الشهيد حسان اللقيس.. مهندس السماء وسرُّ القوّة الصامتة في المقاومة

خاص الوفاق: لا تُقاس سيرة الشهيد حسان اللقيس بما كُشف عنها، بل بما بقي خفياً في الميدان

د. أكرم شمص

 

الأيام الأولى من كانون الأول/ ديسمبر من كل عام، تستعيد الذاكرة سيرة رجلٍ عاش في الظل، ولم يُعرف بين الناس إلا يوم ارتقائه، رغم أن بصماته كانت تملأ سماء لبنان وفلسطين والمنطقة.

 

 

إنّه الشهيد القائد حسان اللقيس، أحد أبرز العقول التكنولوجية في تاريخ المقاومة، والرجل الذي وصفه الشهيد الأسمى السيد حسن نصر الله بـ”أحد العقول المميزة واللامعة”، والذي اعترفت به الصحافة الصهيونية لاحقاً كأحد أهمّ صُنّاع التطور العسكري لحزب الله.

 

 

على مدى أكثر من عقدين، عمل اللقيس بصمتٍ وإصرار على هندسة القدرات التقنية والقتالية، من الاتصالات المعقدة إلى دقة الصواريخ، وصولاً إلى درّة التاج “سلاح الجو المسيّر”، ليصبح اسمه مرادفاً لمعركة الأدمغة بين المقاومة والاحتلال.

 

 

 

أولاً: في عيون العدو.. من “قوائم التصفية” الصامتة إلى الاعتراف الصاخب

 

 

منذ خمسينيات القرن الماضي، تبنّت الاستخبارات الصهيونية سياسة “تصفية الأدمغة”، مستهدفةً العلماء والقادة الذين يشكلون “كاسراً للتوازن”. وفي هذا السياق، وُضع اسم حسان اللقيس على قوائم الاغتيال باكراً، باعتباره تهديداً استراتيجياً صامتاً.

 

 

لم يظهر اسمه في الإعلام الصهيوني المفتوح قبل استشهاده، إذ كان “شبحاً” بالنسبة للصحافة و”كابوساً” للدوائر الأمنية فقط. وقد أشار رونين بيرغمان في كتابه “انهض واقتل أولاً” إلى أن تل أبيب رأت فيه خطراً يوازي كبار العلماء العسكريين، وأن اغتياله هدف إلى “إبطاء” التطور التكنولوجي للمقاومة. أما مئير داغان، رئيس الموساد الأسبق، فقد ذهب أبعد من ذلك، معتبراً أن حزب الله بات يمتلك بفضل اللقيس قدرة نارية لا تملكها 90% من دول العالم.

 

 

فور تنفيذ عملية الاغتيال في 4 كانون الأول 2013، تحوّل الصمت االصهيوني المطبق إلى سيلٍ من التحليلات التي كشفت حجم “الضربة” التي أراد الاحتلال توجيهها، وتجلى ذلك في تغطية الصحف الكبرى:

 

 

  • صدمة “هآرتس”: خرجت الصحيفة بعنوان عريض يصف العملية بأنها “نظيفة ومهنية جداً” (في تلميح لبصمات الموساد)، وصنّفت اللقيس كقائد عسكري مخضرم صاحب الدور المركزي في القفزات التكنولوجية للحزب، معتبرة غيابه “أكبر ضربة للتنظيم” في حينه.

 

  • كشف المستور في “تايمز أوف إسرائيل”: خصص الموقع سلسلة مقالات استندت لخبراء استخبارات (مثل رونين سولومون)، قدّمت اللقيس للجمهور الصهيوني بصفته “العقل المدبر” لبرنامج الطائرات المسيّرة (UAVs)، وحلقة الوصل المسؤولة عن تزويد الحزب بمنظومات إيرانية متطورة، وتهريب السلاح النوعي إلى غزة، فضلاً عن دوره السابق في قيادة الوحدات الصاروخية.

 

ورغم محاولة العدو الرسمية النأي بنفسها عبر تسريبات ربطت الاغتيال بالملف السوري، إلا أن الإعلام العبري (مثل “يديعوت أحرونوت/ واي نت”) ظل مسكوناً بـ”طيف اللقيس” لسنوات لاحقة؛ حيث عاد اسمه للظهور مع كل حديث عن تطور سلاح المسيّرات أو حوادث الطيران الشراعي، في اعتراف ضمني متأخر بأن هذا الرجل هو من وضع اللبنات الأولى للتهديد الجوي الذي لا يزال يؤرق الاحتلال حتى اليوم.

