معركة المعنى.. حين تصبح الهُويّة مقاومة في خطاب الإمام الخامنئي

في عصرٍ تتكثّف فيه أدوات التأثير الناعم، وتتشابك فيه حدود الترفيه بالتوجيه، والخبر بالتلاعب، لم تعد مسألة الهوية شأناً أخلاقيًا أو ثقافيًا فحسب، بل باتت أحد ميادين الصراع الحضاري الأساسية.

* المقدّمة:

فالفضاء الرقمي بما يحمله من صور وسرديات وإيقاع متسارع، لا يهدف دائمًا إلى الإقناع بقدر ما يسعى إلى إنهاك الوعي وإضعاف القدرة على التمييز. في هذا السياق المعقّد، يكتسب خطاب قائد الثورة الاسلامية الإمام السيد علي الخامنئي في لقائه مع القائمين على مؤتمر تكريم شهداء محافظة ألبرز أهمية خاصة، بوصفه محاولة واعية لإعادة قراءة موقع الشباب في معادلة الصراع، وكسر الصورة النمطية التي تُقدَّم عن الأجيال الجديدة باعتبارها أجيالًا منقطعة عن قيمها أو منهزمة أمام سطوة الإعلام العابر للحدود.

 

* تفكيك سردية «الجيل الضائع»

ينطلق خطاب الإمام الخامنئي من قلب المعركة الرمزية، رافضًا التعامل مع الشاب الإيراني بوصفه ضحية سلبية للطوفان الإعلامي، ومؤكدًا أنه فاعلٌ مقاوم داخل هذا الفضاء لا خارجه. فالإمام لا ينكر حجم الأدوات التقنية ولا كثافة التأثير، لكنه يرفض الربط التلقائي بين وفرة المحتوى والانهيار القيمي. ويقدّم في المقابل نموذجًا مضادًا لشابّ يحافظ على صلاته وشعائره وارتباطه بالمجتمع الديني رغم هذا الطوفان، لا بمعزل عنه، ما يحوّل الممارسة الدينية من عادة اجتماعية موروثة إلى فعل اختيار واعٍ وموقف وجودي في وجه التذويب. هنا تُفهم الهوية بوصفها فعلًا متجددًا يُعاد إنتاجه يوميًا في صراع لم يعد يدور حول الأرض وحدها، بل حول الوعي والمعنى، وحول قدرة الإنسان على أن يبقى كائنًا يسأل ويختار، لا مجرد مستهلك للحظة عابرة. وبهذا المعنى، يخرج الدين من دائرة السائد إلى دائرة المقاومة الهادئة، وتتحوّل الهوية من معطى مفروض بالبيئة إلى إنجاز يُنتزع بالوعي، وكل ما يُنتزع بالوعي يكون أرسخ وأبقى مما يُمنح بالعادة.

 

* الشهادة كفعل معنى في زمن تفكيك البوصلة

في قلب خطاب الإمام الخامنئي، تُستعاد الشهادة لا كذكرى عاطفية ولا كحدثٍ منقضٍ في سجلّ التاريخ، بل كفعل معنى يؤسّس للإنسان في لحظة قصوى من الوعي. فالإمام يرفض اختزال اندفاع الشباب إلى ساحات الخطر في انفعالٍ عابر، لأن هذا الاختزال يُفرغ التضحية من بعدها الأخلاقي والعقلي، ويحوّلها إلى مجرّد حالة وجدانية قابلة للاستهلاك. فالشهادة، في هذا الفهم، ليست موتًا مجيدًا فحسب، بل حياة مكثّفة تتقدّم فيها القيم على الغرائز، والواجب على الراحة، والاختيار الحر على الأمان المضمون؛ وهي لحظة التقاء الشوق إلى الله مع الإحساس بالتكليف، والوعي بوجود عدو يتربّص بالأرض والذاكرة والهوية. ومن هنا خطورتها وقوّتها معًا، لأنها تكشف قدرة الإنسان على تجاوز ذاته حين يمتلك بوصلة المعنى. لذلك، فإن إحياء ذكرى الشهداء لا يُفهم كطقسٍ لتكريم الماضي، بل كمعركة ضد الفراغ المعنوي في الحاضر والمستقبل؛ فالذاكرة إن لم تتحوّل إلى وعي تصبح عبئًا، وإن لم تُقدَّم بلغة حيّة تفقد قدرتها على الإنجاب. وفي زمنٍ تُخاض فيه الحروب بتفكيك الأسئلة الكبرى وإرهاق الوعي لا بالسلاح وحده، تتحوّل الشهادة إلى آخر خطوط الدفاع عن الإنسان بوصفه كائنًا حرًّا قادرًا على التمييز، لا نسخة قابلة للاستبدال في عالم يريد للثبات أن يبدو تخلّفًا، وللهوية أن تُصوَّر عبئًا، وللمعنى أن يُمحى بصمت.

 

* من إحياء الذكرى إلى صناعة الأثر

الذاكرة، في منطق هذا الخطاب، ليست محفوظات تُتلى ولا صورًا تُعلّق ولا أسماءً تُكرَّر، بل طاقة حيّة إمّا أن تتحوّل إلى وعي فاعل، أو تنقلب عبئًا فاقد الأثر. من هنا، لا يُفهم إحياء ذكرى الشهداء بوصفه فعل حنين إلى الماضي، بل كفعل مقاومة ضد النسيان المصنَّع؛ ذلك النسيان الذي لا تصنعه الأيام، بل تُنتجه منظومات ثقافية تهدف إلى تفريغ الأفعال الكبرى من قدرتها على الإلهام وتحويل البطولات إلى قصص منتهية الصلاحية. وفي هذا السياق، يقدّم الإمام الخامنئي نقدًا هادئًا وعميقًا لإدارة العمل الثقافي، مؤكدًا أن إقامة المراسم، وإنتاج الكتب، وصناعة الأفلام، لا تكفي بذاتها، ما لم تُستكمل بمرحلة المتابعة والتقديم الفني وضمان الوصول والتلقّي، لأن القيمة الحقيقية لأي جهد ثقافي لا تُقاس بنيّته، بل بقدرته على التأثير والاستمرار. هكذا يتحوّل العمل الثقافي من نشاط مناسباتي إلى معركة وعي متكاملة.

 

* الشباب والوعي بالعدو.. من الدفاع إلى الاستباق

في هذا الأفق، تتجلّى إحدى أهم أطروحات الخطاب: المشكلة ليست في الشباب، بل في الخطاب الموجَّه إليهم. فالشباب ليسوا فراغًا قيميًا ولا كتلة خاملة، بل طاقة مستعدّة، غير أن هذه الطاقة إذا لم تجد لغة صادقة تؤطّرها، قد تتبدّد أو تُستثمر ضد ذاتها. لذلك، يبرز التحذير من أخطر أشكال التهديد، وهو القطيعة الداخلية بين القيم ولغتها، بين الذاكرة ومن يُفترض أن يرثها. ويشدّد الخطاب على أن أعظم أشكال المقاومة اليوم ليست صاخبة، بل صامتة وعميقة: شابّ يحافظ على صلاته في زمن التشويش، شابة تتمسّك بعفافها في ثقافة الاستباحة، طالب يقرأ في عصر الصورة السريعة. هذه الأفعال، رغم بساطتها الظاهرة، هي مواقف وجودية تعبّر عن وعي متقدّم بالمسؤولية، وعن انتقال من الدفاع إلى الاستباق في مواجهة من يتربّص بالوطن والثقافة والتاريخ، لأن الفراغ لا يبقى فارغًا، بل تملؤه سرديات مضادّة تُفرغ الانتماء من مضمونه إن لم يُحصَّن بالمعنى.

