بين الحرب الرقمية وتآكل الشرعية الأكاديمية

حركة العقاب من أجل العدالة.. مكافآت على رؤوس العلماء الصهاينة

يخشى كيان العدو أن يشكل ظهور الموقع بداية لحملات دولية تستهدف الساسة والعسكريين والعلماء معاً مما يهدد صورته كدولة متقدمة مزعومة وبضعف قدرته على تبرير شرعية مؤسساته الأكاديمية

في خضم الحرب الصهيونية المستمرة على غزة، لم تعد المعركة مقتصرة على الميدان العسكري وحده، بل امتدت إلى الفضاء الرقمي والإعلامي. فقد ظهر موقع إلكتروني غامض يحمل اسم “حركة العقاب من أجل العدالة”، نشر قوائم تضم عشرات الأكاديميين والعلماء الصهاينة العاملين في الجامعات ومراكز البحوث، مرفقاً بصورهم وبياناتهم الشخصية، وعرض مكافآت مالية مقابل الوصول إليهم أو تعطيل نشاطهم. ورغم أن الموقع لم يستمر سوى ساعات قليلة قبل أن يُحظر، إلا أن أثره الإعلامي والسياسي كان كبيراً، إذ أحدث صدمة في الداخل الصهيوني وأثار نقاشاً دولياً حول دور الأكاديميين في آلة الحرب، وحول ازدواجية المعايير الغربية في التعامل مع هذه الأساليب.هذا الحدث لم يكن مجرد «هجوم سيبراني» عابر، بل كشف عن تحولات أعمق في طبيعة الصراع: من مواجهة عسكرية تقليدية إلى حرب شاملة تشمل الإعلام، الأخلاق، والشرعية الأكاديمية. كما أنه أعاد إلى الواجهة سؤالاً أساسياً: لماذا يُعتبر استهداف الأكاديميين الصهاينة «تحريضاً على القتل»، بينما تمارس الولايات المتحدة الأسلوب نفسه منذ عقود تحت عنوان «مكافآت من أجل العدالة» وتعتبره عملاً مشروعاً؟
تفاصيل الموقع والصدمة الصهيونيةالموقع نشر ما سماه «أهداف خاصة»، تضمنت أسماء بارزة من أساتذة الكيمياء والفيزياء والهندسة والطب، بينهم رؤساء جامعات وشخصيات مرتبطة بالصناعات العسكرية. بعض الأسماء أُرفقت بصور جوازات سفر وتأشيرات، وأخرى بعناوين وهواتف. هذا الحجم من المعلومات الحساسة دفع الأجهزة الأمنية الصهيونية إلى التعامل مع الأمر كتهديد خطير، واستنفر الشاباك والموساد لحماية هؤلاء الباحثين، مع إصدار تحذيرات عاجلة بعدم نشر خطط سفرهم أو تحركاتهم.

بالنسبة لكيان العدو، لم يكن الخطر في مجرد نشر الأسماء، بل في كشف العلاقة العميقة بين الأكاديمي والجيش، وهو ما حاولت طويلاً إخفاءه خلف صورة «الجامعة المتقدمة» و«البحث العلمي المحايد». لذلك، فإن ظهور الموقع لم يُقرأ فقط كتهديد أمني، بل كضربة لصورة كيان العدو أمام الرأي العام العالمي، حيث بدا أن العلماء الذين يُقدَّمون عادة كرموز للتقدم هم في الواقع شركاء في آلة الحرب.

 قوائم «الأهداف الخاصة»

الموقع المجهول نشر نصوصاً يتهم فيها علماء وأكاديميين صهاينة باستخدام العلم في خدمة آلة الحرب وقتل المدنيين، معلناً أنهم تلقوا تحذيرات سابقة ولم يتوقفوا عن أنشطتهم، ولذلك اعتبرهم «أهدافاً مشروعة». ودعا بشكلٍ مباشر جماعات مسلحة ومنظمات غير حكومية وحتى مواطنين صهاينة للمشاركة في معاقبة هؤلاء، مقابل مكافآت مالية متفاوتة.

ووفق صحيفة يديعوت أحرونوت، احتوى الموقع على تبويب بعنوان «أهداف خاصة» يضم أسماء وصور عشرات الباحثين البارزين في مجالات الكيمياء والفيزياء والهندسة والطب، بعضهم مرتبط بالصناعة الأمنية، مع تفاصيل شخصية مثل العناوين وأرقام الهواتف، وأحياناً صور لجوازات سفر وتأشيرات. القائمة شملت شخصيات معروفة مثل داني حاييموفيتش رئيس جامعة بن غوريون، والفيزيائي النووي إليعازر رابينوفيتش، إضافة إلى شيكما بريسلر من معهد وايزمان.

كما عرض الموقع مبالغ مالية تبدأ من بضعة آلاف مقابل أعمال تخريبية، وتصل إلى مئة ألف دولار مقابل اغتيال بعض الأسماء، فيما أضاف مئات الأكاديميين والطلاب إلى قائمة موسعة بأسعار موحدة تبلغ خمسين ألف دولار لكل منهم.

الأكاديميون كجزء من المنظومة العسكرية

منذ عقود، تلعب الجامعات الصهيونية دوراً محورياً في دعم الجيش عبر تطوير التكنولوجيا العسكرية. فمشاريع الذكاء الاصطناعي، والطائرات المسيّرة، وأنظمة المراقبة، كلها نتاج تعاون وثيق بين المختبرات الأكاديمية والمؤسسة العسكرية. الباحثة الصهيونية مايا ويند أكدت أن الجامعات «تساهم بعمق في ترسيخ المشروع الاستعماري الصهيوني»، وأنها ليست مؤسسات محايدة كما يُروّج لها.  هذا يعني؛ أن الأكاديمي الصهيوني ليس مجرد باحث في مختبر، بل شريك في صناعة أدوات القتل التي تُستخدم ضد المدنيين في غزة ولبنان. لذلك، فإن وضع أسمائهم في واجهة الاتهام يعكس إدراكاً متزايداً لدورهم الحقيقي في الحرب. وهو ما يفسر القلق الصهيوني من أن يتحول هذا النقاش إلى حملات دولية أوسع تستهدف العلماء، وتضعهم في خانة المسؤولية الأخلاقية عن الجرائم المرتكبة.

