الوجه المظلم للديمقراطية الزائفة

واشنطن تسقط قناع الحرية .. قمع الداخل ونشر الفوضى عالمياً وشراكة في جرائم الاحتلال

منذ أن اجتمع العالم بعد الحرب العالمية الثانية ليضع أُسس النظام الدولي الجديد، كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 بمثابة حجر الزاوية في بناء منظومة قيمية يفترض أن تحمي الإنسان من بطش السلطة وتضمن له الكرامة والحرية والمساواة. الولايات المتحدة كانت في مقدمة الدول التي ساهمت في صياغة هذا الإعلان، وقدّمت نفسها على مدى عقود باعتبارها «حامية الديمقراطية» و«راعية الحرية» و«صوت الحقوق العالمية». غير أن الواقع المعاصر يكشف عن تناقض صارخ بين المبادئ التي أعلنتها واشنطن وبين ممارساتها الفعلية، سواء في الداخل حيث تتصاعد سياسات القمع والعنصرية، أو في الخارج حيث تتحول التدخلات العسكرية والدعم غير المشروط للكيان الصهيوني إلى أدوات لانتهاك حقوق الإنسان على نطاقٍ واسع.

هذا التناقض ليس مجرد مفارقة أخلاقية، بل هو جزء من بنية النظام السياسي الأمريكي الذي يضع المصالح الاستراتيجية والهيمنة فوق المبادئ الإنسانية. فبينما ترفع واشنطن شعار «حقوق الإنسان عالمية»، نجدها تستهدف المتظاهرين السلميين، وتقمع الصحفيين، وتحتجز المهاجرين في ظروف لا إنسانية، وتدعم الاحتلال الصهيوني الذي يمارس أبشع الانتهاكات بحق الشعب الفلسطيني. هذه الممارسات تكشف أن الولايات المتحدة لم تعد تلتزم بالوثيقة التأسيسية لحقوق الإنسان، بل تحولت إلى قوة تنتهكها بشكل منهجي، مما يهدد ليس فقط الداخل الأمريكي، بل النظام الدولي بأسره.

 

 

*الداخل الأمريكي.. قمع الحريات وتفكيك الحقوق

 

 

الولايات المتحدة تعيش اليوم أزمة حقوقية عميقة، حيث تتصاعد الممارسات الاستبدادية وازدراء سيادة القانون بشكلٍ كبير. الجامعات، التي يُفترض أن تكون فضاءً للحرية الأكاديمية، تحولت إلى ساحات قمع. اعتقال الطالب محمود خليل في جامعة كولومبيا لم يكن حادثاً فردياً، بل جزءاً من سياسة ممنهجة لإسكات الأصوات المعارضة، خصوصاً تلك التي تدافع عن حقوق الفلسطينيين. هذا الاستهداف يفضح ازدواجية الخطاب الأمريكي الذي يتغنى بحرية التعبير بينما يقمعها في الداخل.

 

 

وجود قوات مسلحة في شوارع المدن الأمريكية، وشنّ مداهمات ليلية دون أوامر قضائية، يعكس تحوّل الدولة إلى سلطة بوليسية. هذه الممارسات تستهدف بشكل خاص المجتمعات ذات الأصول الأفريقية والأقليات، مما يفضح البنية العنصرية المتجذرة في النظام الأمريكي. المهاجرون بدورهم يواجهون ظروفاً أقرب إلى التعذيب المنهجي، حيث تحولت مراكز الاحتجاز مثل «ألكاتراز التمساح» إلى جحيم حقيقي، يُحرم فيه المحتجزون من الرعاية الطبية ومن حقهم في الاستعانة بمحامين. هذه السياسات تكشف عن عقلية تعتبر المهاجرين تهديداً أمنياً لا بشراً لهم حقوق، وهو ما يتناقض مع أبسط مبادئ الإنسانية.

