أمريكا اللاتينية على صفيح الطاقة الساخن...

النفط والليثيوم يُشعلان صراع الهيمنة بين واشنطن وبكين وموسكو

الوفاق: لم تعد الطاقة في أميركا اللاتينية مجرد ملف اقتصادي تقليدي يدور حول النفط والغاز والكهرباء، بل تحوّلت إلى ساحة اختبار جيوسياسي عالمي، حيث تتقاطع مصالح القوى الكبرى وتتصادم استراتيجياتها. الولايات المتحدة، التي تعتبر المنطقة امتداداً لما تسميه «مجالها الحيوي»، تسعى إلى فرض هيمنتها عبر أدوات مالية وسياسية وأمنية، بينما الصين وروسيا تتقدمان بخيارات بديلة تُضعف قدرة واشنطن على احتكار السوق وتفتح أمام العواصم اللاتينية مساحات جديدة للمناورة. هذا الصراع ليس مجرد منافسة تجارية، بل هو معركة على قواعد اللعبة، من يموّل، ومن يبني، ومن يؤمّن النقل، وبأي عملة تُسدّد الفواتير، ومن يملك مفاتيح الصيانة والبيانات.

الطاقة من اقتصاد إلى جيوسياسة

 

الطاقة في أميركا اللاتينية لم تعد مجرد مورد اقتصادي، بل أصبحت أداة نفوذ سياسي وأمني. الولايات المتحدة تنظر إلى النفط والغاز والمعادن في المنطقة باعتبارها جزءاً من أمنها القومي، وتتعامل معها كامتداد مباشر لهيمنتها العالمية. أدواتها التقليدية تشمل الدولار، المنظومة المصرفية، التصنيف الائتماني، العقوبات، وشبكة الشركات العابرة للقارات المتشابكة مع مؤسساتها الأمنية. هذه الأدوات تجعل أي دولة لاتينية رهينة القرار الأميركي، حتى حين تملك مواردها الطبيعية.

 

في المقابل، الصين وروسيا تقدمان مسارات بديلة: تمويل بشروط أقل إملاء، عقود طويلة الأجل، وتكنولوجيا وخدمات لا تمر كلها عبر الغرب. هذا البديل ليس مثالياً، لكنه يضعف قدرة واشنطن على احتكار الخيارات، ويمنح العواصم اللاتينية مساحة للمقايضة بدل الخضوع. وهنا يظهر البُعد الجيوسياسي: الطاقة ليست مجرد سلعة، بل هي أداة لإعادة توزيع النفوذ في النظام الدولي.

 

التحوّل الطاقي العالمي وتعقيد الصراع

 

خطاب المناخ والانتقال إلى الطاقة النظيفة لم يلغِ النفط والغاز، بل أعاد رسم خريطة الطلب وخلق سباقاً موازياً على الليثيوم والنحاس والنيكل، وعلى شبكات الكهرباء والتخزين. أميركا اللاتينية تقف في قلب هذه الخريطة: النفط في فنزويلا والمكسيك والبرازيل، الغاز في بوليفيا والأرجنتين، النحاس في تشيلي وبيرو، إلى جانب مثلث الليثيوم.

 

الولايات المتحدة تريد انتقالاً طاقياً يحفظ مركزيتها الصناعية ويؤمّن المواد الخام بأقل تكلفة سياسية، مع إبقاء الصناعات ذات هوامش الربح المرتفعة داخلها. بينما الصين تريد تأمين مدخلات صناعتها العملاقة وتثبيت أسواق لتكنولوجياتها، وروسيا تريد حماية موقعها في النفط والغاز وتوسيع منافذها التجارية تحت ضغط العقوبات. هذا التحوّل يزيد المعركة تعقيداً بدل أن يخفّفها، ويجعل الطاقة في أميركا اللاتينية محوراً أساسياً في الصراع العالمي.

 

الصين.. من زبون إلى مهندس النفوذ

 

الصين بدأت كزبون ضخم للمواد الأولية، ثم تحوّلت إلى ممول ومنفذ للمشاريع. قروض بنوكها التنموية واتفاقات الدفع بالنفط أتاحت لحكومات محاصرة أو متعطشة للسيولة أن تتنفس خارج شروط صندوق النقد وأسواق السندات. وتوسعت شركاتها في خطوط نقل الكهرباء ومحطات التوليد، وفي بناء الموانئ والسكك التي تخدم صادرات الطاقة والمعادن.