المقارنة مع برنامج «مكافآت من أجل العدالة»

الجدل الحقيقي الذي أثاره الموقع يتجاوز مسألة التهديد المباشر، ليطرح سؤالاً أساسياً: لماذا يُعتبر هذا السلوك «تحريضاً على القتل» عندما يطال صهاينة، بينما تمارسه الولايات المتحدة منذ عام 1984 تحت عنوان «مكافآت من أجل العدالة»؟

هذا البرنامج الأميركي ينشر صور وأسماء ومعلومات شخصية لأفراد تعتبرهم واشنطن مطلوبين، غالباً دون أي إدانة قضائية، ويعرض مكافآت تصل إلى 10 ملايين دولار لمن يساعد في الوصول إليهم أو قتلهم. في السنوات الماضية، استُخدم هذا الأسلوب ضد شخصيات من حركات المقاومة، عبر لوحات إعلانية وصفحات السفارات الأميركية وإعلانات ممولة على مواقع التواصل. ورغم ذلك، لم يُعتبر هذا «تحريضاً»، بل جزءاً من «الدبلوماسية الأمنية».

هذا التناقض يكشف احتكاراً غربياً لمفهوم الشرعية: ما يفعله الأميركيون يُصنّف حماية للأمن القومي، وما يفعله آخرون رداً على المجازر يصبح «إرهاباً». وهنا يظهر البعد السياسي العميق: الشرعية ليست مفهوماً ثابتاً، بل أداة تُستخدم لتبرير أفعال طرف ونزع الشرعية عن أفعال الطرف الآخر.

الأثر الإعلامي والسياسي

ظهور الموقع أحدث ضجة غير مسبوقة في الداخل الصهيوني. الإعلام المحلي وصفه بأنه «تصعيد خطير»، بينما المسؤولون الأمنيون اعتبروه تهديداً يستدعي تدخلاً عاجلاً. لكن بعيداً عن الخطاب الرسمي، يدرك الصهاينة أن المشكلة الحقيقية تكمن في الصورة التي بدأ العالم يراها: الأكاديميون ليسوا مجرد باحثين، بل شركاء في صناعة السلاح.

هذا التحول الإعلامي يضع كيان العدو أمام تحدٍ جديد: كيف يحافظ على صورته كدولة «ديمقراطية متقدمة» مزعومة بينما تُكشف أدوار جامعاته في دعم آلة الحرب؟ وكيف يمكنه إقناع العالم بأن استهداف العلماء غير مشروع، بينما هو نفسه يستهدف شخصيات في الخارج عبر اغتيالات أو عبر برامج مشابهة لما فعله الموقع؟

البعد الأخلاقي والقانوني

القضية تطرح سؤالاً أخلاقياً معقداً: هل استهداف الأكاديميين مشروع؟ من ناحية، يُفترض أن الباحثين يعملون في مجالات علمية محايدة. لكن عندما تتحول هذه الأبحاث إلى أدوات قتل، يصبح السؤال أكثر صعوبة. هل يمكن اعتبارهم أبرياء؟ أم أنهم شركاء في الجرائم؟

القانون الدولي لا يقدم إجابة واضحة، لكنه يميز بين المدنيين والمقاتلين؛ القضية هنا أن الأكاديميين الصهاينة مدنيون شكلياً، لكنهم يعملون في خدمة الجيش. وهذا ما يجعل النقاش أكثر إلحاحاً، ويفتح الباب أمام إعادة تعريف دور الأكاديميا في زمن الحرب.

تآكل الصورة الأكاديمية الصهيونية 

يخشى كيان العدو أن يؤدي ظهور هذا الموقع إلى فتح الباب أمام حملات دولية أوسع، تستهدف ليس فقط الساسة والعسكريين، بل أيضاً العلماء الذين يصنعون التكنولوجيا المستخدمة في الحروب. إذا حدث ذلك، فإن صورته كدولة متقدمة ستتآكل أكثر، وسيصبح من الصعب عليه الدفاع عن شرعية مؤسساته الأكاديمية.

كما أن هذا الحدث قد يشجع أطرافاً أخرى على استخدام الأسلوب نفسه، سواء في العالم العربي أو الإسلامي، ما يعني أن الحرب الإعلامية ستتوسع، وأن الأكاديميين سيصبحون جزءاً من ساحة الصراع، لا مجرد مراقبين.

هذا ولم يكن ظهور موقع «حركة العقاب من أجل العدالة» مجرد حادثة عابرة، بل مؤشر على تحولات أعمق في النقاش الدولي حول كيان العدو. فهو كشف التناقض بين رفض الغرب لأساليب استهداف الصهاينة واعتبارها «إرهاباً»، وبين ممارسته نفس الأسلوب تحت عنوان «مكافآت من أجل العدالة». كما أظهر الدور الخفي للأكاديميين الصهاينة في دعم آلة الحرب، وفتح الباب أمام مساءلة أخلاقية أوسع.
في النهاية، يبقى السؤال: هل يستطيع كيان العدو الحفاظ على صورته الأكاديمية المحايدة، أم أن الحرب على غزة ستجعل من علمائه جزءاً من قائمة الاتهام العالمية؟

 

المصدر: الوفاق/ خاص