فالخطاب، إذا ما قُرئ خارج إطار المناسبة، يرقى إلى مستوى «بيان عمليات» يعلن انتقال المواجهة من ساحات الاشتباك العسكري المباشر إلى ميدان أكثر تعقيدًا وخطورة: ميدان الوعي والإدراك الجمعي. في هذه المرحلة، لا تعود المعركة صراعًا على الجغرافيا أو موازين القوة التقليدية، بل صراعًا على المعنى، والهوية، والذاكرة التي تمنح المجتمعات قدرتها على الصمود.
حين يؤكد الإمام الخامنئي أننا «تجاوزنا الاشتباكات العسكرية ونعيش في خضم مواجهة دعائية وإعلامية»، فهو لا يصف تحوّلًا تكتيكيًا ظرفيًا، بل يكشف مأزق الاستراتيجية الغربية التي أدركت حدود القوة الصلبة وعجزها عن إخضاع مجتمعات تمتلك وعيًا تاريخيًا وهوية متماسكة. لم يعد الهدف كسر الجيوش أو احتلال الأرض، بل إعادة هندسة الإدراك الجمعي والتحكّم بمنظومة القيم التي تحدّد اتجاه السلوك السياسي والاجتماعي، بما يسمح بإنتاج الهزيمة من الداخل دون كلفة المواجهة المباشرة.
بنية الهيمنة: العدو منظومة لا حدث
يقدّم الخطاب تشخيصًا سياسيًا دقيقًا لبنية الهيمنة الغربية، بوصفها منظومة هرمية متكاملة لا تحالفًا عابرًا أو تكتلًا ظرفيًا. فالولايات المتحدة تقف في مركز القرار والتخطيط، وتدور في فلكها بعض الدول الأوروبية بوصفها أذرعًا سياسية وثقافية، فيما تُكلَّف نخب وظيفية ومنصّات إعلامية بدور التنفيذ والتشغيل داخل المجتمعات المستهدفة. ويتقاطع هذا التشخيص بوضوح مع خلاصات مراكز الأبحاث الأميركية الكبرى، مثل RAND ومعهد واشنطن، التي لا تنظر حسب مزاعمها إلى الجمهورية الإسلامية بوصفها تهديدًا عسكريًا فحسب، بل كـ «تهديد وجودي» للنموذج الليبرالي الغربي، لما تحمله من مشروع هويّاتي ورسالي مضاد. وقد انتهت هذه المراكز إلى قناعة مفادها أن إخضاع إيران مستحيل عبر الغزو العسكري المباشر، وأن الخيار الواقعي الوحيد يكمن في الاحتواء من الداخل عبر تفكيك الهوية الثورية ومحو المفاهيم المؤسسة التي تمنح النظام والمجتمع معنى الاستمرار، أي تحويل الدولة من كيان رسالي يحمل ذاكرة الإمام الخميني (قده سره) والشهداء إلى دولة وظيفية منزوعة المعنى.
وهنا يكشف خطاب الإمام السيد علي الخامنئي أن جوهر الصراع القائم لا يتمحور حول إسقاط أنظمة أو تغيير حكومات، بل حول محو المفاهيم المؤسسة التي تمنح المجتمعات قدرتها على الصمود والاستمرار، وهو ما يتجلّى في ثلاثية واضحة: طمس المفاهيم الثورية، فصل المجتمع عن ذاكرة الثورة، وإخراج الإمام الخميني(رض) من الوعي الجمعي وفي ضوء ذلك، لا تبدو الحرب المعنوية والإعلامية خيارًا ثانويًا، بل الركيزة المركزية في الاستراتيجية المعادية الجديدة. إنها حرب طويلة النفس، تعمل بصمت وبلا ضجيج، تستهدف الروابط الرمزية العميقة التي تشكّل جوهر الصمود، وتسعى إلى قطع الصلة بين المجتمع وذاكرته التأسيسية. هنا تحديدًا، يصبح الوعي هو الجبهة الحاسمة، ويغدو التحكم بالمعنى شرطًا لأي نفوذ سياسي أو جغرافي لاحق.
