ترامب يُربك المشهد الدولي..

دعوة لانتخابات رئاسية أوكرانية ورؤية لتقليص الدور الأميركي 

تصريحات ترامب تعكس رؤية سياسية لإعادة صياغة النظام الدولي عبر تقليص الدور الأميركي وإعادة تعريف التحالفات، لكنها تنطوي على مخاطر محتملة مثل إضعاف أوكرانيا، تقويض الثقة الأوروبية، وإرباك النظام العالمي 

في خضمّ الحرب المستمرة بين روسيا وأوكرانيا، وما تُخلّفه من تداعيات جيوسياسية واقتصادية وأمنية على أوروبا والعالم، تبرز تصريحات دونالد ترامب كعامل مثير للجدل ومُحرّك للنقاش السياسي الدولي. حين يقول ترامب إنّه «حان الوقت لإجراء انتخابات رئاسية جديدة في أوكرانيا»، فهو بذلك لا يطلق مجرد رأي عابر، بل يُقدّم رؤية سياسية ترتبط بموقفه من الحرب، من دور الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ومن طبيعة العلاقة بين الولايات المتحدة وأوروبا وحلف شمال الأطلسي (الناتو). هذه التصريحات تأتي في سياق أوسع من انتقاداته المتكررة للقيادة الأوروبية، وللسياسات الأميركية السابقة في دعم كييف، ولما يراه «فشلاً» في إدارة الأزمة.

 

الانتخابات كمدخل لإعادة صياغة الشرعية

 

تصريحات ترامب تفتح الباب أمام نقاشٍ جوهري حول أزمة الشرعية في أوكرانيا زمن الحرب. فمنذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في شباط/فبراير 2022، تعيش كييف حالة استثنائية من التعبئة، حيث جرى تعليق الانتخابات بذريعة الظروف الأمنية. زيلينسكي، الذي انتُخب عام 2019، يواصل الحكم بلا تجديدٍ شعبي، مستنداً إلى دعمٍ خارجي من الغرب أكثر من اعتماده على الإرادة الداخلية.

 

ترامب يشير إلى أنّ غياب الانتخابات يضعف شرعية القيادة الأوكرانية، ويكشف التناقض بين الخطاب الديمقراطي والواقع الميداني. هذا الطرح ينسجم مع رؤية تعتبر أنّ استمرار الحرب بلا تفويض شعبي حقيقي يفتح الباب أمام تسوية سياسية، ويُضعف قدرة زيلينسكي على الادعاء بتمثيل الشعب الأوكراني. في المقابل، فإنّ الدعوات الغربية لتأجيل الانتخابات تُقرأ كوسيلة لإطالة أمد الصراع، لا كحرص على الديمقراطية. وهكذا يظهر التباين بين منطق «الحسم عبر التفاوض» الذي يضغط باتجاهه ترامب، وبين منطق «إطالة الحرب» الذي يتبناه زيلينسكي وحلفاؤه الأوروبيون، وهو ما يعزز سردية موسكو بأنّ الغرب يستخدم أوكرانيا أداةً لإضعاف روسيا لا أكثر.

 

التمويل الأميركي.. بين «الحماقة» ووقف الدعم

 

أحد أبرز محاور تصريحات ترامب هو انتقاده للتمويل الأميركي لأوكرانيا، حيث وصف منح إدارة بايدن 350 مليار دولار لكييف بأنه «حماقة بالغة»، وأعلن أنّ الولايات المتحدة توقفت عن تقديم الأموال. هذا الموقف يعكس رؤية اقتصادية وسياسية تسعى إلى تقليص الانخراط الأميركي في الحرب، وتحميل أوروبا العبء الأكبر.

 

من منظور ترامب، الدعم المالي الضخم لم يحقق نتائج ملموسة في إنهاء الحرب، بل أطال أمدها وأرهق الاقتصاد الأميركي. في المقابل، يرى خصومه أنّ هذا الدعم كان ضرورياً لمنع انهيار أوكرانيا، ولحماية الأمن الأوروبي، ولردع روسيا. هنا يظهر التباين بين منطق «الاستثمار في الردع» ومنطق «تجنّب الاستنزاف». تصريحات ترامب تسعى إلى إعادة تعريف أولويات السياسة الأميركية: التركيز على الداخل، تقليص الإنفاق الخارجي، وفرض شروط صارمة على الحلفاء.

 

لكنّ وقف الدعم الأميركي يطرح سؤالاً كبيراً: هل تستطيع أوروبا وحدها تحمّل عبء الحرب؟ وهل يمكن لأوكرانيا أن تصمد بلا دعم مالي وعسكري أميركي؟ هذه الأسئلة تكشف خطورة الموقف، وتوضح أنّ تصريحات ترامب ليست مجرد رأي، بل إعلانٌ عن سياسة قد تغيّر مسار الحرب إذا طُبّقت.

 

الناتو وأوروبا.. بين الإنفاق العسكري والانهيار

 

ترامب لم يكتفِ بانتقاد أوكرانيا، بل وسّع دائرة نقده لتشمل أوروبا وحلف شمال الأطلسي. حين يقول إنّ “أوروبا تنهار في ظل تزايد الإنفاق العسكري للناتو وتمويل إمدادات الأسلحة لأوكرانيا”، فهو يعكس رؤية ترى أنّ القارة الأوروبية تدفع ثمناً باهظاً لحربٍ لا تعرف كيف تنهيها. هذا الخطاب يتماشى مع انتقاداته السابقة للناتو، حيث اتهم الدول الأوروبية بعدم تحمّل نصيبها من الأعباء، وبالاعتماد المفرط على الولايات المتحدة.

