حين تتحول الحركة إلى تيه في وضح النهار

يبدو أن أمتنا اليوم تسير بخطى حثيثة في كل مجالات الحياة: مدارس وجامعات، مؤتمرات ومراكز بحث، مدنٌ تمتدّ في العمران، وشبكات تملأ الفضاء بالضجيج. ومع ذلك، يتملكها شعورٌ غامض بالتيه؛ كأنّ الحركة أخذت مكان الوعي، والسرعة صارت بديلًا عن الاتجاه. نسير بأقدامنا في مسيرة التاريخ، لكننا لا نتمعن بقلوبنا في معنى هذا التقدم، ونبني الأبراج شاهقة، بينما تتشقق وتتدهور القِيم التي كان من المفترض أن تحملها هذه الأبراج.

يبدو أن أمتنا اليوم تسير بخطى حثيثة في كل مجالات الحياة: مدارس وجامعات، مؤتمرات ومراكز بحث، مدنٌ تمتدّ في العمران، وشبكات تملأ الفضاء بالضجيج. ومع ذلك، يتملكها شعورٌ غامض بالتيه؛ كأنّ الحركة أخذت مكان الوعي، والسرعة صارت بديلًا عن الاتجاه.

 

نسير بأقدامنا في مسيرة التاريخ، لكننا لا نتمعن بقلوبنا في معنى هذا التقدم، ونبني الأبراج شاهقة، بينما تتشقق وتتدهور القِيم التي كان من المفترض أن تحملها هذه الأبراج.

 

يشبه حالنا ما فعله معلّمٌ دخل صفّه ذات صباحٍ وسأل تلاميذه: “من يعرف ما معنى كلمة بصيرة؟” تسابقت الأيدي وارتفعت الأصوات بالتعريفات المحفوظة، فابتسم المعلّم وأطفأ الضوء قائلًا: “والآن، من يستطيع أن يسير خطوةً واحدة؟

 

ساد الصمت، ثم قال: “هكذا تكون الأمم حين تحفظ المعاني… وتفقد النور الذي يهديها.”

 

ذلك المشهد يُلخّص واقعًا نعيشه اليوم؛ أمة تعرف المعاني، لكنها تمشي في الظلام. وهنا يكتسب النداء القرآني بعده الخالد: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ.

 

إنها دعوة للسير بوعي وإدراك، وإلى أن نقرأ الطريق قبل أن نقطع المسافة. فالسير بلا نظرٍ يُفضي إلى العمى في وضح النهار، والنظر بلا بصيرةٍ يُنتج الغرور الذي يجعل الإنسان يرى كل شيء إلا نفسه.

 

كيف يمكن لأمةٍ تسير في كل دروب الحياة أن تفقد قدرتها على أن ترى طريقها؟

 

نعيش في عالمٍ من الحركة الدائمة: إنتاجٌ واستهلاك، إصلاحاتٌ متتابعة، وضجيجٌ إعلامي لا يهدأ حول “التقدّم”، لكن قلّما نسأل: إلى أين نسير؟ إنها مأساة السير بلا بوصلة، وإعادة إنتاج الأخطاء نفسها في أثوابٍ جديدة.

 

تأمل مثلًا مدينةً عربيةً حديثةً تتلألأ بالأبراج الزجاجية، وتفيض شوارعها بالحركة ليلًا ونهارًا. كل شيء فيها يوحي بالنجاح: مؤتمراتٌ عن التحوّل الرقمي، جامعاتٌ جديدة، مشاريع إسكانية، وأسواقٌ لا تنام.

 

لكن حين تقترب قليلًا، ترى أن هذه الحركة تخلو من الهدف الجامع والغاية الواضحة:

 

المدارس تخرج موظفين لا مفكرين.

 

الإعلام يحتفي بالمظهر والشكل لا بالقيمة والجوهر.

 

تتبدل القرارات بتغير المزاج لا بثبات الرؤية.

 

الناس يعملون أكثر، لكن لا يعرفون بوضوح فيمَ يعملون.

 

والنتيجة هي: يتراكم المال لكن الطمأنينة تتناقص، وتزداد الأبراج بينما يتناقص الإيمان بالعدالة، وتتسع الطرق ويضيق الأفق المعنوي. هذه هي صورة السير بلا بوصلة: حركة مبهرة من الخارج، فارغة من الداخل.

 

أما لو كان هذا السير محكومًا ببصيرةٍ ترى الغاية قبل الوسيلة، لكانت الصورة مختلفة تمامًا.

 

المشاريع تُقاس بغايتها قبل شكلها أو حجمها.

 

الاقتصاد يُدار لبناء الإنسان وتنمية قدرته على العطاء، لا لمراكمة الأرباح فقط.

