صمود شعب يفضح مأزق الهيمنة الأمريكية

فنزويلا تتحدى واشنطن.. لا للحصار والترهيب

تکشف الحرب النفسية التي تشنها واشنطن ضد فنزويلا أكثر مما تُخفي. فهي ليست مجرد محاولة لإضعاف معنويات الشعب أو زعزعة الثقة بالدولة، بل هي اعتراف ضمني بأن القوة العسكرية المباشرة عاجزة عن تحقيق أهدافها

مع نهاية عام 2025، دخلت المواجهة بين فنزويلا والولايات المتحدة مرحلة تصعيد غير مسبوقة. لم تعد واشنطن تكتفي بالعقوبات الاقتصادية أو الحملات الإعلامية، بل انتقلت إلى فرض حصار جوي خانق وتصنيف المؤسسة العسكرية الفنزويلية ضمن خانة الإرهاب، في خطوة تهدف إلى شرعنة استهداف الرئيس نيكولاس مادورو شخصياً. هذه الحرب النفسية، التي تتخذ أشكالاً متعددة، ليست سوى امتداد لعقيدة أميركية قديمة في إدارة الصراعات، حيث تُستخدم أدوات الضغط النفسي والإعلامي والاقتصادي لتهيئة الأرضية لتدخل عسكري مباشر أو غير مباشر. لكن فنزويلا، بتاريخها الثوري ومواردها الطبيعية وتحالفاتها الدولية، ليست دولة يمكن إخضاعها بسهولة، بل هي ساحة صراع مفتوح بين إرادة الهيمنة الأميركية وإصرار شعب يرفض الانصياع لإملاءات الخارج.

 

الحرب النفسية تكشف مأزق واشنطن

 

لا يستبعد مراقبون أن تتضمن «العمليات النفسية» التي تواصل واشنطن تنفيذها ضد فنزويلا حتى الآن، أعمالاً تخريبية قد يُصعب التحقق من طبيعتها، مثل تعطيل محوّل كهربائي في إحدى المناطق، وهو ما قد يُفسَّر على أنه نتيجة سنوات من سوء الصيانة، ويزيد من حالة الالتباس لدى السكان. وفي السياق نفسه، فإن الكشف عن تفويض لوكالة الاستخبارات المركزية (CIA) بتنفيذ عمليات ضد الرئيس مادورو، إلى جانب مضاعفة المكافأة المعلنة للقبض عليه، يندرج ضمن سلسلة إجراءات تهدف إلى تكثيف الضغط النفسي، في محاولة لدفع المسؤولين أو القيادات العسكرية إلى الانشقاق عن الدولة الفنزويلية.

 

إنّ الحرب النفسية التي تشنها واشنطن ضد فنزويلا تكشف أكثر مما تُخفي. فهي ليست مجرد محاولة لإضعاف معنويات الشعب أو زعزعة الثقة بالدولة، بل هي اعتراف ضمني بأن القوة العسكرية المباشرة عاجزة عن تحقيق أهدافها. حين تعجز واشنطن عن فرض إرادتها عبر الغزو أو الانقلاب، تلجأ إلى أدوات الحرب النفسية، محاولةً بث الشك والخوف في نفوس الفنزويليين. لكن هذه الأدوات، بدلاً من أن تُضعف فنزويلا، تحولت إلى عنصر تعبئة داخلية، عززت روح المقاومة وأظهرت أن الشعب قادر على تحويل الألم إلى قوة.

 

لقد حاولت الولايات المتحدة تصوير العقوبات الاقتصادية على أنها وسيلة لمعاقبة الدولة الفنزويلية، لكنها في الحقيقة أداة لإرهاب الشعب. غير أن الفنزويليين، الذين خبروا الحصار منذ سنوات، باتوا أكثر وعياً بأن هذه الإجراءات ليست سوى أدوات استعمارية جديدة. وهكذا تحولت العقوبات إلى دليل على أن واشنطن لا تملك سوى سلاح التجويع، وأنها عاجزة عن مواجهة فنزويلا في ساحة المعركة المباشرة. أما الحملات الإعلامية التي تصف مادورو بالدكتاتور وتربطه بشبكات المخدرات والإرهاب، فهي جزء من محاولة لشيطنته أمام الداخل والخارج. لكن هذه الحملات، التي تفتقر إلى الأدلة، سرعان ما تُقرأ في الداخل الفنزويلي على أنها دعاية مفبركة، هدفها تبرير التدخل العسكري. وبدلاً من أن تُضعف صورة مادورو، ساهمت في تعزيز مكانته كرمز للصمود في وجه الإمبريالية.

