قرصنة أميركية على شواطئ الكاريبي

«سكيبر» عنوان مرحلة جديدة .. النفط كسلاح في صراع الهيمنة الدولية

الوفاق/ لم تعُد حادثة اختطاف ناقلة النفط الفنزويلية «سكيبر» مجرد تفصيل بحري عابر، بل تحوّلت إلى عنوان صارخ لمرحلة جديدة من الصراع الدولي على السيادة والموارد. فالولايات المتحدة، التي ترفع شعارات «نشر الديمقراطية» و«مكافحة المخدرات»، تكشف اليوم عن وجهها الحقيقي عبر ممارسة أبشع صور القرصنة البحرية ضد دولة مستقلة. ما جرى ليس عملية عسكرية محدودة، بل إعلان صريح عن حرب تجويع تستهدف شعباً بأكمله، ورسالة وقحة مفادها أنّ من يجرؤ على تحدي العقوبات الأميركية سيُعاقَب بالسطو على ثرواته في وضح النهار. هذه الواقعة لا تختصر الموقف الفنزويلي وحده، بل تضع العالم أمام سؤال أكبر: هل يُسمح لقوة واحدة أن تتحكم بمصير الشعوب وتنهب مواردها تحت غطاء شعارات زائفة؟

*فنزويلا في قلب المعركة

 

فنزويلا ليست بلداً هامشياً يمكن إخضاعه في الخفاء؛ فهي تمتلك أكبر احتياطي نفطي في العالم وتُشكل ركناً أساسياً في معادلة أمن الطاقة الدولية. ومن هنا، فإن استهدافها لا يُعد شأناً داخلياً، بل هو اعتداء مباشر على مصالح شركائها التجاريين، ولا سيما في آسيا.

 

 

واشنطن تدرك هذه الحقيقة جيداً، وتسعى عبر قضية «سكيبر» إلى تقديم نموذج ردعي يثني الآخرين عن التعامل مع كاراكاس. غير أنّ الرسالة جاءت بنتائج عكسية؛ إذ تعزز الاقتناع العالمي بأن النظام المالي المرتبط بالدولار فقد صفة الأمان، وأن البحث عن بدائل أصبح ضرورة لا خياراً.

 

 

فنزويلا، منذ عهد هوغو تشافيز، رفعت شعار الاستقلال الوطني، وأعادت توزيع الثروة النفطية لصالح الفقراء، وواجهت الهيمنة الأميركية بجرأة غير مسبوقة. هذا الخيار جعلها هدفاً دائماً للعقوبات والضغوط، التي بلغت ذروتها في عهد الرئيس نيكولاس مادورو. ومع فشل العقوبات التقليدية في إسقاط النظام، لجأت واشنطن إلى أساليب أكثر عدوانية، كان آخرها اختطاف «سكيبر»، في مشهد يعيد إلى الأذهان ممارسات القرصنة الاستعمارية القديمة.

 

 

*كوبا..الحصار المستمر

 

 

كوبا تُقدّم المثال الأوضح على سياسة الحصار الأميركية. فمنذ انتصار الثورة الكوبية عام 1959، فرضت واشنطن حصاراً اقتصادياً شاملاً استمرّ لأكثر من ستة عقود. الهدف كان تجويع الشعب الكوبي ودفعه إلى الانقلاب على قيادته الثورية. لكنّ النتيجة جاءت معاكسة؛ إذ تحوّل الحصار إلى رمز لصمود الكوبيين، ودفعهم إلى تطوير نظام صحي وتعليمي متقدّم، وبناء شبكة تحالفات دولية مكّنتهم من الاستمرار رغم الضغوط.

 

 

اليوم، يبدو أنّ واشنطن تحاول تكرار السيناريو نفسه مع فنزويلا، عبر حصار بحري وجوي يهدف إلى عزلها عن العالم وتجفيف مواردها النفطية. لكنّ التاريخ يقول إنّ الشعوب لا تستسلم، وإنّ الحصار الطويل لا يؤدي إلا إلى تعزيز روح المقاومة.

 

 

*نيكاراغوا.. الحرب بالوكالة

 

 

في الثمانينيات، دعمت واشنطن «الكونترا» لشنّ حرب بالوكالة ضد حكومة الساندينيستا في نيكاراغوا. الهدف كان إسقاط النظام الثوري الذي تحدّى الهيمنة الأميركية. ورغم أنّ الحرب ألحقت دماراً هائلاً بالبلاد، فإنها لم تنجح في القضاء على الساندينيستا، الذين عادوا لاحقاً إلى السلطة.

 

 

هذه التجربة تذكّرنا بأنّ واشنطن لا تتردّد في استخدام كل الوسائل، من العقوبات إلى التدخل العسكري المباشر أو غير المباشر، لتحقيق أهدافها. وما يحدث اليوم في فنزويلا ليس سوى نسخة جديدة من هذه السياسة القديمة، لكن بوسائل أكثر تطوراً، مثل التلاعب بالمواقع واتهام السفن بالانتماء إلى أساطيل سرّية.

 

 

*حرب التجويع كسلاح سياسي

 

 

ما تفعله واشنطن ليس سوى محاولة لإعادة إنتاج سيناريوات قديمة. إغلاق الأجواء، منع تصدير النفط، اختطاف السفن… كلها أدوات تهدف إلى خلق ظروف معيشية لا تُطاق، تدفع الجيش إلى الانقلاب أو تبرّر التدخل العسكري. لكنّ هذه الحرب، التي جُرّبت مراراً، أثبتت أنّها لا تُسقط الدول، بل تُسقط صورة أميركا نفسها كـ«حامية الديمقراطية». إنها حرب تستهدف المدنيين قبل أن تستهدف الحكومات، وتكشف أنّ «حقوق الإنسان» ليست سوى شعار فارغ حين يتعلّق الأمر بمصالح واشنطن.

