عندما يحدّق الطفل الرضيع في وجه أمه أو يتتبع الضوء المتسلل عبر النافذة، فإنه لا يكتفي بالمشاهدة ولا يمارس عبثًا بصريا كما يظنّ الكثيرون، ولكن في الواقع هو يقوم بأول فعل تعلُّم في حياته. منذ لحظة الميلاد، يبدأ الإنسان في إنشاء علاقة بين ذاته والعالم، علاقة تمرّ عبر الحواس، فكل ملمس جديد وكل صوتٍ وكل رائحةٍ تشكّل حدثًا عقليًّا صغيرًا في دماغٍ يتكوّن بسرعةٍ مذهلة.
في العامين الأولين، يعيش الطفل ما يمكن تسميته بـ«الدهشة الأولى»، تلك اللحظة التي يستيقظ فيها العقل على الوجود. كل صوتٍ جديد وكل لونٍ يتحرك أمام عينيه يبدو اكتشافًا خالصًا، وكل إحساسٍ هو محاولة أولى لالتقاط معنى الحياة. أكثر ما يحتاجه في هذه المرحلة ليس التعليم ولا التلقين، بل الأمان؛ أن يشعر أن العالم يمكن لمسه دون خوف، وأن المجهول لا يؤذي لأن إدراكه ما يزال يتكوّن من خلال الحواس لا الكلمات.
ابتسامة الأم لرضيعها هي صورة بصرية تعكس بعدًا عاطفيًا يربط بين دفء وجهها وصوتها ورائحة الأمان التي تعوّدها. عندها تتكوّن في دماغه روابط عصبية تُعبّر عن الشعور بالطمأنينة وصوت الإنسان والاقتراب من الآخرين، أي أن هذه الابتسامة تساهم في بناء معنى الثقة في حياة هذا الطفل. وكذلك حين يسمع أغنية ناعمة بينما يُحمل أو يُداعَب فهو يتعلّم أن التواصل يبعث طمأنينة، وأن اللحن يترجم العاطفة.
بهذه التجارب الصغيرة تبدأ جسور العلاقة بين العاطفة والعقل: فالإحساس المادي بالحنان يُترجم ببطءٍ في دماغه إلى فكرةٍ غير لغوية تقول «أنا في أمان، إذن العالم يمكن فهمه». هكذا يتعلّم الطفل، بطريقة لا وعيَ فيها بعد، بمعنى أن الفهم يبدأ من التجربة الحسية والعاطفية التي تمنحه الثقة بالآخر وبالوجود ذاته.
غير أن الدهشة الواحدة لا تتكرّر عند كل الأطفال بالطريقة نفسها؛ فهناك من يواجه الجديد بحماسٍ وضحكٍ فوري، وآخر يتريّث ويحتاج إلى لحظةٍ من المراقبة قبل الاقتراب، وثالث قد يرتبك لدى أي صوتٍ مرتفع أو ضوءٍ مباغت. هذه الفروق هي ما تحدّثت عنه دراسات العالِمَين ستيلا تشيس وألكسندر توماس في منتصف القرن الماضي، حين كشفا أن الأطفال يختلفون منذ البدايات في الطريقة التي يستقبلون بها العالم. ذلك الاختلاف يُعتبر سمة فطرية أسمياها المزاج، وهو الإيقاع الداخلي الذي يلوّن استجابة الطفل لكل مثيرٍ خارجي.
وقد وجدا أن هناك ثلاثة أنماط أساسية من الأمزجة:
الطفل السهل: عادةً ما يتفاعل ببشاشةٍ وثقة مع الأشخاص والمثيرات الجديدة، نومه وانتظامه متزنان، ويُظهر فضولًا يسهُل ملاحظته في كل ما يحيط به.
الطفل الصعب أو الحساس: ذو حساسيةٍ عالية وانفعالٍ سريع، قد يُزعجه التغيير المفاجئ في الأصوات أو الإضاءة أو الروتين اليومي، فيحتاج إلى احتواءٍ وصبرٍ أكثر من غيره.
الطفل البطيء في التقبّل: يتّسم بهدوء المراقبة، يميل إلى التمهّل في التفاعل قبل الدخول في أي تجربة، يحتاج إلى وقتٍ أطول ليألف الأشخاص أو الأماكن الجديدة.