من القوة الناعمة إلى الاستعمار الإدراكي
في هذا السياق، يقدّم خطاب الإمام الخامنئي قراءة سياسية متقدمة لمفهوم «القوة الناعمة»، التي صاغها جوزيف ناي بوصفها أداة جذب وتأثير غير قسري. غير أن التجربة العملية تكشف الوجه الآخر لهذا المفهوم، حيث تتحوّل القوة الناعمة إلى نمط استعمار إدراكي يستهدف الوعي الجمعي لا القرار السياسي المباشر. عبر السينما، والمنصّات الرقمية، وأنماط الاستهلاك الثقافي، يُشنّ هجوم منهجي لا لإقناع المجتمع بموقف معيّن، بل لتفريغه من أي منظومة قيمية قادرة على إنتاج موقف أصلاً.
ويحدّد الإمام الخامنئي بوضوح الدوائر المعرفية التي تشكّل الهدف المباشر لهذا الهجوم: المعارف الإسلامية، والمعارف الشيعية، والمعارف الثورية. فالمعركة ليست على الطقوس والشعائر، بل على الفهم والتفسير والرؤية الكونية التي تقف خلفها، لأنها وحدها القادرة على تحويل الإيمان إلى موقف، والتاريخ إلى بوصلة، والهوية إلى طاقة فعل سياسي.
يندرج هذا التشخيص في صميم نظريات الهيمنة المعاصرة، ولا سيما مفهوم الهيمنة الثقافية عند أنطونيو غرامشي، حيث تتحقق السيطرة حين تتبنّى المجتمعات منظومة القيم المفروضة عليها بوصفها طبيعية وبديهية. غير أن خطاب الإمام الخامنئي لا يقدّم توصيفًا نظريًا مجردًا، بل قراءة واعية من موقع الطرف المُستهدَف بهذه الهيمنة، كاشفًا أن الصراع لم يعد يدور حول إخضاع الدول بالقوة، بل حول إعادة تشكيل القناعات والرغبات وفصل المجتمع عن ذاكرته وهويته الثورية. ومن هنا، لا يكون الخلاف مع المنظومة الغربية خلافًا فكريًا محايدًا، بل اختلاف موقع داخل البنية العالمية للسلطة، بين مركز يسعى إلى تعميم نموذجه بوصفه معيارًا كونيًا، وطرفٍ يقاوم بوصف الوعي ذاته ساحة السيادة الأخيرة.
التشكيلة المضادّة: السياسة بعقل عسكري
هنا يطرح الإمام الخامنئي جوهر نظريته في المواجهة، مستعيراً المنطق العسكري لإسقاطه على الواقع الإعلامي: “كما في المسائل العسكرية.. يجب أن تتجه التشكيلة الدعائية نحو الاتجاه الذي يستهدفه العدو بالضبط”.
تقوم فلسفة هذه الاستراتيجية على معادلة «التماثل في التركيز والتضاد في الغاية»؛ فإذا صوّبت مراكز التفكير الغربية نيرانها لتشويه مفهوم «المقاومة»، وجب على الجبهة الإعلامية – بكافة نخبها – أن تنتظم في تشكيلة موحّدة تعمل حصراً على تأصيل شرعية هذا المفهوم، متجاوزة بذلك حالة العشوائية وردات الفعل الفردية القاتلة، للانتقال نحو «العمليات النسقية» الاستباقية التي تقرأ خرائط استهداف العدو فتُسارع إلى تحصين الثغور المعرفية قبل اختراقها.
من الدفاع إلى الهجوم: تعرية “النموذج” ولعل النقلة النوعية في هذا الخطاب هي الدعوة لمغادرة مربع “الدفاع المستمر”. فبينما ينشغل الإعلام المقاوم غالباً في “التبيين” لرد الشبهات – وهو أمر ضروري – إلا أنه لا يكفي لحسم المعركة. المطلوب هو الانتقال إلى “الهجوم على نقاط الضعف”.
فالنموذج الأمريكي، رغم بريقه الظاهري، يعاني من تصدعات أخلاقية واجتماعية عميقة (تفكك الأسرة، العنصرية، الخواء الروحي). استراتيجية “التشكيلة المضادة” تقتضي تعرية هذا النموذج، وضرب سردية “الحلم الأمريكي” في مقتل، لإسقاط جاذبيته في عيون الشباب.