 

 

حرية الإعلام، التي تُعتبر حجر الأساس لأي نظام ديمقراطي، تتعرض في الولايات المتحدة لهجوم مباشر. ترحيل الصحفي ماريو غيفارا لمجرد تغطيته احتجاجاً في جورجيا يرسل رسالة واضحة: الحقيقة قد تُعرّضك للسجن أو الطرد. هذا الاستهداف للصحفيين ينسف الأساس الذي تقوم عليه الديمقراطية الأمريكية، ويحوّلها إلى دولة تُجرّم نقل الحقيقة.

 

 

* من غوانتنامو إلى أمريكا اللاتينة .. واشنطن تصدر القمع وتزرع الفوضى عالمياً   

 

 

شهد العالم في العقود الماضية سلسلة من التدخلات والسياسات الأمريكية التي تركت آثارًا عميقة ومأساوية على شعوب مختلفة. ففي فيتنام خلال سبعينيات القرن الماضي، اندلعت حرب دامية أودت بحياة ملايين القتلى والجرحى، واستخدمت فيها الولايات المتحدة أسلحة كيماوية مثل «العامل البرتقالي»، الذي خلّف تشوهات وأمراض وراثية لأجيال كاملة. أما معتقل غوانتانامو، فقد أصبح رمزًا لانتهاك القوانين الدولية، حيث احتُجز فيه مئات الأشخاص دون محاكمة، وتعرضوا لشتى أنواع التعذيب النفسي والجسدي.

 

 

وفي أمريكا اللاتينية، لعبت واشنطن دورًا بارزًا في دعم انقلابات عسكرية أطاحت بحكومات منتخبة ديمقراطيًا في دول مثل تشيلي وغواتيمالا، لتُستبدل بأنظمة ديكتاتورية ارتكبت مجازر بحق شعوبها. ولم تكن أفريقيا بمنأى عن هذه التدخلات، إذ ساهمت العمليات الأمريكية في الصومال ودول أخرى في زعزعة الاستقرار، ما أدى إلى كوارث إنسانية متلاحقة.

 

 

الولايات المتحدة لا تكتفي بالقمع الداخلي، بل تصدّر انتهاكاتها إلى الخارج عبر تدخلات عسكرية وسياسات عدوانية. تقرير Newsweek أشار إلى أكثر من 80 حالة قتل خارج نطاق القانون نفذتها القوات الأمريكية في منطقة البحر الكاريبي والمحيط الهادئ. هذه الممارسات ليست سوى امتداد لسياسة التدخل العسكري التي لطالما اتبعتها واشنطن، حيث تُستخدم القوة المفرطة دون أي اعتبار للقانون الدولي أو حقوق الإنسان. ومن العراق إلى أفغانستان، ومن سوريا إلى ليبيا، تركت الولايات المتحدة وراءها سجلاً دموياً من الانتهاكات. آلاف المدنيين قُتلوا تحت شعار«الحرب على الإرهاب»، بينما لم تجلب هذه التدخلات الديمقراطية ولا الاستقرار، بل خلّفت دولاً منهكة ومجتمعات مدمرة. هذه الحروب لم تكن سوى أدوات للهيمنة والسيطرة على الموارد، بينما دفع المدنيون الثمن الأكبر من حياتهم وكرامتهم.

 

 

*دعم الكيان الصهيوني.. شراكة في الانتهاك

 

 

أحد أبرز مظاهر ازدواجية الخطاب الأمريكي يتمثل في دعمها غير المشروط للكيان الصهيوني. الولايات المتحدة تقدم لكيان العدو دعماً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً هائلاً، رغم أن الاحتلال يمارس أبشع الانتهاكات بحق الشعب الفلسطيني، من قتل المدنيين في غزة إلى مصادرة الأراضي في الضفة الغربية، ومن حصار الملايين إلى قمع المتظاهرين، يُمارس كيان العدو انتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان، بينما تغطيه واشنطن وتمنحه الشرعية الدولية.