 

المدرسة تفتح نوافذ الفهم بدل أن تكتفي بملء الذاكرة بالمعلومات.

 

الإعلام يغرس ثقافة المساءلة والمشاركة، بدل الاكتفاء بتسويق الإنجازات.

 

عندها، تتحول المدينة من مجرد بناء معماري مدهش إلى حضارة إنسانية متوازنة، ويكون السير خطوة نحو النهضة الحقيقية، وليس دورانًا في حلقة مفرغة من العادات.

 

فالفرق بين السير بلا بوصلة والسير ببصيرة، كالفرق بين من يبني برجًا يلمع في السماء، ومن يبني إنسانًا يرى بنور العقل وحراسة الضمير؛ الأول يقيم صروحا من الأحجار ويسقط في المعنى، وقد ضرب القرآن أمثالا لهذا النسق من التقدم بقوم كانوا ينحتون الجبال بيوتا أو أولئك الذين جابوا الصخر بالواد، أما الثاني فينهض بالمعنى ويتجه لإنجازات حضارية نوعية تخدم الإنسان.

 

السير في القرآن: حركة تقود إلى الوعي

 

السير في القرآن لا يعني حركةً في المكان فحسب، بل عبورًا في الزمن والمعنى. فالأمر الإلهي: ﴿سِيرُوا فِي الْأَرْضِ موجَّهٌ للعقل قبل أن يكون موجَّهًا للجسد؛ لأن النظر لا يُثمر إلا بعد السير في التجربة. ولهذا جاء الربط المحكم بين الفعلين: السير ثم النظر ﴿سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا إذ يُصبح الأول ميدانًا للاحتكاك بالحياة، ويأتي الثاني بوصفه لحظة الفهم التي تكشف حكمة التجربة.

 

ولعلّ تقديم السير على النظر يحمل رسالة دقيقة: الحركة وحدها ليست كافية، والإنجاز بلا وعي ليس نهضة. فـ”انظروا” هنا ليست مجرد نظرٍ بالبصر، وإنما دعوة للتأمل وأخذ العبرة وقراءة السنن بعد الاحتكاك بالواقع؛ و “ثم” التي تفصل بين الفعلين تفيد التراخي الذي يُشعر بأن النضج الفكري لا يأتي مع الخطوة الأولى، بل بعد مسيرةٍ من التجربة والتقويم.

 

ومن هنا يتضح الفرق الجوهري بين أمةٍ تتحرك لأنها مجبرة على الحركة، وأمةٍ تسير لأنها تبصر غايتها. الأولى تركض وراء الحاجات اليومية، والثانية تمشي نحو المقاصد الكبرى. وبين الركض نحو الضرورة والسير نحو الهداية مسافة تشكّل الفرق بين حضارة تعبُر العالم بجسدها، وأمة تعبُر التاريخ ببصيرتها.

 

نشيّد الجامعات ونخرّج آلاف الطلاب، لكن دون مشاريع فكرية كبرى أو رؤيةٍ للمعرفة. نحسب العدد سيرًا، ولا نرى أن النظر وحده هو الذي يحوّل الكمّ إلى نقلةٍ في الوعي. توسّعت مدننا عمرانًا، ولكن كم مدينةٍ في عالمنا العربي تجسّد معنى العدالة أو الكرامة أو الحياة المشتركة؟ لقد تحوّلت الحركة المكانية إلى حراكٍ مادّيٍ بلا رؤيةٍ حضارية، فاستمر السير، لكن الطريق غاب.

 

ولأن السير بلا نظر يفضي إلى التيه، جاء الوحي ليكشف أن العطب لا يصيب القدمين بقدر ما يصيب البصائر

 

قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46].

 

ذلك أن العمى الأخطر ليس في العين، وإنما في مركز الوعي ذاته؛ عمى يجعل الإنسان:

 

يرى التفاصيل ويغيب عنه الجوهر.

 

يُحصي الإنجازات ولا يدرك اتجاهها.

 

يُحدِث ضجيجًا في الواقع، بينما يظلّ وعيه عاجزًا عن مواجهة الحقيقة.

 

في تاريخنا، (مثل ماذا؟ نموذج أو نموذجين لتقوية الفكرة) كان العمى يأخذ صورًا شتى: انبهارٌ بالآخر حتى الذوبان فيه، تكرارٌ لأخطاء الماضي وكأنها قدر، ورفعُ الشعارات الدينية دون روحها الأخلاقية. وفي كل مرةٍ فقدنا فيها النظر إلى السنن، كنا نعيد ذات الدائرة: نتحرك كثيرًا، ونصل إلى النقطة نفسها.

