التعبئة الصامتة.. ملامحها وأبعادها
التعبئة الصامتة ليست مجرد مصطلح بل واقع ملموس. فرنسا اتخذت قراراً تاريخياً بإعادة التجنيد الإجباري بعد عقود من إلغائه، محددة الفئة العمرية بين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة كبداية للتطبيق، فيما أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون أن الطريقة الوحيدة لتفادي الخطر هي الاستعداد له، مؤكداً أن الحكومة ستمنح كل مجند جديد نحو ثمانمئة يورو شهرياً. ألمانيا بدورها تجاوزت مرحلة التردد، إذ صوّت البرلمان على إرسال استبيانات إلزامية إلى كل من يبلغ الثامنة عشرة اعتباراً من يناير/كانون الثاني 2026، لاستطلاع مدى الاستعداد للخدمة العسكرية، فيما أعدت الحكومة خطة سرية من ألف ومئتي صفحة تحمل اسم «خطة العمليات الألمانية»، تتضمن تفاصيل جمع ثمانمئة ألف جندي من حلف شمال الأطلسي استعداداً لنقلهم نحو شرق القارة. أمّا بريطانيا، فقد ذهبت ببراغماتيتها المعهودة إلى أبعد من مجرد تجهيز الجيش، إذ تعمل على تحديث شامل لدليل الدفاع الحكومي من حقبة الحرب الباردة، ليشمل التعليمات الواجب اتباعها في المستشفيات والمدارس وقاعات العروض الفنية، وكأنها تقول إن الحرب المقبلة لن تكون مجرد مواجهة بين جيوش، بل اختبار شامل لقدرة المجتمع على الصمود.
المواقف الروسية والغربية.. خطاب متقابل
في مقابل هذه التعبئة، يكرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن موسكو لا تسعى إلى مواجهة مع أوروبا، لكنه يضيف أن بلاده مستعدة إذا بدأت أوروبا القتال فعلياً. هذه العبارة، وإن بدت جزءاً من خطاب دعائي، إلا أنها تكتسب خطورتها عند مقارنتها بتصريحات القادة الغربيين. الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته قال في ألمانيا: «الحلفاء هم الهدف التالي، علينا أن نكون مستعدين لحرب مماثلة لتلك التي شهدها أجدادنا». هذا التصريح يضع الحرب في إطار واقعي، لا مجرد فرضية، ويعكس إدراكاً متزايداً بأن المواجهة مع روسيا لم تعد احتمالاً بعيداً بل سيناريو مطروح على الطاولة. وهكذا يتقابل الخطابان: روسيا تؤكد استعدادها، وأوروبا تُعلن أنها في حالة تعبئة، والنتيجة هي تصعيد متبادل يذكّر بأجواء الحرب الباردة، لكن مع اختلاف السياق حيث الحديث اليوم عن حرب واسعة النطاق قد تشمل كل مفاصل المجتمع.
سيناريوهات روسية جديدة
في ديسمبر/ كانون الأول 2025، نشرت تقارير روسية سيناريو يتخيّل حرباً مع أوروبا تبدأ بصواريخ باليستية يتبعها وابل نووي تكتيكي، في إشارة إلى أن موسكو تلوّح باستخدام أسلحة الدمار الشامل كجزء من استراتيجيتها إذا اندلعت مواجهة مباشرة. هذا السيناريو يرفع مستوى الخطورة إلى أقصى درجاته، ويؤكد أن أي حرب محتملة لن تكون تقليدية بل قد تشمل استخداماً غير محدود للأسلحة النووية. روسيا تدرك أن ميزان القوى التقليدي يميل لصالح الناتو إذا ما تم حشد أوروبا والولايات المتحدة معاً، ولذلك تلجأ إلى التلويح بالقدرات النووية التكتيكية كوسيلة ردع، لكنها في الوقت نفسه تفتح الباب أمام احتمالات كارثية قد تجر العالم إلى مواجهة غير مسبوقة.
الإجراءات الأوروبية قبل 2029
إلى جانب الخطط السرية، اتخذت أوروبا عشرين إجراءً عاجلاً استعداداً للحرب قبل عام 2029، شملت تعزيز البنية التحتية، رفع الجاهزية الطبية، وتوسيع القوات المسلحة، إضافة إلى إطلاق مشروع «المرونة الأوروبية من الفضاء» لإنشاء منظومة فضائية عسكرية متعددة المهام تشمل المراقبة والملاحة والاتصالات والاستطلاع. هذه الإجراءات تعكس إدراكاً بأن الدفاع عن الأراضي الأوروبية لم يعد مسؤولية الناتو وحده، بل مسؤولية جماعية تتطلب تعبئة شاملة على المستويين العسكري والمدني. الاتحاد الأوروبي أطلق خطة «إعادة تسليح أوروبا/الاستعداد لـ2030»، برافعة مالية تصل إلى ثمانمئة مليار يورو، مدعومة بأدوات إقراض بقيمة مئة وخمسين ملياراً، وهو ما يعكس أن أوروبا لم تعد ترى الدفاع كعبء، بل كضرورة وجودية.
