في ديسمبر /كانون الأول من عام 2025، ضجت الساحة السياسية الدولية بخبر نشرته صحيفة أمريكية متخصصة في شؤون الدفاع، کشف عن وثيقة سرية مسربة تكشف عن خطة أمريكية تهدف إلى فصل أربع دول أوروبية عن الاتحاد الأوروبي، وهي النمسا وإيطاليا وهنغاريا وبولندا، في إطار استراتيجية جديدة أطلق عليها ترامب شعاراً لافتاً: «لنجعل أوروبا عظيمةً مرةً أخرى». هذا التسريب لم يكن مجرد خبر عابر، بل مثّل حدثاً سياسياً بالغ الأهمية، إذ أعاد إلى الواجهة النقاش حول مستقبل الاتحاد الأوروبي، والعلاقات عبر الأطلسي، وموقع الولايات المتحدة في النظام الدولي. وبينما سارع البيت الأبيض إلى نفي وجود نسخة بديلة من الاستراتيجية، فإن الجدل الذي أثاره التسريب كشف عن عمق التوترات الكامنة بين واشنطن وبروكسل، وعن حجم التحديات التي تواجه القارة الأوروبية في ظل صعود النزعات القومية والشعبوية، وتراجع الثقة في المؤسسات فوق الوطنية.
استراتيجية «لنجعل أوروبا عظيمةً مرةً أخرى»
بدايةً قامت العلاقات الأمريكية الأوروبية على التحالف منذ الحرب العالمية الثانية عبر مشروع مارشال والناتو، لكنها شهدت توترات في أزمات السويس وفيتنام والعراق، وظلت قائمة بفضل المصالح المشتركة والقيم السياسية المتقاربة.
ومع صعود النزعات القومية في واشنطن، خصوصاً بعهد ترامب، تحولت النظرة إلى أوروبا من شريك استراتيجي إلى منافس اقتصادي وعبء سياسي، والتسريب الأخير للوثيقة يكشف تصعيداً بمحاولة تفكيك الاتحاد الأوروبي واستقطاب بعض دوله لمحور أمريكي جديد.
هذه الوثيقة المسربة التي نشرتها صحيفة «ديفنس وان» تكشف عن خطة أمريكية تهدف إلى فصل أربع دول أوروبية عن الاتحاد، وهي النمسا وإيطاليا وهنغاريا وبولندا. هذه الدول ليست عشوائية، بل تم اختيارها بعناية، نظراً لخصوصياتها السياسية والثقافية، ولوجود حكومات أو تيارات قومية محافظة فيها، تتقاطع مع توجهات ترامب.
الوثيقة تدعو الولايات المتحدة إلى دعم الأحزاب والحركات التي تسعى إلى تعزيز السيادة الوطنية، والحفاظ على«طرق الحياة الأوروبية التقليدية»، في مواجهة ما تصفه بسياسات الاتحاد الأوروبي التي تقوض السيادة وتضعف سلطة الدول الفردية. كما تتهم الاتحاد بأنه عاجز عن مواجهة الهجرة الجماعية، وأن سياساته في هذا المجال تُدمر القارة وتخلق الصراع.
اللافت أن هذه الوثيقة تأتي بعد أسبوع واحد فقط من إصدار الاستراتيجية الرسمية للأمن القومي، التي تضمنت تحذيراً صارخاً من أن أوروبا تواجه «محواً حضارياً»، وأنه ليس من الواضح ما إذا كانت بعض الدول الأوروبية ستظل حلفاء موثوقين. هذا التزامن بين الاستراتيجية الرسمية والتسريب يعزز الاعتقاد بأن هناك بالفعل تياراً داخل الإدارة الأمريكية يسعى إلى إعادة صياغة العلاقة مع أوروبا على أسس جديدة، تقوم على التفكيك لا على التحالف.