 

هذا الحضور لا يعتمد فقط على المال، وإنما أيضاً على قدرة تصنيع واسعة تخفض تكلفة المعدات، وعلى سرعة الإنجاز، وعلى استعداد لعقود تمتد سنوات طويلة. بكين تُفضّل الاستقرار وضمان التدفقات، وتقلق من تغيير الحكومات أو اضطرابات الشارع، فتطلب ضمانات تجعل الدولة شريكاً لا مجرد مورّد. كما تستخدم اتفاقات مقايضة عملات وتدريب كوادر محلية لتقليل الاعتماد على مزوّدي الخدمات الغربيين. بهذا المعنى، الصين لا تكتفي بشراء الموارد، بل تبني شبكة نفوذ متكاملة تربط الاقتصاد المحلي بسوقها العملاقة.

 

روسيا.. خبرة النفط كسلاح سياسي

 

روسيا تدخل من زاوية مختلفة. قوتها ليست في ضخ القروض، بل في خبرتها بالموارد الهيدروكربونية وشبكات تجارة النفط والتكنولوجيا المرتبطة بالتنقيب في البيئات المعقدة. وهي تستثمر أيضاً في الدبلوماسية الطاقية: شراكات مع شركات وطنية تواجه حصاراً غربياً، وخبراء وتقنيات وخدمات تساعد على إبقاء الحقول تعمل حين تنسحب الشركات الغربية.

 

بالنسبة لواشنطن، أي مساحة لروسيا في نصف الكرة الغربي تُعد اختراقاً أمنياً قبل أن تكون منافسة تجارية، لذلك تستخدم أدوات الردع السياسي والإعلامي والتهديد بالعقوبات ضد أي تعاون معها. وروسيا من جهتها تستفيد من الحاجة اللاتينية إلى تنويع المورّدين، وتعرض ترتيبات مرنة، لكنها تصطدم أحياناً بحدود التمويل وبمخاطر التأمين والنقل. ومع ذلك، فإن حضورها يضيف بُعداً استراتيجياً يتجاوز التجارة البحتة، ويضع واشنطن أمام تحدٍ أمني مباشر.

 

الطاقة كساحة صراع بين واشنطن وبكين وموسكو في أميركا اللاتينية

 

تُظهر تجارب فنزويلا والمكسيك والبرازيل والأرجنتين كيف تحوّل قطاع الطاقة إلى ميدان مواجهة جيوسياسية. في فنزويلا، العقوبات الأميركية خنقت الدولة ودفعت الصين وروسيا إلى لعب دور المنقذ عبر شراء النفط وتوفير معدات، فيما تستحوذ بكين على معظم الإنتاج. في المكسيك، الصراع يتخذ شكلاً قانونياً وتجاريًا، حيث تضغط واشنطن عبر الاتفاقات، بينما تستثمر الصين في الكهرباء والطاقة الشمسية، مانحةً المكسيك هامشاً للتفاوض. البرازيل، بوزنها القاري وحقولها البحرية، تواجه ضغوطاً مالية ودبلوماسية أميركية، لكنها تستفيد من شراكات واسعة مع الصين في البُنية التحتية ومع روسيا في الأسمدة والطاقة. أمّا الأرجنتين، فتعاني من قيود التمويل والضغوط الأميركية نحو الخصخصة، فيما تحاول الصين بناء شبكات تصدير وتُقدّم روسيا خبرة تقنية محدودة. النتيجة أن الطاقة لم تعد مجرد ملف اقتصادي، بل أداة لإعادة تشكيل السيادة والنموذج السياسي في أمريكا اللاتينية.

 

مثلث الليثيوم.. معركة المعادن الجديدة

 

في تشيلي وبوليفيا وبيرو تتجسّد معركة المعادن اللازمة للتحوّل الطاقي. الليثيوم والنحاس هما مفاتيح البطاريات والشبكات ومحرّكات الصناعة الجديدة. الولايات المتحدة تريد تأمين هذه الموارد عبر شركاتها وحلفائها، وتُفضّل نماذج امتياز سريعة تعطيها السيطرة على السلسلة من المنجم إلى المصنع، مع أقل قدر من الالتزام بنقل التكنولوجيا أو التصنيع المحلي.