التحولات الاقتصادية والإنفاق العسكري
من الناحية الاقتصادية، تشهد أوروبا تحولاً جذرياً في موازنات الدول. لم يعد مبدأ إنفاق اثنين في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع سقفاً، بل صار حداً أدنى. ألمانيا أنشأت صندوقاً خاصاً بقيمة مئة مليار يورو للنفقات العسكرية، بولندا تهدف إلى رفع نسبة الإنفاق العسكري إلى أربعة فاصل سبعة في المئة وتدريب نصف مليون جندي، ودول البلطيق تسعى إلى رفع الإنفاق العسكري إلى خمسة في المئة. هذه الأرقام تعكس أن أوروبا مستعدة لتحويل مواردها بعيداً عن قطاعات أخرى مثل الصحة والتعليم والبيئة، في سبيل ضمان أمنها.
البُنية التحتية والتحصينات
التعبئة لا تقتصر على الإنفاق العسكري وتجهيز الجيوش، بل تشمل بناء التحصينات وتهيئة الملاجئ. الكاتب لوغانو أشار إلى أن القارة تشهد إعادة تشغيل آلة الحرب بالسرعة المطلوبة، لكن قابلية التنفيذ ما زالت موضع شك. إعادة تهيئة الملاجئ تعني أن أوروبا تستعد لسيناريو ضربات مباشرة على أراضيها، وهو أمر لم يكن مطروحاً بجدية منذ عقود. هذا يعكس إدراكاً بأن الحرب الحديثة لا تقتصر على الجبهات العسكرية، بل تشمل قدرة المجتمعات على الصمود في مواجهة الأزمات، وهو ما يجعل التعبئة الراهنة شاملة في أبعادها العسكرية والمدنية على حد سواء.
التداعيات على الداخل الأوروبي
هذه التعبئة الصامتة تحمل تداعيات عميقة على الداخل الأوروبي. إعادة التجنيد الإجباري تعني إعادة تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع، وتحويل الموارد الاقتصادية نحو الدفاع على حساب قطاعات أخرى، وتعزيز النزعة القومية والشعور بالخطر المشترك. كما أن هذه التعبئة قد تؤدي إلى تغييرات في الثقافة السياسية، حيث يصبح الأمن والدفاع أولوية قصوى، على حساب قضايا أخرى مثل البيئة أو الحريات المدنية. وفي الوقت نفسه، قد تثير هذه السياسات جدلاً داخلياً حول جدواها، خاصة في ظل وجود تيارات سياسية واجتماعية ترى أن التركيز على الحرب قد يقوض أسس الديمقراطية الأوروبية.
التداعيات على النظام الدولي
على المستوى الدولي، تعبئة أوروبا تعني إعادة تشكيل ميزان القوى العالمي. الناتو سيُعزز موقعه كتحالف دفاعي عالمي، لكن ذلك سيزيد الضغوط على روسيا، وربما يدفعها إلى مزيد من التصعيد. كما أن هذه التعبئة قد تؤدي إلى سباق تسلح جديد، يعيد العالم إلى أجواء الحرب الباردة، لكن في سياق أكثر تعقيداً بسبب تعدد القوى الفاعلة مثل الصين والهند. هذا يعني أن أوروبا لا تواجه فقط خطر الحرب مع روسيا، بل خطر الدخول في نظام عالمي جديد يتسم بالمنافسة الشرسة بين القوى الكبرى، حيث يصبح الأمن العسكري هو العامل الحاسم في تحديد مكانة الدول.
ختاماً، أوروبا اليوم أمام مفترق طرق تاريخي. التعبئة الصامتة لم تعد مجرد استعدادات دفاعية، بل تحولت إلى مشروع شامل يعيد صياغة السياسات العسكرية والاقتصادية والاجتماعية. ومع دخول روسيا على خط التصعيد النووي التكتيكي، وإطلاق أوروبا عشرات الإجراءات الاستراتيجية قبل 2029، تبدو القارة العجوز وكأنها تستعد لسيناريو مواجهة وجودية. الماضي يطرق أبواب أوروبا مجدداً، لكن هذه المرة في سياق أكثر خطورة وتعقيداً، حيث الحرب المحتملة قد لا تكون مجرد مواجهة تقليدية، بل اختبار شامل لقدرة المجتمعات والدول على الصمود أمام أخطر التحديات منذ عقود.