 

 

*الرد الفنزويلي والتحالفات الدولية

 

 

فنزويلا لا تملك ترف الاستسلام. هي تدرك أنّ المعركة طويلة، وأنّ الصمود يتطلّب بناء تحالفات مع قوى صاعدة كالصين وروسيا وغيرها، وهي تدرك أيضاً أنّ العالم يتغيّر، وأنّ زمن الهيمنة الأحادية يقترب من نهايته. لذلك، فإنّ حادثة «سكيبر» لن تكون نهاية الطريق، بل بداية مرحلة جديدة، عنوانها بناء نظام مالي وتجاري بديل، بعيداً من سطوة الدولار.هذه الخطوات ليست مجرد ردود فعل آنية، بل هي جزء من مشروع أوسع لبناء عالم جديد، أكثر عدلاً وتوازناً، إذ لا تستطيع قوة واحدة أن تفرض إرادتها على الجميع.

 

 

*البُعد الأخلاقي والإنساني

 

 

لا يمكن تجاهل أنّ هذه الحرب تستهدف المدنيين قبل أن تستهدف الدولة. فحرمان الشعب الفنزويلي من عوائد ثروته الوطنية يعني دفعه إلى الجوع والحرمان، في انتهاك صارخ لحقوق الإنسان. إنها جريمة مزدوجة: جريمة ضد القانون الدولي، وجريمة ضد الإنسانية. لكنّ الشعب الفنزويلي، كما الشعب الكوبي والنيكاراغوي وشعوب أخرى عانت  من الظلم والهيمنة الأمريكية من قبله، يُظهر قدرة مذهلة على الصمود، مستنداً إلى إرث طويل من المقاومة ضد الاستعمار والهيمنة.

 

 

*تصعيد أميركي متواصل

 

 

هذا وقد تكشّفت تفاصيل جديدة عن عملية المصادرة. فقد أعلن البيت الأبيض أنّ وزارة العدل وافقت على نقل الناقلة إلى ميناء أميركي، حيث ستُفرغ شحنتها رسمياً. بالتوازي، فرضت واشنطن عقوبات جديدة على ست ناقلات أخرى وشركات شحن مرتبطة بالخام الفنزويلي، في خطوة تهدف إلى توسيع الحصار البحري ليشمل عشرات السفن. تقارير ملاحية أشارت إلى أنّ أكثر من ثلاثين ناقلة نفط عاملة في المياه الفنزويلية قد تواجه المصير نفسه، ما يهدد بتعطيل صادرات البلاد نحو الصين وآسيا، ويزيد من عزلة كاراكاس الاقتصادية.

 

 

في المقابل، خرج الرئيس نيكولاس مادورو ليصف ما جرى بأنه «سرقة علنية وخطف عسكري»، مؤكداً أنّ السفينة كانت تحمل نحو 1.9 مليون برميل من النفط مدفوع الثمن ومتجهة إلى الأسواق الدولية. مادورو شدّد على أنّ فنزويلا ستؤمّن جميع سفنها وتواصل تصدير النفط رغم التهديدات، واعتبر أنّ واشنطن دشّنت «عهداً جديداً من القرصنة البحرية في الكاريبي». هذا الموقف يعكس تصميم كاراكاس على مواجهة التصعيد، ويحوّل القضية إلى ملف دولي يمسّ أمن الطاقة العالمي، وسط قلق متزايد لدى شركات الشحن والمستوردين من الانخراط في تجارة النفط الفنزويلي.

 

 

سكيبر»… قرصنة تكشف معركة السيادة العالمية

 

 

لا يُمكن النظر إلى حادثة اختطاف ناقلة النفط «سكيبر» كواقعة بحرية عابرة، بل هي محطة مفصلية في سياق الحرب الاقتصادية التي تشنّها واشنطن ضد فنزويلا، والتي تتجاوز حدود الجغرافيا لتطال جوهر النظام الدولي القائم. هذه العملية تُمثل شكلاً صريحاً من القرصنة الحديثة، حيث تُستَخدم شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان كغطاء لنهب الموارد وفرض الهيمنة على الأسواق العالمية. ما يجري في الكاريبي اليوم ليس شأناً فنزويلياً داخلياً فحسب، بل قضية عالمية تمسّ أمن الطاقة وحرية التجارة وحق الشعوب في تقرير مصيرها بعيداً عن سطوة الدولار وعربدة الأساطيل.

 

 

لقد أثبت التاريخ أنّ الشعوب المحاصَرة لا تنكسر، بل تبتكر سبل الصمود والمقاومة. كوبا واجهت حصاراً استمر ستة عقود، ونيكاراغوا قاومت حرباً بالوكالة لتعود وتنهض، واليوم تكتب فنزويلا فصلها الخاص في كتاب المقاومة العالمية. حادثة «سكيبر» تكشف الوجه الحقيقي للسياسة الأميركية: قوة لا تتردّد في تجويع الشعوب ونهب ثرواتها، بينما ترفع شعارات زائفة. غير أنّ فنزويلا، بما تمتلكه من ثروات طبيعية وتحالفات استراتيجية وإرادة شعبية، تبدو مصمّمة على تحويل هذه المحنة إلى فرصة، وعلى جعلها دليلاً إضافياً على ضرورة بناء نظام عالمي جديد أكثر عدلاً وتوازناً، يضع حداً لمشروع الهيمنة ويؤسس لمشروع الاستقلال والسيادة.

 

 

المصدر: الوفاق