 

بينما الصين تتقدّم بعقود شراء طويلة، وتمويل مصانع معالجة، وعرض شراكات تسمح بإضافة قيمة محلية، لأنها تحتاج سلاسل توريد مستقرة لصناعاتها. وداخل الدول نفسها صراع بين من يريد استخراجاً سريعاً بأي ثمن بيئي واجتماعي، ومن يطالب بسيادة معدنية وبضرائب أعلى وباستثمار العوائد في التعليم والبنية. وروسيا هنا أقل حضوراً، لكنها تراقب لأنّ نتيجة هذا السباق تُعيد رسم الطلب على نفطها وغازها أيضاً.

 

البُنية التحتية كسلاح نفوذ

 

لا يُمكن فصل الطاقة عن البنية التحتية التي تنقلها وتموّلها. فالموانئ وخطوط السكك وأنابيب الغاز وشبكات الكهرباء العابرة للأقاليم أدوات نفوذ بقدر ما هي أدوات تنمية. الصين تربط تمويل مشروع طاقة ببناء ميناء أو طريق أو محطة تحويل كهربائي، وتخلق تكاملاً يجعل الخروج من العلاقة مكلفاً، بينما يصبح المشروع جزءاً من شبكة أكبر من العقود والديون.

 

أمّا الولايات المتحدة فتحاول احتكار المعايير والبرمجيات وشركات الخدمات التي تدير الحقول وتبيع قطع الغيار، فتجعل الدول مقيّدة تقنياً حتى حين تملك المورد. وروسيا تعمل غالباً عبر الخبرة الفنية وشبكات التجارة التي تبحث عن منافذ جديدة، وأحياناً عبر تعاون عسكري وتقني يضيف طبقة سياسية على الطبقة الاقتصادية.

 

العملة كساحة مواجهة

 

عاد في السنوات الأخيرة سؤال العملة والتسعير إلى الواجهة. حين تُسعّر الطاقة بالدولار وحده، يصبح كل بلد مكشوفاً أمام رفع الفائدة الأميركية ونقص السيولة والعقوبات، فتتحوّل السياسة النقدية في واشنطن إلى أداة للهيمنة على الجنوب.

 

أمّا الصين فتدفع نحو استخدام عملتها في بعض الصفقات، وتبني منصات دفع وتسوية تقلّل الاعتماد على القنوات الأميركية، وتربط ذلك بتوسيع تجارتها واستثماراتها. وروسيا، بحكم تجربتها مع الحصار، تميل إلى ترتيبات مشابهة، وتقبل بمقايضات أو تسويات بعملات محلية، وتبحث عن بنوك وشركات نقل لا تخضع مباشرة للغرب. هذه التحوّلات بطيئة لكنها تفتح ثغرة في جدار الهيمنة بتوفير أرضية للتفاوض على قاعدة تعدد الشركاء.

 

نحو سيادة طاقية لاتينية

 

مستقبل هذا الصراع يتوقف على ثلاثة عوامل مترابطة: اتجاه الطلب العالمي، مسار التحوّل الطاقي، وقدرة أميركا اللاتينية على بناء مشروع تكامل إقليمي. إذا ما ظل النفط والغاز المصدر الأساسي للطاقة في العقدين المقبلين أو حتى جرى التحوّل نحو طاقة نظيفة، ستبقى المنطقة محوراً وستزيد شهية القوى الكبرى على أي حال.

 

في الحالتين، ستواصل الإمبريالية الأميركية محاولة تحويل الموارد إلى أدوات انضباط سياسي لأنها لا تعرف إدارة عالم متعدد الخيارات، وإنما أن تُدير عبر العقاب أو الوصاية. الرد الواقعي توسيع هامش السيادة عبر تنويع الشركاء، وبناء قدرات تصنيع ومعالجة محلية، وتطوير تكامل إقليمي يفاوض ككتلة موحدة وليس كجزر معزولة. آنذاك فقط تتحوّل الطاقة من لعنة تنازع خارجي إلى رافعة للتنمية، ويتراجع دور واشنطن من شرطي على البوابة إلى مجرد طرف من بين مجموعة أطراف.

 

 

المصدر: الوفاق

الاخبار ذات الصلة