 

من التيه إلى وعي السنن

 

التيه ليس في فقدان الطريق، إنما في فقدان البصيرة التي تدلّ عليه. نسرع في تحديث الشكل ونُهمل المضمون، نلهث وراء مؤشراتٍ رقمية وننسى الإنسان الذي تُقاس به النهضة. بلدانٌ عربية كاملة بنت مدنًا ذكية وأنظمة رقمية، لكنها فشلت في بناء ثقافة المسؤولية والشفافية؛ سيرٌ ماديّ بلا نظرٍ أخلاقي. فما جدوى الأبراج العالية إن كانت تُظلّل فقر العدالة؟ وما نفع التكنولوجيا إن غابت عنها الرحمة؟

 

وحين يُطفأ النور من الداخل، لا ينفع اتساع الطرق في الخارج. قال ابن خلدون: “من لم يعتبر بأحوال من قبله، عُوقب بأن يُعتبر به من بعده.” وهنا جوهر المأساة: أن نصبح عبرةً للتاريخ بدل أن نكون قارئين له.

 

إن “ثم انظروا” ليست تأملًا ساكنًا، وإنما منهج قراءةٍ للعالم والتاريخ. النظر يأتي بعد السير؛ أي بعد التجربة والخبرة. أمر الله أقوامًا بالسير ثم النظر ليعلّمنا أن التجربة وحدها لا تكفي، فلا بد أن ينهض العقل ليدرك نتائجها ويستخلص سننها.

الأمم لا تسقط فجأة، وإنما تنهار حين تتغافل عن القوانين التي تحكم النهوض والانهيار..

 

النظر في “عاقبة المكذّبين” ليس فرجةً على الخراب، وإنما تذكيرٌ بأن كل ظلمٍ يحمل بذرة سقوطه، وأن العدالة شرطُ بقاءٍ قبل أن تكون خيارًا أخلاقيًا.

 

إعادة تشغيل البصيرة

 

ولأن البصيرة لا تُستعاد إلا بإصلاح أدوات الوعي، فإن الطريق إلى النهضة يبدأ من المدرسة والمنبر والإعلام والعقل الجمعي:

 

في التعليم، يجب أن نُعلّم أبناءنا كيف يفكرون لا ماذا يحفظون؛ أن يتعلموا السؤال قبل الجواب، والفهم قبل التكرار.

 

في الإعلام، نحتاج إلى منصاتٍ تحلل وتفسّر وتحاور، لا تكتفي بالبيانات العاجلة والسطحية.

 

أما المنبر الديني، فينبغي أن يستعيد دوره في إيقاظ العقول وبثّ الرحمة، وتربية الوعي.

 

المجتمع المدني لا بد أن يتحوّل إلى مساحةٍ للمساءلة لا للتبرير، وللمشاركة لا للتصفيق.

 

لقد أثبتت تجارب التعليم الحديثة أن زرع “التفكير النقدي” في المدارس والجامعات يصنع تحولًا حقيقيًا في وعي الأجيال. حين يتعلم الطالب أن يتحقق من المعلومة قبل أن يشاركها، وأن ينظر في العواقب قبل أن يحكم، يبدأ “النظر” في استعادة مكانه الطبيعي في الوعي العام.

 

فكل إصلاحٍ لا يبدأ من تربية البصيرة سيظلّ أسيرَ ردّ الفعل لا أفق الوعي؛ فالنظر في القرآن ليس تأمّلًا ساكنًا، بل حركةً دائمة تصل الفهم بالفعل وتربط الوعي بالمسؤولية. والأمّة التي تبصر وجهها لا تكتفي بقراءة ماضيها، بل تشيّد مستقبلها على ضوء هذه البصيرة.

 

السير الحقيقي هو أن تمشي في طريق الله دون أن تنفصل عن وعيك؛ أن ترى في كل خطوة اختبارًا لصدقك في حمل أمانة الإنسان والخلافة. فما أخطر أن ترى الطريق ولا ترى معناك فيه؛ أن تتحرك في العالم بينما يغيب عنك سبب وجودك فيه.

 

فالمشكلة ليست في أن الغرب نظر، بل في أنه فقد المعنى بعد النظر، وليست في أننا نؤمن بالمعنى، وإنما في أننا كففنا عن النظر إليه في الواقع.

 

وعند نقطة اللقاء بين المعنى والنظر، يبدأ طريق النهضة الحقيقي.

 

فلنجعل النداء الخالد:

 

﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا

 

مشروعًا لإحياء البصائر قبل الأبصار رحلةً في سنن الله والتاريخ والإنسان،

 

حيث لا تكون الخطى غايةً، وإنما سبيلًا إلى الفهم، “ولا تكون النهضة شعارًا، بل بصيرةً تُبصر النور في نهاية الطريق”.

 

المصدر: وكالات