 

لكنّ الواقع أكثر تعقيداً: أوروبا بالفعل زادت إنفاقها العسكري بشكلٍ غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، وأطلقت برامج تسليح وتحديث واسعة. يُنظر إلى هذا الإنفاق باعتباره ضرورة لحماية القارة من التهديد الروسي وفق ما يزعمه الأوروبيون، لكنه في الوقت ذاته يضغط على الميزانيات العامة ويثير نقاشاً داخلياً حول الأولويات الاجتماعية والاقتصادية. تصريحات ترامب تستغل هذا التوتر لتصوير أوروبا كقارةٍ ضعيفة تنهار تحت الضغط، وتحتاج إلى إعادة نظر في سياساتها.

 

أوكرانيا والناتو.. جدل الانضمام والحدود الجيوسياسية

 

من أبرز ما قاله ترامب أنّه «من الواضح منذ زمن طويل أن أوكرانيا لا ينبغي أن تنضم إلى الناتو»، وأنّ هذا التفاهم كان قائماً قبل فترة طويلة من وصول بوتين إلى السلطة. هذا التصريح يعكس موقفاً ثابتاً لديه، فهو يرى أنّ توسيع الناتو ليشمل أوكرانيا كان خطأً استراتيجياً، وأنّه ساهم في تأجيج الصراع مع روسيا.

 

هذا الموقف يتقاطع مع الرواية الروسية التي تعتبر أنّ توسع الناتو تهديدٌ مباشر لأمنها، وأنّ منع أوكرانيا من الانضمام ضرورة وجودية. لكنّ في المقابل، يرى الأوكرانيون وحلفاؤهم أنّ الانضمام إلى الناتو هو الضمانة الوحيدة لأمنهم.

 

تصريحات ترامب تسعى إلى إعادة تثبيت فكرة أنّ أوكرانيا يجب أن تبقى خارج الناتو، وأنّ هذا ليس نتيجة الحرب الحالية بل جزء من تفاهم قديم. هذا الطرح يفتح الباب أمام تسوية تقوم على الاعتراف بحدود النفوذ الروسي، مقابل وقف الحرب.

 

الشرعية المعلقة وحدود الدعم الغربي

 

تصريحات ترامب الأخيرة حول أوكرانيا وأوروبا تحمل دلالات رمزية وسياسية، إذ تكشف عن خطاب يسعى إلى إعادة تعريف موقع الولايات المتحدة في النظام الدولي. هذا الخطاب يقوم على تقليص الانخراط الخارجي والضغط على الحلفاء لتحمّل العبء الأكبر، بما يعكس رؤية ترى أن واشنطن لم تعد معنية بخوض حروب طويلة لصالح الآخرين. كما يتضمن تشكيكاً في جدوى الناتو وفي قدرة أوروبا على الصمود أمام أعباء الإنفاق العسكري والأزمات الاقتصادية، وهو ما يضع القارة أمام مأزق استراتيجي ويبرز ضعفها في غياب مظلة أميركية ثابتة.

 

في هذا السياق، تصبح أوكرانيا الحلقة الأضعف، إذ يطرح ترامب رؤية جديدة عن الشرعية تقوم على ضرورة العودة إلى صناديق الاقتراع حتى في زمن الحرب، معتبراً أن استمرار زيلينسكي بلا انتخابات يُضعف موقعه ويكشف تناقض الخطاب الغربي الذي يرفع شعار الديمقراطية بينما يعلّق ممارستها. هذه الرؤية تضغط على كييف للقبول بتسوية سياسية قد تُقرأ كتراجع أمام روسيا، لكنها في الوقت نفسه تضعف قدرة القيادة الأوكرانية على الادعاء بتمثيل الإرادة الشعبية.

 

أوروبا، من جانبها، تجد نفسها أمام ضغوط متزايدة: ارتفاع أسعار الطاقة، تراجع النمو، وتكاليف الحرب التي تهدد وحدتها الداخلية. تصريحات ترامب تزيد من هذه الضغوط، لأنها توحي بأن الولايات المتحدة قد لا تكون شريكاً يمكن الاعتماد عليه، ما يدفع الأوروبيين للتفكير في استقلالية استراتيجية صعبة التحقيق. أما أوكرانيا، فهي أمام معضلة حقيقية: إما انتخابات في ظروف غير مستقرة، أو استمرار الحرب مع تراجع الدعم الدولي. وهكذا، يظهر أن خطاب ترامب يعزز سردية موسكو بأن الغرب يستخدم أوكرانيا أداةً لإطالة الصراع.

 

تصريحات ترامب وبداية مرحلة دولية جديدة

 

تصريحات ترامب جزء من رؤية سياسية تسعى إلى إعادة صياغة قواعد اللعبة الدولية. هذه الرؤية تقوم على تقليص الانخراط الأميركي، إعادة تعريف التحالفات. لكنها تفتح الباب أيضاً أمام مخاطر كبيرة: إضعاف أوكرانيا، تقويض الثقة بأوروبا، وإرباك النظام الدولي.

 

في النهاية، يبقى السؤال مفتوحاً: هل ستتحول هذه التصريحات إلى سياسة فعلية إذا استمر ترامب في موقع القرار؟ أم ستبقى مجرد خطاب انتخابي يهدف إلى كسب الداخل الأميركي؟ ما هو مؤكد أنّها تزيد من تعقيد المشهد، وتفرض على أوروبا وأوكرانيا والعالم التفكير في بدائل جديدة، لأنّ الاعتماد على الولايات المتحدة لم يعد مضموناً كما كان في الماضي.

 

المصدر: الوفاق