قراءة لخطاب الشيخ نعيم قاسم

التجمع الفاطمي.. حين تتحوّل المحبّة إلى وعيٍ سياديّ ومعادلة بقاء

الوفاق/ لم يكن التجمع الفاطمي الذي ألقى فيه الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم كلمته مناسبة دينية تقليدية أو حدثًا وجدانيًا عابرًا، بل شكّل لحظة مركّبة اجتمع فيها البعد الروحي بالسياسي، والرمز الديني بالقرار السيادي.

مقدمة: من الوجدان الديني إلى الوعي السياسي المنظَّم

 

بدا المشهد وكأنه تعبير مكثّف عن مجتمعٍ واعٍ يدرك أن الإيمان، حين يُحاصر، يتحوّل بالضرورة إلى وعيٍ منظم، وأن المحبّة الصافية لا تكتمل إلا حين تُترجم موقفًا ومسؤولية. الحضور النسائي الكثيف لم يكن مجرد صورة عددية، بل دلالة اجتماعية–ثقافية عميقة على أن هذا المجتمع ما زال يمتلك القدرة على إنتاج المعنى، وعلى تحويل الرمز الديني إلى طاقة صمود واستمرارية.

 

في هذا السياق، حضرت السيدة فاطمة الزهراء (ع) على لسان الأمين العام لحزب الله لا بوصفها رمزًا عاطفيًا، بل كمنهج حياة ومقياس أخلاقي لبناء الإنسان القادر على الثبات في زمن الضغوط. ومن هنا، تحوّل التجمع إلى ما يشبه الإعلان الهادئ عن مرحلة جديدة، حيث تلتقي المحبة بالإدراك، والإدراك بالقرار، في معادلة بقاء تتجاوز اللحظة الراهنة.

 

المرأة في خطاب المقاومة: من القدوة الأخلاقية إلى الفاعل الاستراتيجي

 

أولى الشيخ نعيم قاسم موقعًا مركزيًا لدور المرأة، ليس من باب التكريم الخطابي، بل باعتبارها عنصرًا بنيويًا في مشروع الصمود. واستحضار السيدة الزهراء (ع) كرمز، جاء لتكريس نموذج إنساني متكامل، حيث تلتقي التربية بالصبر، والوعي بالمسؤولية، والدين بالفعل الاجتماعي. والمرأة، وفق هذا المنطق، ليست ملحقًا بالمقاومة ولا تابعًا لها، بل شريكة في صياغة الهوية وحماية المجتمع من الاختراق والانحراف. والمرأة هنا ليست هامشًا اجتماعيًا ولا تابعًا، بل شريكة في “مواقع الجهاد والعمل”، وحارسة للهوية في مواجهة العدو والانحراف معًا. وهذا الطرح ينسجم مع الرؤية التي أرساها الإمام الخميني( رض) حول المرأة بوصفها “كالقران تصنع الرجال”، ومع خطابات الشهيد الأسمى السيد حسن نصر الله التي جعلت من المرأة خط الدفاع الأول عن المجتمع المقاوم.

والأهمية السياسية الأعمق برزت في تأكيد أن العمل النسائي إطار مجتمعي مفتوح لا يحتاج إلى انتساب تنظيمي، ما يعكس تطورًا نوعيًا في مفهوم المقاومة، من بنية حزبية مغلقة إلى حالة مجتمعية عامة تستمد شرعيتها من القيم لا من البطاقات. وهذا التحول يُسقط ثنائية “الحزب والمجتمع”، ويؤسس لفكرة المجتمع المقاوم بوصفه الحاضنة الأساسية لأي مشروع سيادي.

 

من الخطاب الديني إلى الوثيقة السياسية: تثبيت المعادلات في مرحلة ما بعد الحرب

 

رغم الطابع الروحي للكلمة، فإن بنيتها العميقة كانت سياسية–استراتيجية بامتياز. جاءت في لحظة إقليمية حساسة، وبعد اتفاق وقف إطلاق النار في تشرين الثاني 2024، لتعيد رسم خريطة الأدوار وتحديد قواعد المرحلة المقبلة. لم يتعامل الشيخ قاسم مع المرحلة الجديدة كامتداد لما سبقها، بل كتحول نوعي يفرض أدوات تقييم مختلفة ومعايير جديدة.

 

أكد الخطاب أن المقاومة التزمت بالاتفاق، وساندت الدولة في بسط سيادتها، مستندًا إلى معطيات ميدانية وشهادات دولية تنفي أي ادعاءات حول خروقات من جانبها جنوب الليطاني، مقابل استمرار اعتداءات العدو الصهيوني. هذا التوصيف لا يهدف إلى تبرئة الذات فحسب، بل إلى نقل النقاش من مربع الاتهام السياسي إلى مربع المسؤولية السيادية.

 

إعادة تعريف الردع: الدولة أولًا… والمقاومة ضمانة

 

أحد أبرز التحولات المفاهيمية في الخطاب تمثّل في إعادة تعريف وظيفة الردع. فقد شدّد الشيخ قاسم على أن منع العدوان هو في الأصل مسؤولية الدولة ومؤسساتها، وأن المقاومة ليست بديلًا دائمًا عنها، بل عنصر إسناد وضمانة عند العجز أو الخطر. هذا الطرح يسحب من خصوم المقاومة ذريعة “غياب الدولة”.

