فن التذهيب والخط في إيران ليس مجرد زخرفة أو كتابة، بل هو تجسيد للروح الإسلامية والإيرانية، حيث إلتقت القدسية مع الجمال الفني لتُنتج مخطوطات ومصاحف تُعتبر من أعظم ما أبدعته الحضارة الإسلامية. هذا المزج بين الذهب والحروف جعل من الكتاب الإيراني تحفةً فنية تُدهش كل من يراها حتى اليوم.
مصحف روزبهان
بين المخطوطات توجد نماذج متألقة في فن الخط، تنسيق الصفحات، التذهيب، وأنواع فنون صناعة الكتاب. ومن هذه النسخ، مصحف روزبهان بخط محمد الطَّبَعي الشيرازي، وهو من روائع الخط والتذهيب في مدرسة شيراز خلال النصف الأول من القرن العاشر الهجري (القرن السادس عشر الميلادي). هذه النسخة الضخمة المحفوظة في مكتبة تشستر بِتي – والمعروفة بـ «مصحف روزبهان» – لها شهرة عالمية، ويعتبرها الخبراء تحفة في فنون الكتابة والزخرفة الإيرانية.
«روزبهان محمد الطَّبَعي الشيرازي» يُعدّ من أبرز الكتّاب والمذهّبين في شيراز خلال العصر الصفوي، وتصفه المصادر بـ «الأستاذ الكبير للمدينة» في النصف الأول من القرن العاشر الهجري القمري. وقد عُثر على عدة مصاحف كاملة أو أجزاء منفردة من عمله في متاحف ومكتبات، منها في إيران، مكتبة «تشسترِ بتي»، ومجموعات خاصة.
أشهر أعماله مصحف ضخم يضم 445 ورقة (نحو 890 صفحة)، كُتب وزُخرف في شيراز، ويُحفظ اليوم في مكتبة «تشسترِ بتي» بدبلن، ويُعرف في الأدبيات المتخصصة بـ «مصحف روزبهان». ورغم أن هذه النسخة لا تحمل تاريخاً صريحاً، إلا أن أسلوب الكتابة والتذهيب يُرجّح أنها تعود إلى منتصف القرن العاشر الهجري (نحو 950هـ.ق/1550م)، وقد امتدحته رسائل أواخر القرن العاشر باعتباره من أعظم روائع كتابة المصاحف في شيراز.
خصائص خط المصحف
هذا المصحف يتألف من 445 ورقة؛ قياس الصفحة 290×427 ملم، وفي كل صفحة أحد عشر سطراً. الخط الأساسي نسخة إيرانية صفوية: قلم لين، صغير نسبياً، بتناسب دقيق بين عرض القلم وارتفاع الحروف والمسافات بين السطور، مما يحقق وضوحاً ورشاقة، وهو أنحف وأكثر حركة من نماذج العصر التيموري. في هذا المصحف أُستُخدمت خطوط النسخ، الثلث، الريحان، المحقق، والتوقيع.
من حيث المواد وجودة العمل، هذا الأثر فريد: اللازورد والذهب، أغلى الأصباغ، استُخدما في كل صفحة، والزخارف بالغة الدقة. العناوين والبسملات وأحياناً الكلمات المفتاحية أُبرزت بالذهب أو اللازورد، مع خطوط ثانوية كالثلث وزخارف الحروف. علامات الإعراب والنقط بألوان مميزة (أحمر، لازوردي، وأحياناً ذهب)، مما يثري المشهد البصري.
التذهيب وتنسيق الصفحات
روزبهان كان مذهّباً أيضاً، وتُعرف أعماله بـ «أسلوب شيراز الصفوي»: هوامش مليئة بزخارف نباتية دقيقة، استخدام واسع للذهب واللازورد والأخضر والأحمر، وشبكات هندسية معقدة في العناوين والصفحات الافتتاحية. كما أن مصحفاً محفوظاً في المتحف الوطني الإيراني بخط بيرمحمد الثاني (929هـ.ق) قام بتذهيبه روزبهان سنة 930هـ.ق، توجد مصاحف أخرى بخطه وتذهيبه. أسلوبه في التذهيب يظهر تشابهات بين النصوص الأدبية والمصاحف، وانتقل تأثيره إلى الهند.
دراسة صفحات افتتاحية لمصاحف من القرن التاسع إلى العاشر في شبه القارة، إيران، الأناضول، ومصر، تُظهر أن الصفحة الأولى كانت تضم سورة الفاتحة، والصفحة المقابلة بدايات سورة البقرة. لكن روزبهان وبعض الكتّاب بعده ابتكروا طريقة جديدة: تقسيم سورة الفاتحة على صفحتين، وبدء سورة البقرة من الصفحة التالية.
إلى جانب التذهيب، كان روزبهان بارعاً في الأقلام الستة. ذكره منشي قمي بين الخطاطين الذين كتبوا نقوش المباني في شيراز، وتتلمذ عليه خطاطون من فارس وخراسان وكرمان والعراق. عُرف له أربعة مصاحف بخطه، إضافة إلى صفحات دعاء ختم القرآن وفالنامة، منها دعاء ختم مؤرخ 952هـ.ق، بخط النسخ. ويبدو أنه كتب أيضاً بالخط النستعليق، إذ وُجد «فالنامة» منظومة في نهاية مصحف بيرمحمد الثاني بخط النستعليق يحمل توقيعه. ويُقال إن تجليد المصحف المذهب أيضاً من عمله.
معرض لفنون صناعة الكتاب
في مصحف روزبهان، تنوع التذهيب وتعقيده (من عناوين مختلفة، هوامش متعددة، صفحات افتتاحية وختامية مركبة) جعله فريداً بين مصاحف عصره. وتشير دراسات حديثة إلى إعادة ترتيب أو إكمال بعض الصفحات الأخيرة، مما يدل على قيمته المستمرة عبر الزمن.
يبدأ المصحف بشمسَتين مذهبتين تحويان دعاء افتتاحي (آية 88 من سورة الإسراء) بخط التوقيع، ثم صفحتين مذهبتين فيهما الفاتحة وبداية البقرة بخط الريحان داخل «ترنج» مركزي محاط بزخارف نباتية ملونة على أرضية لازوردية. الصفحات التالية مقسمة إلى ثلاثة أشرطة: الأعلى والأسفل بخط المحقق الكبير باللازورد، الأوسط بخط الثلث بالذهب، والمتن بخط النسخ. العناوين بخط الثلث مذهّب، الهوامش مزخرفة بترنجات مذهبة لبيان الأجزاء والأحزاب والسجدات، والفواصل بين الآيات بزخارف زهرية. الصفحات الختامية مذهبة بالكامل، مع دعاء ختم القرآن بخط المحقق، النص بالحبر الأسود، والآيات باللازورد والذهب. غلاف المصحف من جلد أسود مزخرف بترنج وزخارف مذهبة، داخله جلد بني مزخرف بترنج وزخارف مع كتابات.
بداية ونهاية المصحف
يبدأ بالآية الكريمة: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا…» (الإسراء: 88). ويختم بدعاء: «اللهم اجعل القرآن لنا في الدنيا قريناً، وفي القبر مؤنساً، وفي القيامة شافعاً، وعلى الصراط نوراً، وفي الجنة…». وتحمل خاتمة النسخة توقيع الناسخ: «قد تشرف بتحريره وتقدم بترقيمه الفقير إلى الله الأحد الغني أقل الضعفاء وأضعف الفقراء روزبهان محمد الطَّبَعي الشيرازي».