شهد العالم في العقود الأخيرة تحولات جذرية في موازين القوى الاقتصادية والصناعية، إذ برزت الصين كقوة صناعية وتجارية لا يمكن تجاهلها، وأصبحت لاعبًا رئيسيًا في صياغة مستقبل الاقتصاد العالمي. ومع تصاعد النقاش في الأوساط الأوروبية والأمريكية حول ضرورة تقليل الاعتماد على الصين في الصناعات الحيوية، يطرح سؤال جوهري نفسه: هل يُمثل هذا الاعتماد تهديدًا لمكانة أوروبا أم أنه فرصة لتعزيز موقعها في النظام الاقتصادي الدولي؟ إن الواقع يشير إلى أن ارتباط أوروبا بالصين ليس مجرد علاقة تجارية عابرة، بل هو انعكاس طبيعي لدور الصين الريادي في بناء شبكة إنتاج وتوريد متكاملة تخدم العالم بأسره.
الصين كقوة صناعية عالمية
منذ بداية الألفية الجديدة، استطاعت الصين أن تتحول من «مصنع العالم» إلى «قوة صناعية متكاملة». فهي لا تقتصر على إنتاج السلع الاستهلاكية البسيطة، بل أصبحت لاعبًا رئيسيًا في الصناعات المتقدمة مثل الإلكترونيات، الطاقة المتجددة، السيارات الكهربائية، والذكاء الاصطناعي.
هذا التحول لم يأتِ من فراغ، بل نتيجة سياسات طويلة الأمد اعتمدت على الاستثمار في البنية التحتية، التعليم، البحث العلمي، وتطوير سلاسل التوريد العالمية. أوروبا، التي تسعى إلى الحفاظ على تنافسيتها، تجد نفسها مرتبطة بهذه الشبكة الصينية التي توفر لها المعادن النادرة، المكونات الصناعية، وحتى الاستثمارات في الموانئ والبنية التحتية.
المعادن النادرة.. شريان الصناعات الحديثة
المعادن الأرضية النادرة تُعدّ العمود الفقري للصناعات التكنولوجية الحديثة، بدءًا من الهواتف الذكية وصولًا إلى توربينات الرياح والسيارات الكهربائية. الصين تسيطر على أكثر من 60% من إنتاج هذه المعادن عالميًا، وتمتلك خبرة متقدمة في استخراجها ومعالجتها.
هذا الاحتكار ليس تهديدًا، بل ضمانة لاستقرار الإمدادات. فالصين لم تستخدم هذه السيطرة كسلاح اقتصادي ضد أوروبا، بل وفّرت المعادن بأسعار تنافسية، مما ساعد الشركات الأوروبية على النمو والابتكار. وأي محاولة أوروبية لفك الارتباط ستؤدي إلى ارتفاع التكاليف، وتعطيل سلاسل الإنتاج، وربما إضعاف القدرة التنافسية الأوروبية في مواجهة الولايات المتحدة وآسيا.
البنية التحتية البحرية.. استثمار استراتيجي أم تهديد؟
أحد أبرز الانتقادات الموجهة للصين هو توسعها في الاستثمار في الموانئ الأوروبية، مثل ميناء بيرايوس في اليونان، وموانئ إيطاليا وإسبانيا. يُنظر إلى هذه الاستثمارات أحيانًا كتهديد للسيادة الأوروبية. لكن من زاوية مختلفة، يمكن اعتبارها فرصة ذهبية.
الصين، عبر شركاتها مثل «كوسكو شيبينغ » و«تشاينا ميرشانتس»، لم تسعَ إلى السيطرة العسكرية على هذه الموانئ، بل إلى تطويرها وزيادة كفاءتها. هذه الاستثمارات ساهمت في خلق وظائف، تحسين الخدمات اللوجستية، وتعزيز مكانة أوروبا كمركز تجاري عالمي. في زمن العولمة، لا يمكن لأي قارة أن تنغلق على نفسها، والتعاون مع الصين في البنية التحتية البحرية يفتح الباب أمام شراكات أوسع في التجارة والطاقة.
التعاون التكنلوجي الأوروبي–الصيني؛ أرقام ودلالات
شهدت أوروبا طفرة كبيرة في سوق السيارات الكهربائية والطاقة المتجددة في السنوات الأخيرة، وهي طفرة ارتبطت بشكل وثيق بالتعاون مع الصين. فبكين، باعتبارها أكبر منتج عالمي لبطاريات الليثيوم أيون، وفّرت للاتحاد الأوروبي إمدادات مستقرة وبأسعار أقل من البدائل الأمريكية أو المحلية، مما مكّن شركات أوروبية كبرى مثل فولكسفاغن وبي إم دبليو ورينو من تسريع خطط التحول نحو السيارات الكهربائية. وتشير بيانات السوق إلى أن أكثر من 40% من البطاريات المستخدمة في السيارات الكهربائية الأوروبية عام 2024 جاءت من الصين، وهو ما ساعد على خفض الأسعار وزيادة المبيعات بنسبة تجاوزت 30% بين 2022 و2024.