 

أساليب دعائية قديمة في زمن جديد

 

حين نقرأ عن إسقاط منشورات دعائية فوق العراق عام 2003 أو استخدام الموسيقى الصاخبة لمحاصرة نورييغا في بنما عام 1989، ندرك أن واشنطن تعيد إنتاج أساليب قديمة في مواجهة فنزويلا. لكنها تغفل أن الظروف تغيّرت، وأن الشعوب باتت أكثر وعياً بهذه الأساليب. كما أن فنزويلا تمتلك قاعدة شعبية واسعة وحلفاء دوليين أقوياء، ما يجعل مهمة واشنطن أكثر تعقيداً. إن استدعاء هذه الأساليب القديمة يكشف أن واشنطن لم تعد تملك أدوات جديدة، وأنها تعيد تدوير تكتيكات فقدت عنصر المفاجأة، وهو ما يعزز ثقة الفنزويليين بقدرتهم على الصمود.

 

صقور واشنطن ودعوات التدخل

 

في الداخل الأميركي، تتباين المواقف بين من يدعو إلى تجنّب مغامرة عسكرية جديدة وبين صقور يطالبون بضربات عسكرية تستهدف هياكل الدولة الفنزويلية. لكن هذه الدعوات، مهما بدت قوية، تكشف مأزق واشنطن أكثر مما تكشف ضعف فنزويلا. فحين يصرّ بعض المسؤولين الأميركيين على أن تجويع الدولة لن يكون كافياً، فهم يعترفون ضمناً بأن العقوبات والحصار لم تحقق أهدافها. وحين يطالبون بضربات عسكرية، فهم يكشفون أن واشنطن لم تعد تملك سوى خيار القوة الغاشمة، وهو خيار محفوف بالمخاطر. بالنسبة للفنزويليين، هذه الدعوات ليست سوى محاولة لنهب الثروات النفطية وإعادة فرض الهيمنة، وهو ما يُعزز الخطاب المقاوم ويزيد من الالتفاف الشعبي حول القيادة.

 

الحصار الجوي كأداة حصار نفسي

 

الحصار الجوي الذي فرضته واشنطن على فنزويلا لم يكن مجرد إجراء أمني، بل كان محاولة لإضعاف الروح المعنوية للشعب. لكن الشعب قرأ هذا الحصار على أنه دليل ضعف واشنطن، التي لم تعد قادرة على مواجهة فنزويلا إلا عبر أدوات العزل. لقد تحولت البلاد إلى «سجن كبير»، لكن هذا السجن كشف أيضاً أن فنزويلا قادرة على الصمود حتى في أصعب الظروف.

 

تصنيف «كارتل الشموس» كمنظمة إرهابية

 

تصنيف المؤسسة العسكرية الفنزويلية ضمن خانة الإرهاب لم يكن سوى محاولة لشرعنة استهداف مادورو شخصياً. لكن هذا التصنيف، الذي يفتقر إلى الأدلة، سرعان ما قوبل بالسخرية في الداخل الفنزويلي، حيث وصفته الحكومة بأنه «أسوأ أنواع الأخبار المزيّفة». إن تصوير مادورو كزعيم كارتل يدير شبكة إجرامية من القصر الرئاسي ليس سوى محاولة لتسويق تدخل عسكري أمام الرأي العام الأميركي والدولي. لكن هذه السردية، التي تفتقر إلى المصداقية، تحولت إلى دليل على أن واشنطن بحاجة إلى ذرائع واهية لتبرير عدوانها، وأنها عاجزة عن مواجهة فنزويلا بطرق مشروعة.

