أجمل ما في هذه الحياة الدنيا ارتكازها على شيء اسمه “الهدف”؛ يبعث روح الأمل في النفوس، ويدعو الى الحركة والعمل؛ على صعيد الفرد، وعلى صعيد الجماعة لتظهر النتائج حسب مستوى العمل وحجم الهدف المنشود بالعيش في حياة حرة كريمة.
بالمقابل؛ نلاحظ النقيض؛ الفوضى في الحياة، والعيش في اللامعلوم، او البعض يختار لنفسه سعادة في حياته يحصل عليها بالأقساط! من خلال مفهوم “عيش اللحظة”، او عِش يومك، ولا تتعب نفسك بالتخطيط والبرمجة و رسم المستقبل الجميل لئلا تصطدم بالفشل! فيما البعض الآخر ينتظر حمامة الحظ السعيد تحطّ على كتفه ليحصل على التعيين الحكومي (الوظيفة)، ثم ليضمن حاضره ومستقبله بالراتب الشهري الحكومي المضمون، وفيما بعد “التقاعد”، أو في ضربة حظ، ترتفع قيمة العملة الصعبة او الذهب ليبيع ما عنده ويجني أرباحها.
هنا يأتي نُبل الهدف، وصفاء الرؤية المستقبلية المنبعثة من الفطرة السليمة لتحسم الأمر داعية الانسان لاختيار الأسمى من الاهداف في الحياة بما يضمن مصلحة الفرد في تحقيقه آماله وتطلعاته، وبما يضمن مصلحة المجتمع عندما يشمله محاسن السمو بخلاف مساوئ الانحطاط في أهداف من نوع آخر، وهو ما نلاحظه جلياً في الطبقة السياسية في الدولة، والطبقة الثرية في السوق، البعض منهم؛ طبعاً، وليس كلهم.
البداية تحدد النهاية: الغايات النبيلة
كما هو البناء ، اذا كان الأساس سليماً وفق المواصفات العلمية، يحصل الاطمئنان بسلامة البناء المشيّد عليه مهما علا، فاذا كانت بداية مسيرة الزواج، او مسيرة طلب العلم، او مشروع التجارة، سليمة، فان النهاية المتمثلة بتحقيق الهدف، تكون سليمة بالضرورة، والعكس بالعكس عندما لا تتحدد لهذا الهدف غاية نبيلة فتكون الرؤية غير متكاملة، لأن الهدف لوحده لا يحقق شيئاً، وهي مسألة منطقية، فمن يركب الطائرة لزيارة بلد ما، ويصل الى مقصده فانه بلغ هدفه من الرحلة، وعند وصوله المطار عليه تحديد السبب الذي من أجله جاء الى هذا البلد او المدينة، بل ويفترض ان تتحدد الغاية مسبقاً، وإلا كانت رحلته عبثاً .
هذه الرؤية الخاصة للهدفية في الحياة تجعلها مفيدة للجميع، ولن تلحق الضرر بأحد، بخلاف الغايات غير النبيلة فانها تسبب الدمار والموت والضياع، والأمثلة لا تُعد نعيشها جميعاً في بلداننا المأزومة سياسيا واقتصاديا وأمنيا، فمن الجدير بنا كأفراد في المجتمع أخذ العبرة من أصحاب القوة والاقتدار في مآلات مشاريعهم الجهنمية، وكيف أنهم ساقوا البلاد والعباد للويلات من اجل تحقيق غايات خاصة بهم، وفي نفس الوقت الوقوف عند حقيقتين –من جملة حقائق- حول ضرورة توخي الحذر من التوجه نحو غايات من هذا القبيل:
الحقيقة الأولى: أن الغايات غير النبيلة تدفع بصاحبها بقوة نحو تبرير الوسيلة، لأن الوصول هو المهم مهما كلف الأمر، بينما نلاحظ من يرسمون اهدافاً بغايات نبيلة، و وسائل مشروعة ربما يواجهون عقبات كأداء في الطريق، فيتعاملون معها بما يرضي الله، ويرضي ضمائرهم، أو الاضطرار للترجّل من المسيرة، او اختيار مشروع آخر.
الحقيقة الثانية: غالباً ما تصنع الغايات غير النبيلة، ما يشبه الاهداف، هي أقرب الى الأحلام والأمنيات منها الى تطلعات الناس في توفير العيش الكريم في ظل اقتصاد مشرّف، ونظام حكم عادل بنسبة مقبولة، وهذا ديدن الساسة في الحملات الانتخابية لحاجتهم الملحّة لأصوات الناخبين، فهم يطلقون الوعود الانتخابية الرنانة مثل؛ مكافحة الفساد، وتحكيم معيار الكفاءة في اختيار الوزراء والمدراء، وأن يكون البلد مثل العراق، ذو سيادة على أمواله وقراراته، ويتحول الى بقعة من الجنان! وكل هذا وأمثاله، لا يتوافق مع الواقع السياسي والاقتصادي الذي يعيشه العراق في ظل تقاطع المصالح الاقليمية والدولية، بل ولا مع الغاية من إقامة النظام الديمقراطي في هذا البلد اساساً على يد الولايات المتحدة الاميركية!