 

 

ثانياً: “ويكيبيديا المقاومة”.. من الحلم إلى الواقع

 

 

وُلِدَ الشهيد في بعلبك، وعُرف منذ صغره بشغفه العميق بالتكنولوجيا. ومع التحاقه بالمقاومة عام 1982، وجد مكانه الطبيعي في الميدان التقني. بفضل قدرته الفائقة على التعلم الذاتي، لُقّب بين رفاقه بـ”ويكيبيديا التكنولوجيا العسكرية”، حيث برزت إنجازاته في:

 

 

  • تطوير سلاح الإشارة: بناء شبكات اتصال سلكية ولاسلكية معقدة.

 

  • الحرب الإلكترونية: حماية الشبكات من التنصت والإعاقة الصهيونية.

 

  • الهندسة العكسية: تحليل وتصميم أنظمة عسكرية حديثة ودمجها في البنية الدفاعية.

 

ثالثاً: مهندس السماء.. وكسر احتكار الجو

 

 

الإنجاز الأبرز في مسيرة اللقيس كان تأسيس الوحدة الجوية للمقاومة. بدأ بتجارب أولية أواخر الثمانينيات باستخدام أدوات بسيطة، ثم توسعت مشاريعه بمساعدة نخبة من المهندسين (كالشهيدين جميل سكاف وحسين أيوب). تحت قيادته، حققت المقاومة ما كان يُظن مستحيلاً:

 

 

  1. اختراق الأجواء الفلسطينية: وصول طائرات “مرصاد” و”أيوب” إلى عمق الكيان، وتصوير مواقع حساسة كمفاعل ديمونا.
  2. تجاوز الرادارات: تطوير تقنيات التخفي وتضليل الدفاعات الجوية.
  3. بنك الأهداف: توفير معلومات دقيقة ساهمت في تعزيز الردع.

 

لقد حوّل اللقيس المعادلة من “سماء يسيطر عليها العدو بالكامل” إلى ما أسماه “سماء مشتركة”، مؤسساً لمرحلة المسيرات الانقضاضية والاستطلاعية التي نشهد تأثيرها اليوم.

 

رابعاً: الرؤية الاستراتيجية وبناء الإنسان

 

 

لم يكتفِ اللقيس بالجانب التقني، بل كان صاحب رؤية شمولية للمعركة:

 

 

  • أشرف على تطوير دقة الصواريخ وتنوع مداها.

 

  • قاد عمليات ردّ نوعية، منها عملية الريحان (1994).

 

  • الاستثمار في العقول: عمل على تأهيل كوادر علمية شابة من الجامعات اللبنانية في الفيزياء والتحكم، مؤمناً بأنّ المواجهة مع الاحتلال هي “معركة معرفة” قبل أن تكون معركة نار.

 

خامساً: القائد الإنسان “خُذ حتّى ترضى”

 

 

خلف القائد العسكري الفذّ، كان هناك إنسانٌ في غاية التواضع والبساطة. يُعرف بابتسامته الهادئة، يطبخ لرفاقه ويشاركهم تفاصيل حياتهم. واجه اللقيس سلسلة من الإبتلاءات بصبر عجيب؛ فقدَ ابنه “علي الرضا” في حرب تموز، ثمّ ابنته “آية”، وتوفي والداه في فترة متقاربة.

 

كان يواجه كل تلك المصائب بعبارة خطّها على صورة عائلته: “خُذ حتى ترضى”. لم تكن سرّيّته مجرد إجراء أمني، بل جزءاً من شخصيته الزاهدة التي تعتبر الشهادة “باباً يفتحه الله لخاصة أوليائه”.

 

سادساً: الاغتيال.. خوفٌ من المستقبل لا انتقامٌ من الماضي

 

 

في 4 كانون الأول 2013، نفّذت وحدة من الموساد عملية مركبة في منطقة “السان تيريز”. لم يكن الاغتيال مجرد انتقامٍ لإنجازات الماضي، بل كان محاولة يائسة لقطع الطريق على المستقبل. كان العدو يدرك أن ما يخطط له اللقيس للأعوام القادمة سيعاظم من مأزق العدو الوجودي.

 

ورغم نجاح عملية الاغتيال جسدياً، إلّا أنّ الفشل الاستراتيجي ظهر لاحقاً؛ فالمسار الذي خطّه اللقيس لم يتوقف، بل ازداد تطوراً ودقة.

 

الخاتمة: رجلٌ لا تموت روحه

 

 

لا تُقاس سيرة الشهيد حسان اللقيس بما كُشف عنها، بل بما بقي خفياً في الميدان. الرجل الذي عاش مجهولاً واستشهد معروفاً، ترك خلفه إرثاً جعل سماء لبنان أكثر منعة، وسماء فلسطين أقلّ أمناً للعدو. اليوم، تحمله كل طائرة مسيّرة تحلّق فوق الجليل، وكل صاروخ دقيق يصيب هدفه.

 

إنّه العقل المبدع، والسرّ الذي لا يزال يُقلق العدو حتى بعد رحيله.

 

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص