تجاه القضية الفلسطينية، خاصةً أنها من أبرز الدول التي تسعى لمحاكمة كيان العدو دولياً بتهمة ارتكاب جرائم حرب. بالنسبة لجنوب أفريقيا، استقبال الفلسطينيين لم يكن مجرد قضية إنسانية، بل كان أيضاً قضية سياسية ترتبط بموقفها التاريخي المناهض للاستعمار والتمييز العنصري. لكن في الوقت نفسه، وجدت نفسها أمام تحديات قانونية ولوجستية، حيث لم تكن مستعدة لاستقبال مئات الأشخاص دون تنسيق مسبق. هذا الارتباك كشف أن الرحلات لم تكن جزءاً من خطة إنسانية دولية، بل أقرب إلى عملية تهجير مفاجئة فرضت على دولة بعيدة أن تستقبل لاجئين دون سابق إنذار.
الإعلام وكشف الغموض
وسائل الإعلام العالمية لعبت دوراً محورياً في كشف تفاصيل هذه الرحلات. صحيفة «نيويورك تايمز» نشرت تقريراً موسعاً، فيما تناولت الجزيرة والغارديان القضية من زوايا مختلفة. الإعلام لم يكتفِ بسرد التفاصيل، بل طرح أسئلة حول الدوافع السياسية، وحول الدور الصهيوني، وحول مستقبل الفلسطينيين الذين وصلوا إلى جنوب أفريقيا. هذا الدور الإعلامي مهم لأنه يمنع كيان العدو من تمرير سياساته في الظل. عبر كشف الغموض، يُجبر الإعلام المجتمع الدولي على مواجهة الحقيقة: ما يجري ليس مجرد رحلات إنسانية، بل جزء من سياسة تهجير منظمة. ومن خلال هذه التغطية، أصبح واضحاً أن القضية لا تتعلق فقط بمئات الأشخاص الذين وصلوا إلى جنوب أفريقيا، بل بمستقبل شعب بأكمله يقاتل.
السيناريوهات المستقبلية واحتمالات التهجير المستمر
من غير المستبعد أن تستمر هذه الرحلات، خاصةً إذا وجد كيان العدو فيها وسيلة لتخفيف الضغط الديمغرافي والسياسي في غزة. فالتجربة الأولى أظهرت؛ أن نقل مئات الفلسطينيين يمكن أن يتم عبر ترتيبات غامضة، وأن المجتمع الدولي قد يكتفي بالتعبير عن القلق دون اتخاذ خطوات عملية لوقفها. استمرار هذه الرحلات سيطرح تحديات أكبر أمام الدول المستقبلة، وأمام المنظمات الدولية التي ستجد نفسها أمام واقع جديد: فلسطينيون يخرجون من أرضهم ليس عبر مسارات لجوء تقليدية، بل عبر قنوات غير رسمية، وبترتيبات تحمل بصمات التهجير القسري. بالنسبة للفلسطينيين الذين وصلوا إلى جنوب أفريقيا، مستقبلهم لا يزال غامضاً. هل سيبقون هناك بشكلٍ دائم؟ هل سيُعتبرون لاجئين رسميين؟ أم أنهم سيُتركون لمصير مجهول؟ هذه الأسئلة تكشف أن القصة لم تنته بعد، وأن ما جرى قد يكون مجرد بداية لمرحلة جديدة من التهجير المنظم الذي يسعى كيان العدو إلى تنفيذه بطرق غير مباشرة، مستخدماً أدوات الغموض والاحتيال لتغطية أهدافها السياسية.
السيناريو الأكثر خطورة هو أن تتحول هذه الرحلات إلى سياسة ممنهجة، بحيث يتم إخراج آلاف الفلسطينيين من غزة تدريجياً، عبر قنوات مشابهة، إلى دول مختلفة حول العالم. هذا السيناريو يعني أن كيان العدو قد نجح في تقليص عدد سكان غزة بشكل ملموس، ما يفتح الباب أمام إعادة تشكيل الواقع الديموغرافي والسياسي في المنطقة. وفي المقابل، قد تجد الدول المستقبلة نفسها أمام تحديات اقتصادية واجتماعية، حيث ستضطر إلى دمج لاجئين جدد في مجتمعاتها، دون أن تكون مستعدة لذلك.
ختاماً الرحلات الغامضة التي نقلت فلسطينيين من غزة إلى جنوب أفريقيا هي جزء من مشهد أكبر يعكس سياسة صهيونية مستمرة منذ عقود تقوم على تفريغ الأرض من سكانها الأصليين. هذه الرحلات تكشف عن استراتيجية جديدة، تستخدم الغموض والاحتيال لإخفاء الأهداف الحقيقية، لكنها في النهاية تؤدي إلى النتيجة نفسها: تهجير الفلسطينيين من وطنهم. بالنسبة للعالم، هذه القصة هي دعوة إلى اليقظة: ما يجري في غزة ليس مجرد حرب، بل سياسة تهجير ممنهج، تُنفذ بطرق مختلفة، لكنها تحمل دائماً الهدف نفسه. بالنسبة للفلسطينيين، هذه القصة هي فصل جديد في مأساة طويلة، بدأت منذ النكبة ولم تنته بعد.