عقلانية المواجهة لا “أدلجتها” إن ضرب سردية «الحلم الأميركي» في جاذبيتها الرمزية لا يعني استبدالها بسردية مضادة جوفاء، بل يعني كشف الفجوة بين الخطاب والممارسة، وبين القيم المعلنة والواقع المعيش، بما يعيد الاعتبار للهوية المحلية بوصفها خياراً عقلانياً لا مجرد موقف أيديولوجي.
إذن، الإعلام المقاوم، وفق هذا المنطق، ليس مساحة خطابة عامة، بل أداة اشتباك منظم، ينتقل من الدفاع إلى الفعل، ومن ردّ الشبهات إلى إنتاج سردية سياسية مضادة، تمنح المجتمع الثقة بذاته وبخياراته. فالعشوائية هنا ليست ضعفاً تقنياً فحسب، بل ثغرة استراتيجية قد تؤدي إلى هزيمة إدراكية حتى في ظل توازن عسكري قائم.
المنبر والكلمة: تثبيت الهوية في زمن السيولة الإعلامية
ويعيد تعريف «المديح والرثاء» من طقس وجداني إلى أداة استراتيجية في أدب المقاومة، حيث تتحول الكلمة واللحن والصورة إلى وسائل لصناعة المعنى وترسيخه، ويغدو الفاعل الثقافي في موقع الهجوم الذكي الذي لا يكتفي بحماية الهوية، بل يكشف تهافت النموذج المعادي ويقوّض جاذبيته في ميدان الإدراك. وهنا يعيد الإمام الخامنئي الاعتبار للمنبر، وللكلمة، وللخطاب الثقافي، بوصفها أدوات سياسية فاعلة، لا مجرّد تعبيرات وجدانية. فالمنبر الحسيني، كما المنصّة الإعلامية، يتحوّل إلى قاعدة اشتباك متقدمة في معركة تثبيت الهوية في زمن السيولة الإعلامية والاختراق الناعم. والفاعل الثقافي والإعلامي لم يعد شاهدًا على الصراع، بل جزءًا من بنيته، ومسؤولًا عن حماية الذاكرة الجمعية من التآكل والتشويه.
خاتمة: الوعي بوصفه ميدان الحسم
تكشف كلمة الإمام السيد علي الخامنئي، في محصّلتها النهائية، أنها ليست خطابًا مناسباتيًا ولا توجيهًا ظرفيًا، بل وثيقة استراتيجية لمعركة طويلة الأمد يتقدّم فيها الصراع على الوعي على الصراع على الأرض، وتسبق فيها الهوية معركة السلطة، ويغدو المعنى أسبق من السلاح، والإعلام أعمق أثرًا من الميدان العسكري.
إنها رؤية تؤسّس لقناعة حاسمة مفادها أن من لا يُحسن بناء تشكيلته الإعلامية وفق هدف العدو سيُهزم ولو لم تُطلق رصاصة واحدة، لأن معركة المستقبل تُدار في العقول قبل الجبهات.
ومن هنا يعيد الإمام الخامنئي الاعتبار لـ«الكلمة»—شعرًا ونثرًا وخطابًا—بوصفها سلاحًا استراتيجيًا، ويُعيد تعريف المنبر الحسيني والمنصّة الإعلامية باعتبارهما قواعد اشتباك متقدّمة في حرب تثبيت الهوية في زمن السيولة والاختراق الناعم. فالمنبر ليس مساحة عزاء فقط، ولا الإعلام مجرّد نقل للحدث، بل هما ساحتا مواجهة تُدار فيهما معركة الذاكرة والمعنى. والانتصار في هذه المعركة، كما يؤكد الإمام الخامنئي، صعب لكنه ممكن تمامًا، بشرط أن يدرك كل صاحب قلم أو منبر أنه ليس مجرّد راوٍ أو معلّق، بل فاعل استراتيجي في الدفاع عن الذاكرة الجمعية، مطالب بامتلاك أدوات عصره، من دون أن يتلوّث بثقافة الهيمنة أو «ألحان الطاغوت»، لأن الوعي، في نهاية المطاف، هو ميدان الحسم الأخير.