 

 

هذا الدعم لا يعكس فقط ازدواجية أخلاقية، بل يكشف أن الولايات المتحدة تستخدم خطاب حقوق الإنسان كأداة سياسية، حيث تُدين دولاً بعينها بينما تتجاهل أو تبرر انتهاكات حلفائها. دعم الاحتلال الصهيوني يجعل واشنطن شريكاً مباشراً في الانتهاكات، ويقوض أي مصداقية لها في الدفاع عن الحقوق عالمياً.

 

 

*البُنية الاستبدادية للنظام الأمريكي

 

 

الولايات المتحدة لا تكتفي بانتهاك حقوق الإنسان، بل تزدري سيادة القانون نفسه. فالممارسات القمعية تُنفذ دون أوامر قضائية، والاحتجاز يتم خارج إطار القانون، مما يحوّل الدولة إلى سلطة استبدادية تتجاوز المؤسسات القضائية. إدارة واشنطن تعتمد على بثّ الخوف لإسكات المعارضة. من الغاز المسيل للدموع إلى الرصاص المطاطي، ومن المداهمات الليلية إلى التهديد بالترحيل، تُستخدم أدوات القمع لإرهاب المجتمع وإخضاعه.

 

 

لا يمكن فصل هذه الانتهاكات عن البنية العنصرية التي تحكم المجتمع الأمريكي. فالمجتمعات ذات الأصول الأفريقية والأقليات هي الأكثر استهدافاً من قبل القوات المسلحة. هذا يعكس استمرار إرث طويل من العنصرية الممنهجة التي لم تنجح الولايات المتحدة في التخلص منها، بل أعادت إنتاجها في شكل سياسات قمعية.

 

 

رغم القمع، شهدت الولايات المتحدة مظاهرات ضخمة شارك فيها ملايين الناس رفضاً للتخلي عن حقوقهم. هذا التحرك الشعبي يعكس أن المجتمع الأمريكي نفسه لم يعد يقبل بالاستبداد، وأن هناك وعياً متزايداً بضرورة الدفاع عن الحقوق والحريات. لكن على المستوى الدولي، انتهاكات الولايات المتحدة تُهدد النظام العالمي القائم على احترام حقوق الإنسان. فحين تنتهك واشنطن هذه الحقوق، فإنها تُضعف المبادرات العالمية وتُشجع دولاً أخرى على تبني سياسات مشابهة، مما يهدد منظومة العدالة والسلام العالمية.

 

 

*ازدواجية الخطاب الأمريكي.. من شعارات الحرية إلى شراكة في الانتهاكات

 

 

وهكذا الولايات المتحدة، التي ترفع شعار الحرية، باتت تمارس سياسات لا تختلف في جوهرها عن الأنظمة التي طالما وصفتها بالديكتاتورية، بل إنها تفوقها خطورة لأنها تتغطى بغطاء ديمقراطي زائف وتستند إلى قوة عسكرية واقتصادية هائلة تجعلها قادرة على فرض إرادتها على العالم.

 

 

ولم تعد ازدواجية الخطاب الأمريكي مجرد قضية أخلاقية، بل أصبحت تهديداً للنظام الدولي بأسره. حين تنتهك واشنطن حقوق الإنسان في الداخل، وتقمع الصحفيين والطلاب والمهاجرين، ثم تدعم الاحتلال الصهيوني في الخارج، فإنها تقوض الأساس الذي يقوم عليه النظام العالمي القائم على احترام الحقوق. هذا يفتح الباب أمام دول أخرى لتبرير انتهاكاتها، ويضعف المبادرات الدولية، ويهدد منظومة العدالة والسلام العالمية.

 

 

ختاماً لقد حان الوقت لفضح ازدواجية الخطاب الأمريكي، وللتأكيد أن العالم لن يقبل أن تتحول واشنطن إلى سلطة استبدادية تفرض هيمنتها بالقوة. كما إن مواجهة انتهاكات الولايات المتحدة تتطلب عملاً جماعياً، داخلياً ودولياً، لإجبارها على احترام حقوق الإنسان، وإلا فإن النظام الدولي بأسره سيكون مهدداً بالانهيار.

 

 

المصدر: الوفاق