على أعتاب يوم الدراسة والبحث

التأثير المتبادل بين الثقافة والبحث العلمي

خاص الوفاق: بشير: العلاقة بين الثقافة والبحث العلمي هي علاقة تكاملية وحوار مستمر، لا ينمو العلم في فراغ ثقافي، بل هو نشاط إنساني مغروس في تربة المجتمع وقيمه.

 

د. حسن بشير
أستاذ جامعة الإمام الصادق(ع)

 

 

يُعدُّ التفاعل بين الثقافة والبحث العلمي علاقة جدلية معقدة ومتبادلة التأثير. فالثقافة، بمعناها الواسع الذي يشمل المعتقدات والقيم والتقاليد والأنماط السلوكية السائدة في مجتمعٍ ما، تُشكل الإطار الذي ينشأ فيه العلم ويمارس نشاطه بأشکالٍ مختلفة.

 

وفي المقابل، ينتج البحث العلمي معرفة وتقنيات جديدة تُحدث بدورها تحولات عميقة في الثقافة السائدة داخل هذه المجتمعات. هذه العلاقة ليست ذات اتجاهٍ واحد، بل هي حلقة تفاعلية مستمرة تتفاعل إحداها مع الأخری في اتجاهات واسعة وعمیقة. وفي هذا الصدد، يمكن تقديم بعض الأمثلة المهمة على تفاعل الثقافة والبحث وتأثيراتهما المتبادلة.

 

أولاً: تأثير الثقافة على توجهات ومنهجية البحث العلمي

 

1-  تحديد أولويات البحث: تحدد القيم الثقافية والسياق المجتمعي المشكلات التي تُعتبر «جديرة بالبحث و لها أهمیة قصوی من الناحیة الثقافیة». فمجتمع يولي أولوية للطب الوقائي ورفاهية المسنين قد يوجه استثماراته نحو بحوث الشيخوخة والأمراض المزمنة، بينما قد يركز مجتمع آخر على بحوث الدفاع أو التقنيات العسكرية.

 

2- الإطار الأخلاقي والمنهجي: تُشكّل الثقافة المعايير الأخلاقية التي تحكم التجارب (خاصةً في المجالات الحيوية والطبية). كما أن نظرة الثقافة للعالم (هل هي نظرة تركيبية أم تحليلية؟ هل تؤمن بالسببية المطلقة أم بالاحتمالات؟) أو ربما هناك أفكار مختلفة حول الطرق التي تؤثر بها الثقافة على البحث العلمي يمكن أن تؤثر على المناهج العلمية المفضلة.

 

3-  تسهيل أو عرقلة التقدم العلمي: بيّن تاريخ العلم أن الثقافات التي تشجع التساؤل والنقد والانفتاح على الأفكار الجديدة توفر بيئة خصبة للابتكار. في المقابل، قد تؤدي السياقات الثقافية التي تفرض وصاية فكرية صارمة أو ترفض النتائج المخالفة لمعتقدات راسخة إلى إعاقة التقدم العلمي، ولو مؤقتاً.

 

ثانياً: تأثير البحث العلمي على الثقافة

 

1- تغيير النماذج الفكرية والرؤية للعالم: أحدثت الإكتشافات العلمية الكبرى مثل عمر الأرض والنظرية التطورية والنسبية، وبُنية الحمض النووي، ثورات في فهم البشر لأنفسهم وللكون، مما أدى إلى تحولات ثقافية جذرية. لقد غيّر العلم من إدراكنا للزمان والمكان والذات وكل ما نراه حولنا.

 

2- تعديل السلوكيات والممارسات الاجتماعية: أدخلت التقنيات الطبية مثل وسائل منع الحمل وطفل الأنابيب، تغييرات عميقة على مفهوم الأسرة والعلاقات الجنسية. وغيرت وسائل الاتصال والنقل الرقمية مفاهيم الزمان والمكان والخصوصية وأنماط التواصل الاجتماعي.

 

3- خلق مفاهيم وقيم جديدة: ولّد العلم مفاهيم مثل «المسؤولية البيئية» و«الاستدامة» و«الأمن السيبراني»، والتي أصبحت بدورها قيماً ثقافية يُناضل من أجلها. كما عزز المنهج العلمي قيماً مثل الشك المنهجي والدقة والشفافية وقابلية الدحض.

 

التفاعل الديناميكي والتحديات للتفاعل بین الثقافة ومنهجية البحث العلمي

 

لا يحدث هذا التأثير بشكلٍ سلبي أو سلس. هناك تفاعل ديناميكي، وأحياناً صراع، بين «الثقافة العلمية» الناشئة عن البحث العلمي والثقافات التقليدية القائمة. نرى هذا جلياً في النقاشات المجتمعية الحادة حول قضايا مثل التعديل الجيني والذكاء الاصطناعي وتغير المناخ، حيث تتصادم المعرفة العلمية مع المصالح الاقتصادية والقيم الأخلاقية أو الدينية السائدة أو الثقافیة بشکلٍ عام.

 

علاقة تكاملية وحوار مستمر

 

في الختام یمکننا أن نستنتج بأن العلاقة بين الثقافة والبحث العلمي هي علاقة تكاملية وحوار مستمر. لا ينمو العلم في فراغ ثقافي، بل هو نشاط إنساني مغروس في تربة المجتمع وقيمه. وفي الوقت نفسه، فإن العلم ليس مجرد نتاج ثقافي سلبي؛ فهو أحد أقوى عوامل تغيير الثقافة ذاتها. إن الفهم الواعي لهذه العلاقة المتبادلة ضروري لصناع السياسات والعلماء على حدٍ سواء؛ لضمان أن يخدم التقدم العلمي أهداف المجتمع وقيمه الإنسانية، وفي المقابل، لبناء ثقافة مجتمعية داعمة للإستقصاء العلمي الرصين والتفكير النقدي. المستقبل الأفضل ينتج من ثقافة تستوعب روح العلم، ومن علمٍ يتحسس نبض الثقافة والإنسان.

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص