إزاحة الستار عن كتاب «مشق البيانو الإيراني»

البيانو الإيراني.. بين التراث والحداثة

الكتاب الجديد لا يقتصر على التوثيق، بل يمثل أيضاً دعوة إلى إعادة التفكير في علاقة الموسيقى الإيرانية بالحداثة.

الموسيقى الإيرانية، بما تحمله من مقامات وألوان صوتية، شكّلت عبر التاريخ جزءاً أصيلاً من الهوية الثقافية للشعب الإيراني. فهي ليست مجرد فن للمتعة، بل وسيلة للتعبير عن الروح الجماعية، وعن علاقة الإنسان بالزمان والمكان.

 

ومع دخول البيانو إلى إيران في أواخر القرن التاسع عشر، بدأت هذه الآلة الغربية تتفاعل مع الروح الشرقية، لتنشأ مدرسة خاصة تُعرف اليوم بـ «البيانو الإيراني». هذه المدرسة لم تقتصر على تقليد الغرب، بل أعادت صياغة البيانو بما يتناسب مع المقامات والإيقاعات المحلية، لتُصبح أداة للتعبير عن الأصالة بروح حديثة.

 

جاء هذا المقال بمناسبة الكشف عن كتاب «مشْق البيانو الإيراني» في إطار الليلة الثانية والخمسين من أمسيات الموسيقى في مجمّع أرسباران الثقافي بطهران. الحدث، الذي تخلله عروض موسيقية وعزف ثنائي على البيانو والتمبك، أعاد تسليط الضوء على أهمية البيانو في الموسيقى الإيرانية، وعلى الجهود البحثية والفنية المبذولة لإحياء هذا التراث وتوثيقه للأجيال الجديدة. الكتاب، الذي حرّره وأعاد صياغته محمدرضا أميرقاسمي بالتعاون مع دار نشر «خنياكر»، يُعد محاولة جادة لإعادة قراءة تاريخ البيانو الإيراني وتقديمه في صورة معاصرة.

 

تاريخ البيانو في ايران

 

دخل البيانو إلى إيران قبل أكثر من 120 عاماً، لكنه لم يترسخ إلا مع رواد كبار مثل مرتضى محجوبي وجواد معروفي، الذين ابتكروا أساليب عزف خاصة تتماشى مع المقامات الإيرانية. هؤلاء الرواد لم يكتفوا باستخدام البيانو كآلة غربية، بل أعادوا تشكيله ليصبح جزءاً من الهوية الموسيقية الوطنية.

 

في العقود الأخيرة، عاد الإهتمام بالبيانو الإيراني لأسباب عدة:

 

انتشاره كآلة متاحة في البيوت والمعاهد الموسيقية.

 

حاجة الموسيقى الإيرانية إلى الأصوات المتعددة التي يوفرها البيانو، بما يتجاوز الطابع الأحادي لبعض الآلات التقليدية.

 

الرغبة في التوثيق والبحث، حيث يسعى الباحثون إلى إعادة قراءة التراث وتقديمه للأجيال الجديدة.

 

كتاب «مشْق البيانو الإيراني» يُبرز هذه الجهود، إذ يتضمن لأول مرة «رِنك» كامل لمحمدصادق‌خان سرورالملك، ويعيد تقديم أعمال تاريخية بروح حديثة. تصميم غلاف الكتاب نفسه إستلهم من عناصر معمارية وزخرفية إيرانية مثل نوافذ الأُرُسي واللون الفيروزي وزخارف القاجار، ليؤكد أن البيانو الإيراني ليس مجرد آلة، بل جزء من الثقافة البصرية والسمعية معاً.

 

الآلات الغربية والموسيقى الإيرانية

 

الحدث الأخير لم يكن مجرد أمسية موسيقية، بل مناسبة لإعادة طرح النقاش حول مكانة الآلات الغربية في الموسيقى الإيرانية. الباحث شهاب منا أشار إلى أن ما نعتبره اليوم «أصيلاً» هو في الحقيقة نتاج عملية تاريخية طويلة من التفاعل والتطور. فكما أن آلة «التار» أو «السنتور» لم تكن موجودة منذ آلاف السنين، فإن البيانو أيضاً يمكن أن يصبح جزءاً أصيلاً من الثقافة المحلية إذا ما تم توظيفه بشكل صحيح.

 

الباحث ميرعلیرضا میرعلي‌ نقي أكد على أن أهمية البيانو الإيراني تجددت في العقدين الأخيرين، مع عودة الإهتمام بمدرستي محجوبي ومعروفي، فيما شدد سجاد بورقناد على أن الموسيقى الإيرانية لم تكن أحادية الصوت دائماً، بل جرّبت التعدد الصوتي، وأن الكتاب الجديد يكشف عن نماذج تاريخية قيّمة في هذا المجال.

 

توثيق فني

 

الكتاب الجديد لا يقتصر على التوثيق، بل يمثل أيضاً دعوة إلى إعادة التفكير في علاقة الموسيقى الإيرانية بالحداثة. فهو يفتح المجال أمام الباحثين والفنانين لإستكشاف إمكانات البيانو في التعبير عن المقامات الشرقية، ويؤكد أن الفن قادر على التكيّف والتطور دون أن يفقد هويته.

 

البيانو الإيراني لم يعد مجرد آلة مستوردة، بل أصبح جزءاً من المشهد الموسيقي الوطني، يحمل في نغماته مزيجاً من الحداثة والأصالة. إعادة الإهتمام به اليوم، كما جسّدها حدث الكشف عن كتاب «مشْق البيانو الإيراني»، تمثل خطوة نحو الحفاظ على التراث الموسيقي وتطويره، ليظل قادراً على التعبير عن روح الثقافة الإيرانية في زمن يتطلب تواصلاً عالمياً.

 

وهكذا، يظل البيانو الإيراني شاهداً على قدرة الفن على التكيّف، وعلى أن الموسيقى تبقى لغة مشتركة تتجاوز الحدود، تربط بين الماضي والحاضر، وتفتح آفاق المستقبل.

المصدر: الوفاق