النوايا: مصنع الأهداف والغايات
في سلسلة الاجراءات اللازم اتخاذها لتحقيق ما يريده الانسان في حياته، وبعد تحديد الهدف، ثم الغاية، نصل الى الحلقة الاخيرة الموصلة بين البداية والنهاية، وهي؛ النيّة من الوصول الى الهدف، والنيّة من تحقيق الغاية.
فالطالب يدرس ويتطلع الى النجاح بدرجات عالية لتحقيق هدفه بالوصول الى الجامعة في الكلية المرموقة المترسخة في قلبه ونفسه، ثم تحقيق غايته من الدراسة الجامعية بأن يكون شخصية مرموقة في المجتمع، كأن يكون طبيباً، او مهندساً، او رجل قانون، أو عالماً في الاقتصاد او الاجتماع، وما الى هذا من اختصاصات علمية، وحتى في المجالات الانسانية؛ كأن يكون عالم دين متبحّر، او خطيب مفوّه، او كاتب نحرير، او فنان مبدع، كل هذه العناوين تمثل لافتات عالية ترفرف في النفس، بيد أن نداءً كامناً يسأل عن طريقة تعامله مع هذه الغاية القصوى؟ وكيف سيتصرف مع الناس خلال تعامله معهم ضمن اختصاصه؟
هذه الاسئلة وأمثالها تحددها النيّة في نفس صاحبها، ومع أنه مفهوم ديني، فهو مطلب عقلي ومنطقي لابد منه لتحديد هوية العمل في الواقع الخارجي، وما اذا كان لخدمة المجتمع –مثلاً- أم لخدمة ذات الشخص نفسه، واحياناً تتوسع دائرة الخدمة الى أطراف خارجية غير مرئية في دهاليز السياسة والاقتصاد، وما أكثرها هذه الايام، ولعل هذا يكون السبب في إخفاء البعض للدوافع الحقيقية لأعماله خلال مسيرته التعليمية، او في مسيرته التجارية، وحتى في مسيرته السياسية متمثلة في خوض الانتخابات، او تقديم نفسه كمرشح لمناصب ادارية في مؤسسات الدولة.
بينما نجد الدين في منظومته الاخلاقية يسلط الضوء على النيّة أكثر من تحديد الهدف او الغاية، كونها ترتبط بشخص الانسان، وحاجته للتهذيب والتقويم ليضمن عدم انزلاقه في المهاوي او المتاهات بدعوى الحصول على مكاسب أو امتيازات، و أرى هذا من مصلحة الانسان الطامح الى النجاح الحقيقي في حياته، وليس الادعاء العاطفي على طرف اللسان، ففي القرآن الكريم إشارات عديدة على تأكيد السماء بضرورة تنقية النوايا في السرائر قبل العمل او اتخاذ أي قرار حتى لا تذهب الجهود والتضحيات سدى، وهو التحذير الذي جاء في غير آية كريمة تخاطب المؤمنين، منها: {أَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}، هذه الآية في سورة الرعد تخاطب المؤمنين في المدينة ممن كانوا يعيشون مع النبي الأكرم، يرونه ويسمعون كلامه، ولكنهم في حسابات السماء كمن لا إيمان له.
من أجل هذا يدعو القرآن الكريم الى اختبار الصدق في النوايا بين المؤمنين، كما في الآيات الكريمة في سورة الاحزاب التي تتحدث عن أيام الجهاد في عهد رسول الله، صلى الله عليه، وتحديداً الآية الكريمة التي تتحدث الرجال الصادقين ممن استرخص روحه في سبيل الله، وطالما نتلوها في المجالس والمحافل مستذكرين الشهداء: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}، فالصدق جاء هنا مقروناً بالتبديل في مرحلة ما بعد الجهاد، او انتهاء المعركة، او تحقيق الغاية النهائية، كأن تكون الاطاحة بالديكتاتورية والحاكم الظالم، فأن يكون الانسان مؤمناً بقضيته العادلة، ومُجداً في عمله، وواضحاً في غايته، لا يكفي في تحقيق الاهداف النبيلة والسامية اذا مال بنظره الى من حوله متسائلاً عما حصلوا عليه من مكاسب فيما هو يضحي ويبذل الجهود والدماء، فهو يخاطب نفسه، بأن اذا كان الآخرون يتاجرون بدمائنا وجهودنا، فما الفائدة من العمل في سبيل الله؟!
إن من لم يفكر بهذه الطريقة، وعزم النيّة على العمل لله –تعالى- وحده لا لغيره، هو الذي أسهم في بقاء التراث الشيعي الثرّ من الاندثار طيلة القرون الماضية رغم قساوة الظروف، وله الفضل اليوم في بقاء بعض مظاهر التديّن في الواقع الاجتماعي، ومسحة من الثقافة الاسلامية في الشارع مع وجود الكم الهائل من الاعمال والمساعي من أطراف ذات امكانات هائلة لخلق واقع اجتماعي بعيد عن القيم الاخلاقية والدينية طيلة عقود طويلة من الزمن.
وحتى سياق الخطاب القرآني حول التحقق من النوايا، تبين الآية الكريمة التالية الوعد الإلهي بأن {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً}، فمن يكون صادقاً في نواياه هو الذي يفلح في النهاية، ويتخلّد، هو وأعماله، فيما يتساقط اصحاب المظاهر الخادعة والمظللة مهما كانوا وبلغوا.