 

الحرب على المخدرات والإرهاب

 

حين يربط ترامب بين الحرب على المخدرات والحرب على الإرهاب، فهو يحاول استدعاء سرديات قديمة استخدمت في الشرق الأوسط لتبرير الغزو. لكن هذه السرديات لم تعد تقنع أحداً، لا في الداخل الأميركي ولا في الخارج. إن تصوير فنزويلا كقاعدة للإرهاب ليس سوى غطاء أيديولوجي للاستيلاء على النفط والموارد الطبيعية. بالنسبة للفنزويليين، هذه الحرب ليست حرباً على المخدرات أو الإرهاب، بل هي حرب على السيادة والكرامة، وهو ما يجعلهم أكثر استعداداً للصمود والمقاومة.

 

الأبعاد الاستراتيجية للتصعيد

 

التحركات الأميركية تحمل أبعاداً استراتيجية تتجاوز فنزويلا نفسها، فهي رسالة إلى روسيا والصين وكوبا. لكن هذه الرسالة تكشف أيضاً أن واشنطن تخشى فقدان نفوذها في أميركا اللاتينية، وأنها ترى في فنزويلا رمزاً للتحدي. إن نشر أكبر قوة بحرية وجوية في الكاريبي منذ أزمة الصواريخ الكوبية ليس سوى محاولة لإظهار القوة، لكنه يكشف أيضاً أن واشنطن لم تعد قادرة على فرض إرادتها بسهولة. بالنسبة للفنزويليين، هذا التصعيد ليس سوى دليل على أن بلادهم باتت رقماً صعباً في المعادلة الدولية، وأن صمودهم يربك حسابات القوى الكبرى.

 

المخاطر المحتملة على واشنطن

 

رغم أن واشنطن ترى أن المكاسب من انهيار الدولة الفنزويلية تفوق المخاطر المحتملة، إلا أن التدخل العسكري يحمل مخاطر جسيمة. هناك احتمال تحول التدخل إلى حرب استنزاف طويلة للقوات الأميركية، وخطر اندلاع حرب أهلية شاملة تهدد كولومبيا والبرازيل، فضلاً عن إمكانية أن يظهر مادورو بمظهر المقاوم الذي تحدى واشنطن. هذه المخاطر تجعل من التصعيد الأميركي مقامرة استراتيجية قد تكون نتائجها عكسية، وتؤكد أن فنزويلا ليست دولة يمكن إخضاعها بسهولة، بل هي دولة قادرة على تحويل التهديدات إلى فرص لتعزيز وحدتها الوطنية وتحالفاتها الدولية.

 

فنزويلا تكشف مأزق الهيمنة الأمريكية

 

إن الحرب النفسية الأميركية ضد فنزويلا، بكل أدواتها من العقوبات الاقتصادية والحصار الجوي والتصنيفات بالإرهاب، ليست سوى محاولة يائسة لإعادة فرض الهيمنة على أميركا اللاتينية والسيطرة على مواردها الطبيعية. لكنها في جوهرها تكشف مأزق واشنطن أكثر مما تُضعف كاراكاس، إذ إن اللجوء إلى هذه الأساليب غير المباشرة يعكس عجز القوة العظمى عن مواجهة دولة صامدة بشكلٍ مباشر.

 

لقد أرادت الولايات المتحدة أن تُظهر فنزويلا كدولة معزولة، لكنها في الحقيقة أظهرت نفسها كقوة استعمارية قديمة تعيد إنتاج أساليب فقدت فعاليتها. وأرادت أن تُضعف صورة الرئيس نيكولاس مادورو، لكنها جعلت منه رمزاً للمقاومة في وجه الإمبريالية، وأعطت الشعب سبباً إضافياً للالتفاف حول قيادته. وأرادت أن تُرهب المؤسسة العسكرية بتصنيفات الإرهاب، لكنها عززت شعورها بأنها في قلب معركة الدفاع عن السيادة الوطنية.

 

وهكذا، فإن الحرب النفسية الأميركية، مهما بلغت شدتها، لن تكون سوى دليل على قوة فنزويلا وصمودها. فهي حرب تكشف مأزق الهيمنة الأميركية، وتؤكد أن الشعوب الحرة قادرة على تحويل الحصار إلى فرصة، والتهديد إلى حافز لمزيد من الوحدة والمقاومة.

 

المصدر: الوفاق/ خاص

الاخبار ذات الصلة