هذه الأنماط هي مفاتيح لفهم الطريقة التي يرى بها الطفل العالم وكيف يشكّل وعيه المبكر بالوجود. فالدهشة في جوهرها لا تأتي من الخارج فحسب، هي تعبُر من خلال هذا المزاج الداخلي؛ فالضوء نفسه قد يبدو لطفلٍ ما بابًا للّعب ولآخر بابًا للانزعاج، والهدوء الذي يُريح أحدهم قد يبعث على الملل في آخر. حين نفهم هذه الفروق ندرك أن مرافقة الطفل في دهشته الأولى تحتاج إلى بعض الإصغاء والتقبل وإعطاء الطفل مساحته في تطوره ونموه.
الطفل السهل، على سبيل المثال، يمكن دعم فضوله بتنوّع الخبرات والألوان والأصوات المختلفة، فذلك يغذّي دماغه ويُبقي دهشته حيّة دون أن ترهقه. أما الطفل الحساس فيحتاج إلى إيقاعٍ أبطأ وبيئةٍ يمكن التنبؤ بها، فالروتين الواضح يمنحه أمانًا يمهّد الطريق أمام إدراكه المتوازن، وكلما اطمأنّ زاد انفتاحه على الاكتشاف. وأما الطفل البطيء في التقبّل فينبغي احترام زمنه الخاص، فالتسرع في دفعه للتفاعل قد يطفئ رغبته في المشاركة، بينما الصبر والاقتراب الهادئ يجعلان الدهشة لديه أعمق وأكثر رسوخًا. كما أن كلّ إشراكٍ حسيٍّ ناجح بين الوالدين والطفل يصبح رسالة غير لفظية تقول له: «العالم جميلٌ لأن تكتشفه بطريقتك الخاصة».
حين يفرط بعض الآباء والأمهات في إغراق أطفالهم بالمثيرات أو يقارنون خطواتهم الأولى بغيرهم، يتحوّل اكتشاف العالم، الذي يفترض أن يكون تجربة فرحٍ وفضول، إلى مصدر قلقٍ خفي، وكأن الدهشة امتحانٌ يجب اجتيازه. غير أن هذه الدهشة هي اللغة الأولى التي يتحدث بها العقل؛ فالطفل يتعلّم العالم من خلال المفاجأة الآمنة.
إنّ التربية في هذه السنوات المبكرة قد تُشعر الوالدين بأنها سباق لتعليم النطق أو العدّ أو حمل الألعاب بطريقة صحيحة، ولكن في الحقيقة الأولى لها أن تكون صحبة هادئة لوعيٍ يتفتح ببطء؛ أي أن يكون المربي حاضرًا يدعم تجارب الطفل الطبيعية دون أن يوجّهها دائمًا. فعندما يحاول الطفل مثلًا إسقاط الملعقة من يده مرارًا أو لمس شيء معين مرارًا أو وضع بعض الألعاب في فمه، فهو يتدرّب على فهم العلاقة بين الحركة والنتيجة، والوالدان بصبرهما يتيحان له أن يتعلّم بطريقته الخاصة.
وما نراه نحن تفاصيل يومية عابرة : إشراقة الصباح، تناغم الأصوات، ملمس اليد، ابتسامة الوجه، هو بالنسبة إليه بدايات الكون نفسه، بدءُ علاقته بالحياة. وحين نصون صفاء هذه البيئة البسيطة ونحميها من الضجيج والتسرع، فإننا نمدّ طفولته بنبعٍ مستمرّ من التعلم والرغبة في الفهم. فكل طفل يولد مزوّدًا بشرارةٍ طبيعية من الدهشة، هي التي تفتح أبواب العقل نحو الأسئلة والإبداع، وتغذي في داخله القدرة على الدهشة مدى الحياة.
وحين يدرك الأهل أن هذه الدهشة تمرّ عبر طبيعة مزاج طفلهم، يصبح الروتين اليومي ذاته زمنًا يتعلم فيه العالم بثقة: نظرة، لمسة، كلمة، كلها دروس صغيرة في الاطمئنان. لذلك، فلنترك له الحق في إيقاعه المتفرد، لا نسابقه نحو النضج ولا نفرض عليه ألواننا؛ فالعقل لا يُقاس بالسرعة أو بالكمّ، بل بما يحتفظ به من حبٍّ وفضولٍ تجاه الحياة.