ردود الفعل الأوروبية.. بين الغضب والبراغماتية
أثار التسريب حالة من الذعر في الأوساط الأوروبية، إذ اعتبر كثير من القادة أن واشنطن تتدخل بشكلٍ سافر في شؤونهم الداخلية. رئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا كان واضحاً في رفضه، مؤكداً أن الولايات المتحدة ليس لها الحق في إملاء الخيارات السياسية على أوروبا، وأن المواطنين الأوروبيين وحدهم من يقررون مستقبلهم.
في المقابل، حاول المستشار الألماني فريدريش ميرتس أن يتبنى موقفاً أكثر اعتدالاً، فوصف بعض أجزاء الاستراتيجية بأنها «مفهومة» و«معقولة»، لكنه شدد على ضرورة أن تصبح أوروبا أكثر استقلالاً عن الولايات المتحدة في مجال السياسة الأمنية. هذا الموقف يعكس إدراكاً ألمانيّاً لخطورة الاعتماد المفرط على واشنطن، خاصةً في ظل تقلبات السياسة الأمريكية.
أما رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك، فقد رفض الاستراتيجية علناً، لكنه حرص على الحفاظ على استقرار العلاقات مع واشنطن، فكتب على منصة «إكس» أن أوروبا هي أقرب حلفاء أمريكا وليست مشكلتها، داعياً إلى التمسك بهذا التحالف التاريخي.
في المقابل، رحب السياسي الهولندي اليميني المتشدد خيرت فيلدرز بالتقرير، معتبراً أن ترامب «يقول الحقيقة». هذا الترحيب يعكس وجود تيارات قومية في أوروبا ترى في الموقف الأمريكي دعماً لمشروعها السياسي المناهض للاتحاد الأوروبي.
أوروبا بين التفكك وإعادة التموضع
تُمثل الوثيقة تحولاً استراتيجياً خطيراً في السياسة الأمريكية تجاه أوروبا. فبدلاً من دعم الاتحاد الأوروبي ككتلة موحدة، تسعى واشنطن إلى تفكيكه عبر استقطاب بعض دوله. هذا التحول يعكس رؤية ترامب التي ترى في الاتحاد منافساً اقتصادياً، وفي الوقت نفسه عاجزاً عن مواجهة التحديات الأمنية والهجرة.
اختيار الدول الأربع ليس اعتباطياً، فهنغاريا بقيادة فيكتور أوربان تمثل نموذجاً للقومية المحافظة التي تتقاطع مع توجهات ترامب، وقد حظي أوربان باستقبال حار في البيت الأبيض. بولندا أيضاً لديها تيارات قومية قوية، وتاريخ من العلاقات الوثيقة مع واشنطن. أما إيطاليا، فقد أصبحت بقيادة جورجا ميلوني رمزاً لصعود اليمين المحافظ في أوروبا، وهو ما يلقى إعجاب ترامب. والنمسا، رغم أنها ليست من الدول الكبرى، إلا أن موقعها الجغرافي وتاريخها السياسي يجعلها هدفاً مناسباً لهذه الاستراتيجية.
هذه الخطط، إذا ما تم تنفيذها، ستؤدي إلى إضعاف الاتحاد الأوروبي بشكلٍ كبير، وستفتح الباب أمام صعود الأحزاب القومية والمتشككة في الاتحاد، خاصةً قبل الانتخابات الأوروبية المقبلة. كما أنها ستخلق انقسامات داخلية عميقة، بين دول تسعى للحفاظ على الوحدة، وأخرى تنجذب نحو واشنطن.