 

وفي هذا الإطار، رُبط أي نقاش حول الاستراتيجية الدفاعية بشروط واضحة: توقف العدوان، التزام الدولة بواجباتها، ورفض أي مسار يؤدي إلى التفريط بالسيادة. أما الطروحات التي ترفع شعار “حصرية السلاح” بمعناه الخارجي المفروض، فقد وُصفت بوصفها محاولة لإعدام قدرة لبنان على الدفاع عن نفسه، لا مشروعًا لبناء دولة قوية.

 

الصراع مع العدو الصهيوني: معركة وجود لا نزاع حدود

 

وضع الخطاب الصراع في إطاره الحقيقي، باعتباره معركة وجود لا خلافًا حدوديًا قابلًا للتسوية التقنية. فالعدو الصهيوني، وفق هذا المنظور، ليس مجرد خصم عسكري، بل مشروع اقتلاعي لا يعترف بتعددية لبنان ولا بخصوصيته الحضارية، ويسعى إلى إضعافه أو تفكيكه أو إخضاعه حيث «لا مكان للمسلمين ولا للمسيحيين» ضمن منطقها التوسعي. ومن هنا، يأتي التحذير من مشاريع ضمّ أو تذويب لبنان في كيانات أوسع بوصفها تهديدًا وجوديًا، لا تسوية سياسية، ويُقدَّم خيار المقاومة والصمود باعتباره الخيار الوحيد القادر على منع محو التاريخ وإلغاء المستقبل، لا بوصفه خيارًا أيديولوجيًا بل شرط بقاء وطني. وفي هذا السياق، يضع الشيخ نعيم قاسم الولايات المتحدة واصفًا إياها بـ “الطاغوت” الذي يدير الحرب ويسعى لتخريب البلاد وإثارة الفتنة والشريك المباشر في استهداف لبنان، معتبرًا أن دورها يتجاوز الدعم السياسي لـلعدو الصهيوني إلى إدارة منظومة ضغط شاملة تشمل العقوبات، والحصار الاقتصادي، وإثارة الفتن الداخلية بهدف إضعاف الدولة وتجريدها من عناصر القوة. وموجها رسالة حادة للولايات المتحدة بلغة قطعية: “لو أطبقت السماء على الأرض فلن يُنزع السلاح تحقيقاً لهدف العدو الصهيوني”. هذا الموقف يستمد شرعيته من الموروث الكربلائي (“هيهات منا الذلة”)، معتبراً السلاح جزءاً عضويًا من الروح والأرض.

 

هذا التوصيف ينقل المقاومة من موقع الدفاع عن خيار أيديولوجي إلى موقع الدفاع عن معنى الكيان ذاته، حيث يصبح الصمود شرط بقاء، لا خيارًا سياسيًا قابلًا للمقايضة.

 

الوضع الداخلي: بين الفساد والفتنة وخيار الوحدة

 

في الداخل، يعيد الشيخ قاسم توجيه بوصلة الأزمة، معتبرًا أن جوهر المشكلة لا يكمن في سلاح المقاومة بل في الفساد البنيوي والعقوبات الأميركية التي عطّلت الدولة وأضعفت قدرتها على القيام بوظائفها. ومن هذا المنطلق، يُفكك الخطاب الذي يحمّل المقاومة مسؤولية الانهيار، ويراه جزءًا من مشروع فتنة داخلية يخدم الضغوط الخارجية. وفي المقابل، يطرح الشيخ معادلة واضحة: إنجازات المقاومة الأربع—تحرير الأرض، الصمود، الردع الممتد، ومنع الاجتياح—ليست سجلًا عسكريًا فحسب، بل شبكة أمان للكيان اللبناني. لذلك، تصبح الدعوة إلى الوحدة والتكاتف ضرورة وجودية، لا شعارًا أخلاقيًا، إذ إن الانقسام يفتح الباب أمام الاستسلام المقنّع، بينما التماسك الوطني وحده يحفظ لبنان كدولة ذات معنى وسيادة في مواجهة مشاريع الإلغاء والتفكيك.

 

خاتمة: المحبّة حين تُنظَّم تصير سيادة

 

تكشف كلمة الشيخ نعيم قاسم في التجمع الفاطمي عن انتقالٍ واعٍ من استحضار الرمز إلى تثبيت المعادلة، ومن العاطفة إلى الوعي السيادي. فالمحبّة التي جمعت هذا الحشد لم تُترك في إطارها الوجداني، بل جرى تنظيمها في وعي جماعي يربط القيم بالفعل، والدين بالمسؤولية، والروح بالقرار.

 

في لحظة إقليمية ضاغطة، أعاد الخطاب رسم خطوط الاشتباك الأخلاقي والسياسي معًا: دولة تُطالَب بالقيام بواجباتها، مقاومة تُثبّت دورها كضمانة لا كبديل، ومجتمع يدرك أن الاستسلام ليس خيارًا سياسيًا بل نهاية كيان. هكذا، يغدو التجمع الفاطمي إعلانًا هادئًا لكنه حاسم، بأن هذا المجتمع، بمحبة فاطمية واعية، ما زال يمتلك البوصلة… ولن يفرّط بمعنى بقائه.

 

المصدر: الوفاق/خاص/ د. أكرم شمص

الاخبار ذات الصلة