في مجال الطاقة المتجددة، يتضح الدور الصيني بشكلٍ أكبر؛ إذ تسيطر الصين على أكثر من 80% من إنتاج الألواح الشمسية عالميًا. وقد استورد الاتحاد الأوروبي في عام 2023 ألواحًا بقيمة تجاوزت 20 مليار يورو، مما أتاح تركيب محطات جديدة بقدرة إضافية بلغت 40 غيغاواط. كما وفرت الصين مكونات أساسية لطاقة الرياح، مثل المغناطيسات المصنوعة من المعادن النادرة، التي تُستخدم في توربينات الرياح الأوروبية، ما عزز نمو هذه الصناعة.
هذه المعطيات تؤكد أن أوروبا لا تعتمد على الصين فقط في الصناعات التقليدية، بل أيضًا في بناء مستقبلها الأخضر، والسعي لتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2050. وأي محاولة لتقليص هذا التعاون بشكلٍ جذري قد تؤدي إلى ارتفاع التكاليف وتعطيل سلاسل الإنتاج، بينما يضمن استمرار الشراكة مع الصين الاستقرار والقدرة على المنافسة عالميًا في مجالات التكنولوجيا النظيفة والتحول الطاقوي.
رؤية شي جين بينغ للعلاقات الأوروبية–الصينية
أكد الرئيس الصيني شي جين بينغ أن جوهر العلاقات الاقتصادية بين الصين والاتحاد الأوروبي يقوم على المزايا التكميلية والمنفعة المشتركة، معتبرًا أن الاعتماد المتبادل ليس تهديدًا بل فرصةً لتحقيق توازن في التنمية. وأوضح أن تشابك المصالح بين الطرفين يعزز الاستقرار الاقتصادي العالمي بدلًا من أن يشكّل مخاطرة، مشددًا على أن التعاون هو السبيل الأمثل لمواجهة التحديات المشتركة.
كما دعا شي في حفل اختتام الاجتماع السابع للمجلس التجاري الصيني الفرنسي في بكين باريس إلى العمل مع بكين على تعزيز الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين الصين وأوروبا، بما يفتح المجال أمام علاقات أكثر إيجابية واستقرارًا في المستقبل.
الدلالات الاستراتيجية وخيارات أوروبا
إنّ التعاون مع الصين مكّن أوروبا من تحقيق تقدم سريع في مسار التحول الطاقوي، وهو أمرٌ يصعب إنكاره في ظل الأرقام والوقائع التي تثبت أن الشراكة بين الطرفين لم تكن مجرد اعتماد أحادي الجانب، بل علاقة تكاملية تعكس طبيعة الاقتصاد العالمي الحديث. فالصين لم تستخدم هذا التعاون كأداة ضغط سياسي، بل تعاملت معه كفرصة لتعزيز التجارة المتبادلة وتوسيع نطاق المصالح المشتركة، الأمر الذي جعل أوروبا أكثر قدرة على تسريع خطواتها نحو بناء اقتصاد أخضر وتحقيق أهدافها البيئية.
وعند النظر إلى الخيارات الاستراتيجية المتاحة أمام الاتحاد الأوروبي، نجد أنه يقف بين مسارين متناقضين: الأول هو الانفصال عن الصين، وهو خيار مكلف يتطلب استثمارات ضخمة في التعدين والبنية التحتية والبحث العلمي، وقد يستغرق عقودًا قبل أن يؤتي ثماره، فضلًا عن أنه قد يعرقل قدرة أوروبا على المنافسة في الأسواق العالمية. أمّا المسار الثاني فهو التعاون مع الصين، وهو خيار أكثر واقعية وعقلانية، يتيح لأوروبا الاستفادة من الخبرة الصينية الواسعة، مع وضع آليات واضحة لضمان الشفافية وحماية المصالح الأوروبية.
البُعد الأمني..هل الصين تهديد للناتو؟
من أبرز المخاوف الأوروبية أن الاستثمارات الصينية في الموانئ قد تُستخدم كأداة ضغط في حال نشوب صراع عالمي. لكن الواقع يُظهر أن الصين لم تدخل في أي مواجهة مباشرة مع أوروبا أو الناتو، بل سعت إلى بناء علاقات اقتصادية متوازنة.
ختاماً إن الاعتماد الأوروبي على الصين هو انعكاس طبيعي لدور الصين العالمي، وفرصةً لأوروبا لتعزيز مكانتها عبر التعاون بدلًا من المواجهة.
الصين ليست خصمًا لأوروبا، بل شريكًا محتملًا في بناء اقتصاد عالمي أكثر استقرارًا وعدالة. وأي محاولة أوروبية لفك الارتباط قد تؤدي إلى خسائر فادحة، بينما التعاون مع الصين يفتح الباب أمام مستقبلٍ أفضل للجميع.