التداعيات على أوكرانيا والعلاقات عبر الأطلسي
لم يكن توقيت التسريب بريئاً، فقد جاء في لحظة تتسم بحساسية بالغة بالنسبة لأوروبا والولايات المتحدة على حدُ سواء. الحرب في أوكرانيا ما زالت مستمرة، والضغوط على العواصم الأوروبية تتزايد مع ارتفاع تكاليف الدعم العسكري والاقتصادي لكييف. في هذا السياق، تصريحات ترامب التي اتهم فيها زيلينسكي بالمماطلة في قراءة الاقتراح الأمريكي للسلام، واعتباره أن أوروبا تنهار بسبب سياسات الهجرة، تعكس رغبة واضحة في إعادة صياغة العلاقة مع أوروبا على أسس جديدة. هذه الأسس تقوم على التعامل المباشر مع دول بعينها، بعيداً عن مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وهو ما يهدد وحدة الموقف الأوروبي تجاه روسيا ويضعف قدرة بروكسل على التفاوض ككتلة موحدة.
إنّ انقسام أوروبا بين دول تسعى للحفاظ على وحدة الاتحاد وأخرى تنجذب نحو واشنطن، سيؤدي إلى إضعاف الجبهة الأوروبية الموحدة في مواجهة التهديدات الأمنية. وهذا الانقسام قد ينعكس مباشرة على ملف أوكرانيا، إذ ستجد بعض الدول نفسها أقرب إلى الموقف الأمريكي، بينما ستتمسك أخرى بالخط الأوروبي التقليدي الداعم لكييف. النتيجة المحتملة هي تراجع فعالية أوروبا كفاعل دولي، وتزايد اعتمادها على الولايات المتحدة، وهو ما يتناقض مع الدعوات الأوروبية المتكررة إلى تعزيز الاستقلالية الاستراتيجية.
انعكاسات اقتصادية محتملة
من الناحية الاقتصادية، فإن فصل أربع دول عن الاتحاد الأوروبي سيؤدي إلى تداعيات خطيرة على السوق الأوروبية الموحدة. هذه السوق التي تضم أكثر من 450 مليون نسمة، تعتمد على حرية حركة السلع والخدمات ورأس المال والأشخاص. خروج دول مثل إيطاليا وبولندا سيؤدي إلى إضعاف هذه السوق، ويخلق حالة من عدم اليقين الاقتصادي، قد تؤدي إلى تراجع الاستثمارات وزيادة معدلات البطالة.
كما أن هذه الخطوة ستؤثر على العملة الأوروبية الموحدة، اليورو، الذي قد يفقد جزءاً من قوته إذا انسحبت دول رئيسية من الاتحاد. هذا الانسحاب سيؤدي أيضاً إلى إضعاف قدرة أوروبا على التفاوض ككتلة موحدة في المحافل الدولية، سواء في منظمة التجارة العالمية أو في المفاوضات المتعلقة بالتغير المناخي. في المقابل، قد تستفيد الولايات المتحدة من هذا التفكك، عبر تعزيز علاقاتها الاقتصادية الثنائية مع هذه الدول، وتحويلها إلى أسواق مفتوحة أمام الشركات الأمريكية.
الموقف الأمريكي الرسمي.. النفي والالتباس
رغم أن البيت الأبيض سارع إلى نفي وجود نسخة بديلة من الاستراتيجية، فإن الالتباس ما زال قائماً. هذا الالتباس يعكس طبيعة السياسة الأمريكية في عهد ترامب، إذ كثيراً ما تتناقض التصريحات الرسمية مع المواقف العملية، وهو ما يزيد من حالة عدم اليقين لدى الحلفاء الأوروبيين.
ختاماً الوثيقة المسربة التي تتحدث عن خطة أمريكية لفصل أربع دول عن الاتحاد الأوروبي ليست مجرد ورقة سياسية، بل هي مؤشر على تحول استراتيجي عميق في السياسة الأمريكية تجاه أوروبا. هذا التحول يقوم على رؤية تعتبر الاتحاد الأوروبي منافساً اقتصادياً وسياسياً، وتسعى إلى تفكيكه عبر استقطاب بعض دوله. ردود الفعل الأوروبية، التي تراوحت بين الغضب والبراغماتية، تعكس إدراكاً لخطورة هذه الاستراتيجية، لكنها تكشف أيضاً عن الانقسامات الداخلية التي قد تستغلها واشنطن لتعزيز نفوذها.