 

* البوصلة ما تزال حاضرة

يخطئ من يظنّ أن الأجيال الجديدة فقدت بوصلتها؛ فالبوصلة ما تزال حاضرة، لكن الخرائط مشوَّشة. الشباب ليسوا فراغًا قيميًا، بل إمكانية مفتوحة، غير أن هذه الإمكانية حين لا تجد خطابًا صادقًا يُحسن مخاطبتها، تتحوّل إلى طاقة مهدورة أو تُستثمر ضد ذاتها. وحين يُخاطَب الجيل بلغة ميتة، يُتَّهم بالموت، وحين يُطالَب بالحمل دون أن يُمنح المعنى، يُتَّهم بالتخلّي. لذلك لا يتردّد خطاب الإمام الخامنئي في الإشارة إلى تقصير بعض المؤسسات الثقافية والرسمية، مؤكدًا أن الخلل لا يكمن في استعداد الشباب، بل في ضعف الخطاب الموجَّه إليهم أو انفصاله عن لغتهم وواقعهم. إنه نقد إصلاحي واضح يدعو إلى تجاوز منطق الشعارات نحو مشروع واعٍ لتبيين القيم التي صنعت تجربة الشهادة، بلغة مفهومة وقادرة على الإقناع والتأثير.

 

* الهُويّة الدينية كإنجاز يومي

في هذا السياق، تُعاد صياغة الهوية بوصفها إنجازًا يوميًا لا ميراثًا جاهزًا. فالهوية لم تعد ما نولد به، بل ما نختاره أن نحمله رغم التيارات الجارفة، موقفًا يُدفع ثمنه بالوعي والصبر لا بالعادة. الثبات هنا ليس جمودًا ولا انغلاقًا، بل يقظة دائمة ومعيار داخلي يمنع الذوبان في عالم يعيد تعريف القيم وفق منطق السوق والصورة. ومن أكثر مقاطع الخطاب دلالة توصيف الشاب الذي يحافظ على عبادته في هذا العصر بأنه يحمي هويته ويعزّزها، لأن هذا الفعل لم يعد تكرارًا اجتماعيًا، بل اختيارًا واعيًا في وجه التذويب. هكذا تتحوّل الهوية الدينية إلى جهد مستمر يتطلّب وعيًا ومثابرة، ويغدو تقدير هذا الجهد واجبًا ثقافيًا وسياسيًا، لا مجرّد ثناء أخلاقي عابر.

 

* خاتمة: معركة الوعي لم تُحسم بعد

حين تُهزم الجيوش يمكن إعادة بنائها، وحين تُدمَّر المدن يمكن ترميمها، لكن حين يُهزم المعنى يسقط كل شيء بلا صوت؛ فالمجتمعات التي تحتفظ بمعناها، حتى وهي محاصَرة، تمتلك مستقبلًا، بينما تلك التي تفقده، ولو امتلكت كل أدوات القوة، تعيش فراغًا مؤجّلًا. من هنا، لا يطرح خطاب الإمام الخامنئي سؤال الانتصار بوصفه معادلة عسكرية أو سياسية فحسب، بل يعيد صياغته كسؤال وجودي: كيف نبقى نحن في عالم يريدنا نسخة بلا روح؟ ليس تفاؤلًا إنكاريًا يتجاهل الأزمات والضغوط والاختلالات الواقعية، ولا تفاؤلًا عاطفيًا يقوم على الأمنيات أو الشعارات، بل تفاؤل واعٍ بالثمن، ومدرك لحجم التحديات وتعقيد الصراع. أي أنه تفاؤل يعرف أن معركة الوعي طويلة، ويُدرك وجود حرب ناعمة ممنهجة، ويعترف بإمكان الفشل والانكسار إن أُهملت الشروط. لكنها تراهن في المقابل على استعدادات حيّة وطاقة شبابية قادرة على حمل المشروع إذا أُحسن توجيهها. فالتحدّي الحقيقي لا يكمن في مواجهة العدو الخارجي وحده، بل في نقل المعنى، وصيانة الذاكرة، وتحويل القيم من تراث محفوظ إلى وعي فاعل يقود المستقبل. في هذا السياق، يغدو الحفاظ على الهوية الدينية للشباب مسألة سيادية بامتياز، لأن المجتمع الذي يحتفظ بمعياره الأخلاقي والروحي لا يُهزم بسهولة. وهنا تحديدًا يصبح الشابّ — لا بوصفه عمرًا، بل وعيًا — ساحة الصراع ومفتاح الخلاص، وحامل الأفق الأخير في معركة لم تُحسم بعد.

المصدر: الوفاق/خاص/ د.أكرم شمص/